اتبعت أنقرة سياسة متدرجة في التدخل في الأزمة السوريّة، فكانت البداية من مناصرة الشعب السوريّ، والدعوة إلى اتخاذ خطوات إصلاحيّة، ولكن سرعان ما تبين أنّها سببُ الأزمة وليست طرفاً فيها، وأنّ الخطة المعدة متكاملة، وأن الدفعَ إلى العسكرةِ وتجنيدِ السوريين مجرد بداية، فيما الاحتلالُ هو الهدفُ، وتستند أنقرة إلى فلسفة التاريخ العثمانيّ وتستثمرها في بعديها القوميّ والإسلاميّ، لتبرير التدخلِ في مناطق مختلفة، وتروّج لحكاياتٍ تاريخيّة، إحداها ضريح سليمان شاه. ويمكن تلخيص السياسة التركيّة بأنها تقتلُ الأحياءَ لتحييَ تاريخاً ميتاً
بروباغندا إعلاميّة وتمثيلية بالواقع
قصة ضريح سليمان شاه هي أُولى القصص التي تبرز في توظيف التاريخ للتدخل العسكريّ في سوريا، ففي عام 2012 حذّر أردوغان الأطراف المتصارعة في سوريا من أنَّ الاعتداء على قبرِ سليمان شاه يمثّل اعتداءً على أرض تركيّة وعلى حلف الناتو!
في 13/3/2014 وقعت مواجهاتٌ بين مرتزقة “داعش” و”الجيش الحر”، وفي 20/3/2014 هدد “داعش” بأنّه سيسوي الضريحِ بالأرض إذا لم يتم تفريغه خلال 3 أيام ويُنزل العلمُ التركيّ. وعلى إثر التهديد صرّح وزير الخارجيّة التركيّ أحمد داوود أوغلو بأنّه أنشأ طاولة أزمة لمتابعة مسألةِ ضريح سليمان شاه.
وفي 24/3/2014 أجاب رئيس الحكومةِ أردوغان على سؤال حول تهديد “داعش”: “إن حدث خطأ كهذا سيتم التعامل معه كما يجب، هذه الأراضي أرضنا، ومن يعتدي عليها يعتدي علينا”. فيما أعلن وزير الخارجية أحمد داوود أغلو أنّ ضريح سليمان شاه أرضٌ تركيّة بموجب القانون الدوليّ وأنّه موضوع خطير وسيتمّ الرد على أيّ اعتداءٍ عليه بكلّ الأشكال.
وفي 27/3/2014، ظهر تسريبٌ على اليوتيوب، تم حجبه لاحقاً في تركيا، قيل إنّه لاجتماع عُقد داخل مكتب وزير الخارجيّة أحمد داود أوغلو في 13/3/2014، حضره كلٌّ من سكرتير وزارة الخارجية فريدون سنيرلي أوغلو، وهاكان فيدان رئيس الاستخبارات التركيّةMIT ، وفي التسريب يقول داود أوغلو: “رئيس الوزراء (يقصد أردوغان) قال: إنّ أيّ هجوم محتمل على قبر سليمان شاه بمثابةِ فرصةٍ لنا”. فأجاب عليه فيدان: “يمكنني أن أجهّز هجوماً بالصواريخ على قبر سليمان شاه إذا لزم الأمر”.
وفي 2/10/2014 أجاز البرلمان التركيّ للجيش التدخلَ في سوريا والعراق في مواجهة مرتزقة “داعش” ونشر قوات أجنبيّة لهذه الغاية في تركيا.
وقال وزير الدفاع عصمت يلماظ “إنَّ تقدمَ داعش باتجاه سليمان شاه يشكّلُ خطراً على أمننا القوميّ، وواجبنا الأول هو الدفاع عنه، وتأكدوا أنّنا لن نتردد لحظة في القيام بكلِّ ما يلزم لحمايته”. وقال رئيس أركان الجيش نجدت أوزيل للجنود الذين يحرسون الضريح: “لا تنسوا أنّكم لستم وحدكم، كونوا على يقين أن قواتنا المسلحة ستكون إلى جانبكم بمجرد أن تطلبوا منها ذلك”.
وفي 21/2/2015 ليلاً نفّذت قوات تركيّة قوامها مئة عربة عسكريّة منها 39 دبابة و572 جندياً، عملية عسكريّة في منطقة قره قوزاق ونقلت ضريح “سليمان شاه” إلى تركيا، وأجلت حاميته المؤلفة من 38 جندياً تركيّاً عبر مركز مرشد بينار الحدوديّ وعُرفت العملية باسم “فرات شاه”.
وقال رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو عن العملية: “وجهنا القوات المسلحة التركيّة لحماية قيمنا الروحية وسلامة جنودنا.”
وقال أوغلو في 22/2/2015: إن “الرفات أعيد مؤقتاً إلى تركيا ليدفن لاحقاً في سوريا”، موضحا أنه تم ضمان أمن منطقة في الأراضي السورية لنقل رفات سليمان شاه إليها في الأيام المقبلة. واتصل الرئيس التركيّ أردوغان هاتفيًا بكلٍّ من رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، ورئيس هيئة الأركان نجدت أوزال وقائد القوات البرية خلوصي أكار، وهنأهم على نجاح عملية ضريح “سليمان شاه” وقال إنّ الضريح، أمانة من أجدادنا، وسيستمر في إحياء ذكرى أجدادنا.
رئيس الائتلاف السوري المعارض خالد خوجة، أعرب عن ارتياحه عن إتمام العملية التركيّة لتأمين ضريح “سليمان شاه” وحراسه، وقال في مؤتمر صحفي عقده في إسطنبول: إنَّ “العملية تمّت ضمن عِلم الائتلاف رسميّاً، كما تمَّ التنسيق مع قوى الجيش الحر لإتمام العملية.. وأنّ تركيا اتخذت هذه الخطوة في إطار الحفاظ على سلامة الإرث التاريخيّ المشترك للشعب السوريّ والتركيّ”.
حكايةٌ تاريخيّةٌ ملفّقةٌ
درجت أنقرة على تسويقِ أنّ سليمان شاه بن قايا ألب هو جدُّ مؤسسِ الدولة العثمانيّة عثمان الأول بن أرطغرل بن سليمان شاه، وأنّه أحدُ الزعماءِ الأتراك، عاش في الفترة ما بين عامي 1178 – 1236.
أوردَ المؤرخُ التركيّ أحمد جودت باشا بالقرن الـ 19 في كتابه عن تاريخ الدولة العثمانيّة، والمعروف بـ “تاريخ جودت”، روايةً حول تأسيس دولة آل عثمان، فقال: “إنّ الأمير عثمان الأول، مؤسسَ الدولةِ العثمانيّة، هو ابن أرطغرل بن سليمان شاه”، وسليمان ذاك كان رئيساً لقبيلة قايي، التي دخلت مع غيرها إلى الأناضول عقب انتصار السلطان ألب أرسلان السلجوقيّ على البيزنطيين في معركة ملاذ كرد الشهيرة عام 1071. وقد مات سليمان غرقاً وهو يحاول عبور نهر الفرات قرب قلعة جعبر شمال سوريا، ودفن هناك”.
لكن المصادر العثمانيّة التي كُتبت بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، مثل تاريخ أحمدي، وتاريخ أنوري، وتاريخ سلجوق نامه ليازجي أوغلو، وتاريخ شكر الله، وتاريخ إدريس البدليسي وغيرها، نسبوا عثمان الأول، مؤسس الدولة العثمانيّة كما يلي: “عثمان بن أرطغرل بن كندز ألب بن قايا ألب بن كوك ألب بن صارقوق ألب بن قايي ألب”.
يشير ذلك النسبُ إلى أنَّ “كندز ألب” هو الجدُّ الحقيقيّ لآل عثمان، وليس سليمان شاه، وتؤيد ذلك المسكوكات المكتشفة في العصرِ الحديث والمنسوبة إلى عثمان الأول، إذ كُتب فوقها عثمان بن كندز ألب. ويبدو سليمان شاه، حكايةً لُفقت في عصرٍ متأخرٍ لمنحِ العثمانيّين نسباً ملكيّاً أفضل من النسبِ البدويّ المجهول الذي كان المؤرخون الأوائل في البلاط العثمانيّ على علمٍ به، ومتفقين عليه.
واللافت تضاربُ التواريخِ في الروايات، إذ يُقال أنّ سليمان المزعوم عاش بين عامي 1178-1236، وأنّه اضطر للفرار إلى سوريا بقبيلته بعد غزواتِ المغول، وغرق مع بعض رجاله عام 1231 أثناء عبورهم نهر الفرات، قرب قلعة جعبر.
وثمّة رواية تاريخيّة تقول إنّ قبيلة قايي خاقانيّة من قبائل الأوغوز التركيّة نزحت في عهد زعيمها “كندز ألب” عندما استولى المغولُ بقيادةِ جنكيز خان على خراسان؛ إلى المراعي شمال غربي أرمينيا قرب مدينة أخلاط. ويكتنفُ الغموضُ الحياة السياسيّة المبكرة للعشيرة، وتفيدُ المعلوماتُ المتوافرة أنّها تركت منطقة أخلاط عام 1231م بسببِ الأحداث والظروف ونزحت إلى حوضِ دجلة. وتوفي “كندز ألب” بعد النزوحِ بعامٍ، وتزعمُ الرواياتُ أنّ ابنه سليمان شاه ترأس العشيرةَ، ولذلك يرجّح أنّ سليمان شخصيةٌ أسطوريّة ابتدعها العقلُ العثمانيّ يُرادُ بها كندز نفسه.
حازت رواية سليمان شاه الواردةُ في كتاب “تاريخ جودت”، على قَبول السلطان عبد الحميد الثاني والدوائر العثمانيّة الرسمية. فسعى عبد الحميد، لإيجادِ شرعيّة لوجودِ دولته بالشام مقابل القوى الأوروبيّة، فبحث عن قبر سليمان المزعوم شمال سوريا لبناء ضريح فوقه، فوجد ضالته في قبرٍ تركيّ في قلعة جعبر على ضفة الفرات الغربيّة قيل إنّها ضريح سليمان شاه. فأمر ببناء ضريح فوق القبر، وعُرف من بعدها باسم “تورك مزار” أي الضريح التركيّ، وبذلك رُوّج على أنّ الضريح يعود لسليمان شاه جد عثمان المؤسس.
كتب المؤرّخ التركيّ يلماز أوزتونا في الجزء الأول من كتابه “تاريخ الدولة العثمانيّة”: “إن قصة جعبر مازالت قصة لا يمكن القطع بصحتها ومن المحتمل أن تكون برمتها قصة ملفقة”. ويرجّح أوزتونا أنّ الرفات الذي بنى فوقه عبد الحميد الثاني الضريح لأول مرة كان للأمير السلجوقيّ «سليمان شاه بن قتلمش»، ابن أخ السلطان ألب أرسلان، وهذا أكثر منطقيّة، لأنّ استمرارَ التعرّف على صاحب هوية القبر في قلعة جعبر طوال كل تلك القرون، يدلُّ على أنَّ صاحبه كان رجلاً ملءَ السمعِ والبصرِ، لا زعيمَ قبيلة تركيّة مغمورٍ لا توجدُ عنه كلمة واحدة في أيّ مصدرٍ أو حوليّةٍ تناولت تاريخ سلاجقةِ الرومِ، أو بلاد الشام في العصر السلجوقيّ.
لا شك أنّ قبرَ سليمان شاه، بالهالة الرومانسيّة التي أحاطت به كان الأداةَ الأهمَّ التي ضغطت عبرها أنقرة بقوة في مساعيها للتدخل، لتضربَ بعرضِ الحائط كلَّ الدراساتِ الأكاديميّة التي ظهرت في تركيا نفسها، وشكّكت في صحّة أن يكونَ سليمان شاه الذي في القبر هو جدٌّ أعلى للسلالةِ العثمانيّةِ.
فصول من المسرحية التركيّة
عدمُ تعرّضِ “داعش” لضريحِ سليمان شاه بعد سيطرته على المنطقةِ، يؤكّدُ الشكوكَ حول علاقته الوثيقة بأنقرة، فقد شهد العالم حملةَ “داعش” لهدمِ وتدمير المواقع التاريخيّة والمساجد والكنائس والأضرحة، ففي 24/7/2014 فجّروا ضريح النبي يونس في الموصل، وفي اليوم التالي فجّروا مقام النبي شيت ومقام الإمام علي الأصغر بن الحسن، ونشروا تقريراً مصوراً بعنوان “تقرير عن هدمِ الأضرحة والأوثان في ولاية نينوى”، كان أبرزها ضريح الشيخ فتحي و”قبر البنت” ومزار وقبر شيخ الطريقة الصوفيّة أحمد الرفاعي، حيث هُدمت هذه المراقد بواسطةِ الجرافاتِ، وكذلك الهجوم على متحف الموصلِ.
من المرجّح أنّ تهديدَ “داعش” والعمليّة العسكريّة مسرحيّةٌ متكاملة، وإعادةٌ لما شهدته مدينةُ الموصل، عندما اقتحمت مرتزقة “داعش” القنصلية التركيّة في 11/6/2014 واحتجزوا 48 دبلوماسيّاً، وتصاعدت التصريحاتُ التركيّة، وتزامنت عمليةُ الاختطافِ مع التهديدِ بهدم ضريح سليمان شاه، وتم تداولُ فكرةِ عقدِ صفقة مبادلةٍ بينهما، ولكن القضية لم تكن أكثر من محاولةٍ إعلاميّةٍ هزيلةٍ ومكشوفةٍ للإيحاءِ بأنّ المصالحَ التركيّةَ مهددةٌ بإرهابِ “داعش”، وفي 20/9/2014 أُفرج عن كاملِ الدبلوماسيين المفترضين دون أن يُصابَ أيٌّ منهم بخدشٍ. وقال الملحقُ التجاريّ في القنصلية لاحقاً “إنّ العمليةَ كانت مسرحيةً مدبّرةً، وأنّ الأوامرَ جاءت عبر الهاتفِ للاستسلامِ للإرهابيين”.
وفي الوقت الذي لم يمس فيه مرتزقة “داعش” المصالح التركيّة بأي سوءٍ، فإنّه شنَّ الهجماتِ وارتكبَ أفظعَ الجرائمِ بحقّ الكردِ. ففي 3/8/2014 شنّ المرتزقة هجوماً على مدينة سنجار واستباحوا النساء وأسروهن سبايا وهتكوا الأعراضَ وقتلوا الرجالَ والأطفالَ، وقالت دراسة نُشرت في دوريّة B.L.O.S الطبيّة أنّ 3100 إيزيديّ قُتلوا – أكثر من نصفهم بالرصاص أو بقطع الرأسِ أو الحرقِ أحياءً – ونحو 6800 خطفوا لاستغلالهم في الاستعباد الجنسيّ أو استخدامهم كمقاتلين. كما أنّ ما قام به “داعش” كان محاكاةً مباشرةً لسلوكِ الحكومةِ التركيّةِ في عداءِ الكردِ. وأكّد أسرى كانوا قادة في “داعش” أنّ أنقرة هي التي دفعتهم للهجوم على مدينة كوباني.
إصرارٌ على إعادةِ الضريح!
في 20/10/1921 عُقدت اتفاقية أنقرة والحكومة الفرنسيّة، المنتدبة على سوريا، ووقعها الدبلوماسيّ الفرنسي فرانكلان بويون ووزير الخارجية التركيّ يوسف كمال بك، وبموجبها انتهت الحربُ بينهما وتضمنت تبادلَ الأسرى، وبموجبِ المادةِ التاسعة من الاتفاقية، تقرر بقاءُ ضريح سليمان شاه تحت السيادةِ التركيّة، ونصّت المادة: “إنّ قبر سليمان شاه جدّ السلطان عثمان مؤسّس السلالة العثمانيّة، والواقع عند قلعة جعبر، سيبقى مع ملحقاته بملكيّة تركيا التي بإمكانها أن تعيّن له حرّاساً، وأن ترفع العلم التركيّ فيه”.
وأقرّت معاهدة لوزان الموقّعة في 24/7/1923، الحدودَ التركيّة مع مناطق الانتداب الفرنسيّ في سوريا طبقاً لاتفاق أنقرة، وبقي الضريح داخل الحدودَ السوريّة، مع استمرار الإشرافِ التركيّ عليه.
في عام 1968 بدئ ببناء سد الفرات، وجرى التفاوض حول الضريح خشية أن يغمرَ بالمياه. وأصرَّ الجانب التركيّ على إبقاء الضريح بالأراضي السوريّة، فنُقل عام 1973 إلى تلّة مرتفعة شمال تل “قره قوزاق” (30 كم شرق منبج). وخلالَ زيارةِ الرئيس التركيّ عبد الله غول إلى حلب عام 2010، زار وفدٌ رسميّ تركيّ الضريحَ وقررَ القيام بأعمالِ الصيانة والترميم فيه.
في 7/6/2018 قال نائب رئيس الوزراء فكري إيشيق: إنّ «قبر سليمان شاه سيعادُ مرة أخرى إلى مكانه الأساسيّ في شمال سوريا عندما تصبح الظروف ملائمة”. وفي 1/1/2019، زار خلوصي أكار وزير الدفاع التركيّ قبر سليمان شاه في موضعه الجديد بقرية أشمة، وأجرى عبر الفيديو كونفرانس حديثاً مع أردوغان الذي أكّد أهمية القبر بالنسبة للأتراك.
سليمان شاه حكايةٌ تكتنفُها الشكوكُ، يدعمها شكٌّ آخر يتعلقُ بإصرار حكوماتِ أنقرة المتعاقبةِ على بقاءِ ضريحِ شخصيةٍ تركيّةٍ تُضفي عليها هالاتِ القداسةِ في أراضي دولةٍ أخرى، فيما المتعارفُ أنّ معظمَ الدولِ تستعيدُ رفاتَ الشخصياتِ المهمة في تاريخها إلى بلادها.