الحدث – القاهرة
لا تقتصر العملية العسكرية التركية الحالية على إستهداف مقرات ومقاتلي حزب العمال الكردستاني pkk وهي ليست حالة ظرفية مقيدة بتحركات ما في حدود اقليم كردستان العراق، بل هي جزء من سياسة تركية عامة ضد الكرد، عابرة للحقب الزمنية ولاتجاهات الحكومات التركية المتعاقبة.
إن الملف الكردي في تركيا يخضع بالدرجة الاولى لتوجهات ومصالح الدولة العميقة وتحديدا لتوجهات ومصالح الجيش الذي يحرص على ابقاء دوره كبيرا في هذا الملف وبدون هذا الدور لن تستطيع قيادة الجيش تبرير موازناتها الضخمة وتدخلاتها في السياسة واستمرار تسليحها الواسع وبالتالي تحقيق مصالح اقتصادية وسياسية لقادة الجيش.
إن أي حاكم في تركيا سيضطر لإرضاء قادة الجيش لثنيهم عن التدخل المباشر في السياسة او قلب نظام الحكم كما حدث أكثر من مرة، وأردوغان لا يختلف في هذا الوضع عن سابقيه من الرؤساء الاتراك، فهو بين خيارين، إما التعامل بطرق سياسية مع القضية الكردية للتوصل الى تسوية سلمية نهائية وبالتالي الاصطدام بمصالح قادة الجيش وتعريض نفسه للخطر أو استمرار التعامل العسكري والامني مع القضية لكسب ولاء وسكوت قادة الجيش ويحمل بلاده وشعبه اعباء وخسائر وآلام العمليات العسكرية المتلاحقة منذ عقود بلا نتيجة.
ورغم استخدام أردوغان في تعامله مع القضية الكردية لخطاب سياسي ناعم ومتملق قائم على التلاعب بالعواطف الدينية، إلا ان وضع الكرد وحقوقهم الثقافية والسياسية شهد تراجعا كبيرا في تركيا مقارنة بالانظمة والحكومات السابقة لحكم حزب العدالة والتنمية، ومنها عهد الرئيس تركوت أوزال حيث حصل الكرد على حريات ثقافية كبيرة لكن بقي العسكر والدولة العميقة في تركيا يحرضون ضد الكرد حتى أفشلوا اتفاقا كان وشيكا على تسوية القضية الكردية في العراق عام 1984، حيث جرت مفاوضات بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحكومة العراقية، وكان الراحل مام جلال هو من يقود المفاوضات عن الاتحاد الوطني ووصلت الامور الى حد الاعلان النهائي وتم التحضير لمؤتمر صحفي يعلن خلاله عن الاتفاق لكن كل شيء انهار في اللحظات الاخيرة وعرف الوفد الكردي لاحقا ان الاتراك تدخلوا لإفشال الاتفاق.
مازالت التوجهات الشوفينية في تركيا هي المسيطرة على التعامل مع الملف الكردي رغم الصبغة الدينية للنظام الذي يدعي التحرر من التعصب القومي، وهذه التوجهات تؤثر على نظرة الحكومة التركية ومواقفها الحقيقية من إقليم كردستان العراق، فمهما بدت أنقرة حميمية في تعاطيها مع قيادات الاقليم إلا إن غصة كبيرة ودائمية تعيش في قلب القيادة التركية تجاه الكيان السياسي الوحيد للكرد، ويمكن القول بالمجمل ان القيادات التركية ضد وجود هذا الكيان لأنها تحلم وتعمل وفقا لخارطة سياسية تعتبر ولاية الموصل القديمة جزءا من تركيا ولذلك فإن الحكومات التركية تستغل كل فرصة للتدخل في كركوك والموصل، واذا كانت تعتبر هذه المناطق جزءا من أمنها القومي فإنها ترى بالتأكيد ضرورة ان يكون اقليم كردستان تحت سيطرتها.
القيادات التركية تعتقد إنها في مواجهة مع الكرد الذين تستشعر خطرا منهم مع زيادتهم السكانية (30 مليون تقريبا في تركيا وحدها)، كما ان التطورات في السياسة العالمية وبزوغ منظمات المجتمع المدني والتقدم السريع لتقنيات الاعلام ساعدت في التعريف بالقضية الكردية وتعزيز الترابط بين الكرد في مختلف انحاء العالم، وهذا ما يهدد أحلام قيادات الدولة العميقة في تركيا ومصالحهم، وفي مقدمتهم العسكر الذين يعيشون في سباق مع الزمن لإحداث تغييرات سريعة على الارض في مناطق الكرد في العراق وسوريا عبر استغلال الضعف والاضطرابات في الدولتين للتدخل بشؤونهما تحت شتى الذرائع، ومنها تضخيم الاتفاق الذي عقد بين تركيا والعراق في عهد صدام، فالاتفاق لم يسمح للقوات التركية الا بالتوغل لمسافة 5 كم داخل الاراضي العراقية ولمدة 72 ساعة في حالة وجود تحركات تهدد تركيا انطلاقا من الاراضي العراقية، لكن اردوغان يتحدث اليوم عن توغل لـ60 كم، بعدما تكاثرت القواعد العسكرية التركية في الاراضي العراقية حتى خارج مناطق الحدود.
الوضع العالمي يشهد الكثير من الازمات والخلافات لكن محاولة الاتراك استغلال هذا الظرف للتمدد واحداث تغييرات على الارض ضد الكرد لن ينهي القضية الكرد ولن تتحقق خطط الاتراك بالسهولة التي يتصورونها، عسكرا وساسة.