كان يوماً بطيئاً مرت به الثواني والدقائق بسرعتها الدنيا وكأنها تريد أن تقول لنا ابقوا معه لفترة ولا تتركوه وحيداً، مثلما لم يترككم فولكهارد حينما كنتم تستمعون لأحاديثه ومغامراته مع رؤوساء وزعماء دول المنطقة وكذلك مع أشجان ومآسي الحروب التي كانت تلتحم آمال الشعوب وطموحاتهم خلال العقود الماضية. فارقنا اليوم “المعلم” الذي نال هذه الصفة بكل جدارة في وقت لم يتبقَ لهذه المهنة أية اعتبار في ظِل تكاثر الصحفيين ومن حمل الكاميرا وكتب كلمتين وراح ينعت نفسه بالصحفي والإعلامي.
لم يكن بذاك الصحفي الذي يسعى لعمل حوار هنا ولقاء هناك من أجل الشهرة والصيت، مهرولاً خلف أحداث وقت في مكان أو بلد ما، بقدر ما كان يكتب عن أمال الدول وآلام الشعوب في الخروج من الدوامة التي تعيشها. عاش بين شعوب المنطقة متنقلاً من بلد لآخر محاولاً اصال صوتهم للعالم، بأنه ثمة شعب هنا يعمل كل ما في وسعه من أجل أن يحيا بكرامة وعزة النفس. وهذا ما كان يبحث عنه حيث لم يجدها في موطنه الأصلي الذي ولد فيه، ولذا أختار موطناً يعيش فيه وعليه، يحتضنه ويدفئه حينما يكون وحيداً باحثاً عن الحقيقة.
أصرّ أن يعيش في مصر من دون غيرها من الدول لما رآه فيها من أمور لم يجدها في غيرها من الدول الشمالية التي لطالما كانت وما زالت تتغنى بأنها بلد الحريات والحقوق. لكن المعلم “فولكهارد فيندفور” كان يبحث عن أشياء أخرى أهم من تلك، ألا وهي التاريخ والمدنية والحضارة والثقافة التي هي أصل التطور الإنساني والتي لولاها لما كانت هناك حقوق وحريات وقوانين.
رسائل كثيرة كان يبعثها أثناء حياته لكل ما عاشره وجلس معه ولو لبرهة صغيرة. لا تشبع من الإصغاء إليه ولكل كلمة يقولها ولكل ابتسامة تتخلل جمله المترابطة وبلكنته المصرية اللطيفة. وكان مرجعاً لكل من يبحث عن خفايا اعتلاء بعض الزعماء والرؤوساء للعرش والسلطة، بعيداً عن اللغة الرسمية التي تقال من حكوماتها ومؤسساتها وكتبها التعليمية.
اليوم وأثناء مراسيم دفنه الذي حضره أصدقاء المعلم ومحبيه وكذلك حضر محمد إمام مدير المركز الصحفي للمراسلين الأجانب بالهيئة العامة للاستعلامات، حاول أن يبعث المعلم “فولكهارد” رسالته الأخيرة لنا والتي مفادها “أيها المصريون وشعوب المنطقة، أحبوا واعشقوا وطنكم ولا تستغنوا عنه مهما كانت العواقب. الوطن هو الحضن الذي سيحميكم من غدر الزمن، والانتماء إليه هو انتماء للتاريخ والثقافة. لا تثقوا بدول الشمال وأضوائها ولا تبهركم وتعميكم اعلاناتها الاستهلاكية التي تعمل على تقزيم الانسان”. هذا ما فهمته من المعلم الذي رحل وترك خلفه وصيته لنا كي نضعها حلق في آذاننا. رغم أنه كان مريضاً ويعاني الكثير منه منذ فترة طويلة، إلا أنه لم يفكر يوماً بأن يذهب إلى ألمانيا كي يدخل مشافيها ويتعالج هناك، بل أصرَّ أن يتم علاجه في المشافي المصرية. وكذلك لم يطلب في وصيته بأن يتم دفنه في بلده الذي ولد فيه، بل على العكس أصرَّ أن يدفن في البلد الذي عاش فيه أكثر من ستون عاماً. كذلك لم يطلب بأن يتم دفنه بجانب أفراد عائلته، بل أصر بأن يدفن بجانب أصدقائه من كل الجنسيات في مصر.
هذه كانت رسالته لنا نحن الأحياء من معلم تم دفنه وليودعنا وعينه علينا في تنفيذ الوصية والموت أجمل في أحضان الوطن ليس الذي ولدت فيه، بل الذي أحسست فيه بأنك انسان.
توفي المعلم “فولكهارد” عن عمر يناهز 83 عامًا. وخاض مسيرة صحفية طويلة بمصر، وعمل مراسلاً لصحيفة “دير شبيجل” الألمانية في القاهرة منذ 1974، وبخبرته الممتدة لأكثر من 40 عامًا من الإقامة والعمل بمصر، وما يزيد على 50 عامًا كصحفي، بات من أبرز الخبراء في شؤون الشرق الأوسط، وله مقال ثابت بالمجلة الألمانية الشهيرة “دير شبيجل”، يتناول فيه قضايا المنطقة.
حضر فيندفور إلى مصر وهو في سن 17 عامًا، عام 1955، عقب وفاة والده في الحرب العالمية الثانية، والتحق بالمدرسة الألمانية بالقاهرة، وحصل على الثانوية العامة الألمانية، ثم حصل على الثانوية العامة المصرية، مدفوعًا بشغفه لتعلم العربية، ثم التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تقدم لدراسة اللغات الشرقية بكلية الآداب بجامعة عين شمس، فدرس اللغة الفارسية والتركية.
وكانت بدايته في العمل الإعلامي من منبر الإذاعة المصرية، مذيعًا في القسم الأوروبي. وحينها، تعرف بالرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة، في أثناء إلقائه بيان الأول من نوفمبر الثوري من إذاعة صوت العرب، قبل أن يصبح رئيسًا للجزائر.
كما عمل مترجمًا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وارتحل فيندفور إلى بيروت للعمل بالمعهد الألماني للدراسات الشرقية، ثم عاد إلى ألمانيا ليعمل مسؤول القسم العربي في الإذاعة الألمانية، قبل أن ينضم للعمل بمجلة “دير شبيجل” الألمانية، وأسس مكتب المجلة ببيروت عام 1974، وعايش الحرب الأهلية، ومر بتجربة الاختطاف، ثم عاد لمصر ليؤسس مكتب “دير شبيجل” ليواصل فيه العمل على مدار 4 عقود.
وخلال حقبة السبعينات، أجرى عدة حوارات مهمة مع الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، ورافقه في رحلته إلى القدس، كما أجرى معه ما يزيد على 22 ساعة من الحوارات، كان آخرها حواره معه مطلع أكتوبر عام 1981، قبل وفاته بـ 4 أيام. وكذلك كان من بين القلائل الذين صعدوا الطائرة الفرنسية التي أقلت الخميني من فرنسا إلى طهرات قبيل الثورة الإسلامية.
وخلال أحد حواراتي معه أفصح لي أنه التقى الزعماء الكرد أيضاً وأجرى معهم الكثير من الحوارات عن القضية الكردية وصراع الكرد من أجل نيل حريتهم إن كان في العراق أو تركيا. فقد التقى الراحل مام جلال الطالباني وكذلك الملا مصطفى البارزاني بالإضافة للسيد عبد الله أوج آلاف الذي التقاه في البقاع في لبنان. واتفقنا على أن نعمل حوار مطول معه حول هذه اللقاءات التي أجراها مع القادة الكرد وانطباعه عنهم ورؤيته للقضية الكردية وكيفية حلها. لكن للتاريخ والحياة دورتها وسيرورتها الخاصة بها وهي لن تنتظرنا، وكان المرض العضال والموت والدفن هو آخر لقاء لنا مع بعض. وأخذ من الأسرار التي لم يبوح بها لأحد معه، ليتركنا نبحث نحن عن شيفرات حلها.