الحدث – القاهرة – محمد الروبي
أحيى عدد من المثقفين من جنسيات مختلفة في العاصمة المصرية القاهرة، مساء أمس، ذكرى مرور 11 عاماً على اغتيال المناضلة الكردية البارزة سكينة جانسيز أيقونة العمل النسائي والوطني في الشرق الأوسط وأوروبا وإحدى مؤسسات حزب العمال الكردستاني
وقد عقدت بهذه المناسبة حلقة نقاشية موسعة استضافها مركز آتون للدراسات بالمشاركة مع جمعية مؤنث سالم وبمشاركة شخصيات سورية ومصرية وعراقية وسودانية وأرمنية، وعدد من الباحثيين والإعلاميين الذين غمرهم الإعجاب بشخصية سكينة جانسيز أو “الست سكينة” كما تحدثوا عنها، لما قامت به من دور بطولي ونضالي يعد نموذج للعمل النسائي والثوري في ظل وجود تحديات وظروف صعبة تتعلق بالمرأة وبالقضية الكردية في تركيا.
أيقونة إنسانية وطنية
وقد أدار الحلقة النقاشية الدكتور محمد رفعت الإمام أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، والذي أكد أن السيدة سكينة جانسيز هي بكل المعايير والمقاييس أيقونة وطنية وإنسانية تمثل البحث عن الحرية والعدل، ونموذج وهب عمره للبحث عن الحرية وتكريس الهوية والنضال ضد كل ما هو استبداد.
وأكد كذلك أنها شخصية متداخلة قوية واضحة في مبادئها وأفكارها وسلوكياتها، ولا يوجد تناقض بين سيرتها ومسيرتها وأفكارها، موضحاً أنه لم يلحظ في كتابها المهم “حياتي كلها صراع” أية تناقضات بين سلوكها وقناعاتها، مضيفاً أنه عشق النضال في شخصها والحرية في ممارساتها، وأنها قد جذبته بقدرتها على نقل الأفكار والمعاني بدقة شديدة ومتناهية جداً.
وشدد “الإمام” على أن “الست سكينة” – كما أسماها – هي حالة من الدوائر المتداخلة التي يصعب أن يتم فصل دائرة عن دائرة فيها، ورغم عمرها القصير واغتيالها، إلا أن عمرها بفكرها ونضالها سيبقى أطول بكثير ممن اغتالوها سواء كانوا أنظمة أو حكومات أو دول، وقد تلى تقديمه للحلقة عرض فيلم وثائقي يستعرض سيرة سكينة جانسيز وأبرز المحطات في حياتها منذ مولدها وحتى اغتيالها في التاسع من يناير عام 2013 في العاصمة الفرنسية باريس.
وكما ذكر “الإمام” أهمية الكتاب ودقة الملاحظات الموجودة فيها بعين المرأة وعدستها وخاصة أن الكاتبة إمرأة والمترجمة إمرأة والمتحدثين اثنين في الحلقة النقاشية من السيدات المصريات الكاتبات والصحفيات القديرات.
عرض فيلم وثائقي
وتم عرض فيلم وثائقي عن حياة الخالدة سكينة جانسيز وحياتها ونضالاتها ومختلف مراحل حياتها بدء من نشأتها وتحدياتها العائلية والمجتمعية والسلطوية إلى غمرة نضالها وسجنها ومقاومتها التي لامثيل لها كما تطرق الفيلم لعملها في الشرق الأوسط وأوروبا وأخيراً عملية اغتيالها من قبل المخابرات التركية في العاصمة الفرنسية باريس.
مسيرة نضال
وقد بدأت الأستاذة شيماء الشواربي عضو المجموعة التنفيذية لمبادرة مؤنث سالم حديثها عن مسيرة سكينة جانسيز باستعرض بعض النقاط الرئيسية والبارزة لمذكراتها، مؤكدة أن هذه المذكرات من أمتع ما قرأت، مشيرة إلى أنه لأهميته كتب له ثلاثة مقدمات إضافة إلى مقدمة الكاتبة نفسها.
وأضافت أن حياة سكينة جانسيز منذ الميلاد كلها كانت مضغوطة ومحفوفة بالمخاطر وفرض عليها فيها الجهاد والنضال، كما أن سردها لذكرياتها في مذكراتها كان أقرب ما يكون للرواية التي تجعل من يقرأها كأنه جزء منها، والتي أشارت إلى بعض ملامح حياتها مثل قولها إن جدتها لا تطفيء نار الفرن أبداً ودائما البيت مفتوحاً بالولائم، وهو ما يعني أن بيتها ممتليء بالخير، أو كما قالت إن جدتها تدعو كل يوم للشمس والقمر وفي نفس الوقت تصرخ عندما يكون هناك كسوف أو خسوف.
ولفتت “الشواربي” إلى أنها لمست دائماً مسألة الصراع بين عائلة الأم وعائلة الأب لدى سكينة جانسيز، إذ كانت عائلة الأم ميسورة الحال عكس عائلة الأب، وقد حرصت دائماً على مدح والدها بأنه شخص عصامي وصبور واعتمد على نفسه، وكان بالنسبة لها شخص مهتم ببيته في سفره ورجوعه، وكان يرسل إليهم النصائح في شكل مكاتبات خلال سفره وكان مهتماً جداً بالعائلة.
وتقول في المقابل كانت ترى والدتها شخص سلطوي للغاية ودائما ما تكون في مشاحنات معها، وعندما تحدثت عن شخصية جدتها لمست منها مدى قوة شخصية المرأة الكردية، وأن للسيدة كلمة مسموعة لا سيما المتزوجة، مشيرة إلى أن سكينة جانسيز قبلت الزواج من شخص رفضته من قبل لتتمتع بمميزات المرأة المتزوجة القوية في هذا المجتمع.
وتناولت المتحدثة كذلك مرحلة التحاقها بالدراسة، فتشرح سكينة جانسيز كيف تعرض مناطقها للإبادة الجماعية ومحو اللغة والهوية، حتى أنها قالت “إننا نذهب إلى مدارس المحتلين لأراضينا”، وكان هذا أمراً مزعجاً لها، ولفتت إلى أن من جوانب شخصيتها أنها كانت تنكر المقدسات إذ ترى أن تقديس أي شيء يبدأ عندما يعبد الإنسان كل ما يعجز عن إدراكه، ومع ذلك بدأت تؤمن بفكرة المقدسات لما كان عليها رمي النقود فوق الشموع لترى ستثبت أم لا، وبالتالي عادت للمقدسات التي كانت تنفر منها.
من بين أهم ما قالته سكينة جانسيز في كتابها، وفق شيماء الشواربي، ما كتبته بشأنه والدتها كأكثر الأشخاص تأثيراً في حياتها، حين قالت إنها قد حولتها إلى متمردة، لكنها قد علمتها خوض الصراع أيضاً، وبالتالي كانت في حالة صراع دائمة مع والدتها، وكانت دائماً هناك غضب شديد تجاه آرائها. وعن المرحلة الثورية، تقول “الشواربي” إنها قد بدأت تستمع للأخبار والأحزاب التي تؤسس، وكانت تنتقد مسألة الحزبية داخل الثورية، وأن تكون هناك خلافات في ظل الهدف الأساسي وهو تحرير كردستان.
أشارت “الشواربي” كذلك إلى أن سكينة جانسيز في البداية كانت تخجل من هويتها الكردية وكانت تتحدث باللغة التركية، لكن والدتها عنفتها وطلبت منها ألا تخجل من كونها كردية، فبدأت تعتز بهذا الأمر وكبرت بداخلها روح النضال، كما تحدث في مذكراتها عن خلفيتها الثقافية والدينية كسيدة كردية علوية، وقد عرفت من خلال مذكراتها كذلك عادات الشعب الذي نشأت فيه.
وقالت “الشواربي” إن سكينة جانسيز تعرضت لكثير من المضايقات كي تثبت نفسها، وصولاً إلى مرحلة ممارسة نشاطها الثوري، حين استغلت سفر والدتها، وتواصلت مع الثوار وكانت تستضيفهم في المنزل حتى أنهم كانوا يسمونها “الأخت الكبرى”، ولما عادت والدتها ورفضت ذلك قررت الهرب، واختارت أن تكون عاملة كي تختلط أن تكون من العمال وتعرف أفكارهم وتحثهم على الثورة والنضال واقتربت منهم.
وأشارت إلى أنها كانت أيضاً تتناقش مع نفسها في المصطلحات الثورية، وشاركت في إضرابات العمال التي نجحت عندما بدأ بعض العمال المفصولين تعسفياً يعودون للعمل إلى أن فصلت هي من العمل لاحقاً، وعندما عادت إلى منطقتها التي هربت منها وجدت أن هناك قدر كبير من الوعي. وأكدت “الشواربي” أن سكينة جانسيز كانت شخصية عنيدة وصلبة، معربة عن تشرفها بأنها قد تعرفت على شخصية مثلها حتى لو كان من خلال الورق أي قراءة مذكرات “الست سارة” كما كان يطلق على سكينة جانسيز.
الاقتراب أكثر من العمل
بدورها، واصلت الكاتبة الصحفية فاتن صبحي استعراض مذكرات سكينة جانسيز، وقالت إن وعيها تشكل من الأعمال الفنية التي كانت تحضرها والأعمال المسرحية، وعندما سافرت إلى ألمانيا مع والدها وتوقفت عن الدراسة لمدة سنة، وشاركت في حضور عمل مسرحي عن الهوية الكردستانية، وتفاجأت أنه بينما كانت هي تخجل من هويتها وجدت أن كل من ذهبوا إلى هناك كانوا يرتدون الزي الكردي فعاتبت والدها لعدم ارتدائها مثلهم.
وأضافت “صبحي” أنها كانت حريصة على تحريض العمال من أجل الحصول على حقوقهم، لدرجة أن صاحب مصنع عرض عليها أن تتولى منصباً لكنها رفضت، وقد عرض عليها ذلك رغم أنها ليست جامعية فكان لديها وعي أن المصانع ترفض توظيف الجامعيين لكي لا يقودوا ثورات بين العمال، مشيرة إلى أن شقيقها كان أكثر من شجعها على الثورة، وقد قبض عليها لأول مرة بعد الاعتداء عليها وضربها من قبل الشرطة وسجنت 3 أشهر.
وتروي “صبحي” كذلك أن محامي سكينة جانسيز استطاع استغلال وجود حزب الشعب الجمهوري وكانت فترة انتخابات وضغط على المحكمة لتخرج من السجن ومعها بعض رفاقها، لكن صدمتها جاءت لاحقاً من أنها وجدت أن 2 من رفاقها قتلوا على أيدي الحزب الذي أخرجها من السجن، وصدمت كذلك عندما وجدت أن زوجها انضم إلى حزب الشعب الجمهوري، وبالتالي أصبح هناك خلافاً فكرياً وقررت الطلاق لاحقاً، وأن تكرس حياتها للنضال والاشتباك الثوري، وتمسكت بمواجهة الفاشية، وبدأت تفكر في مسألة الحصول على السلاح والمال لاستخدامهما في العمل الثوري.
ولفتت الكاتبة الصحفية فاتن صبحي إلى أن سكينة جانسيز كانت تصف كل شيء بدقة بحسب ما ظهر من مذكراتها، فقد حكت عن قائدها وقالت إنه كان شخصاً يحب النظاقة ويشجعهم على القراءة ، ودعاهم للقراءة عن الثورة البلشفية والشيوعية في العالم، وأن عليهم أن ينظموا ذهنهم كي يواجهوا الفاشية، مشيرة إلى أن والدتها ذات مرة كانت تحدث صور ماركس ولينين وإنجلز وتدعوهم أن يتركوا ابنتها رغم أنها لم تكن تنطق أسمائهم بدقة، في إشارة إلى تعلق “سكينة” بهم.
وتحدثت فاتن صبحي حول واقعة أثرت في تكوين سكينة جانسيز وذلك عندما تعرضت طفلة للاغتصاب من قبل رجال مخفر شرطة، ما غذى روح الثورة لدى الأهالي، وبدأوا كتابة المنشورات للمطالبة بحقوقهم، مشيرة إلى أن “سكينة” كانت تتحرك بقوة فيما يتعلق بحقوق المرأة وحقها في التعليم واختيار ما يناسب حياتها بالشكل الذي تراه، وقد كانت مهتمة بمساعدة رفاقها وتزور من يخرجون من السجن.
وأكدت “صبحي” في ختام حديثها أنها رأت في سكينة جانسيز شخصية قوية وحادة المخالب وتعافر طوال الوقت من أجل قضية هي مؤمنة بها حتى تأسيس حزب العمال الكردستاني، وكانت هي مسؤولة عن لجنة المرأة وكذلك الإعلام والدعايا، وكانت ترى أن العمل والنضال على الأرض أكثر أهمية، وحرصها على تنظيم العمل، كما تلفت إلى أنه في إحدى المرات تعرضت لمداهمة من أجل القبض عليها، فقامت على الفور بالتخلص من الأوراق التي لديها، وكانت قد جهزت لوحاً خشبياً لتنتقل من خلاله إلى منزل مجاور، وكانت المفارقة أنها وجدت مع الشرطة أحد الرفاق وهو الذي قد أوشى بها، وهو أمر انتقدته.
وقد شاركت في الحلقة النقاشية عبر فيديو مصور السيدة/ زينب مراد الرئيسة المشتركة للمؤتمر الوطني الكردستاني من أوروبا، والتي أكدت قمية ومكانة سكينة جانسيز وقوة تاريخها النضالي، وكذلك شاركت السيدة ليلى موسى ممثل مجلس سوريا الديمقراطية في مصر بكلمة تحدثت فيه عن تجربة سكينة جانكيس أو “سارة” كما أطلق عليها وكيف كانت نموذجاً للنضال.
كما شملت الحلقة عدداً من المداخلات من الحضور منهم السفير شريف شاهين مساعد وزير الخارجية المصري السابق، والسيد كارنيج سركسيان الكاتب السوري الأرمني، والدكتورة سحر حسن المتخصصة في التاريخ، وعدد آخر من الشخصيات والذين تمحورت تعليقاتهم حول مكانة سكينة جانسيز وأهمية التعرف على شخصيتها ونضالها كونها تمثل أحد نماذج العمل النسوي والعمل الوطني لأجل الحرية والديمقراطية.