كانت بريطانيا ومع الحرب العالمية الأولى هي المهيمنة بالأفكار والعقليات التي أوجدتها وبأدواتها التقسيمية التي استعملتها. وهي التي شكلت النظام الإقليمي وعملت على ترسيخ هيمنتها ومصالحها ونهبها عبر مسارات منها:
1- نثر الدويلات القومية والتيارات والمدارس القومية التي تمثل أهم أدوات تقسيم المنطقة وإضعاف قيمها وتقاليدها المشتركة الديمقراطية لصالح وتحكم وتدخل القوى الخارجية في المنطقة.
2- إنشاء ودعم التيارات الإسلامية السياسية وتسهيل انتشارهم لعدم ترك المجال لأية انطلاقات ثقافية إسلامية حقيقة.
3- خلق بؤر توتر جاهزة للاشتعال وقت الحاجة وقضايا عالقة لخدمة التوجهات التحكمية وتأمين وضمان استمرارية الهيمنة وبالطرق المختلفة.
4- فرض نموذج ودورة اقتصادية عالمية ومالية عالمية وإقليمية تجعل موارد المنطقة وخاصة الاستراتيجية في غير صالح الشعوب والمجتمعات بل في خدمة النظام الاقتصادي المركزي وطبقتها السلطوية.
وعلى أثر هذه التدخلات والتشكيلات والتقسيمات والهياكل الأيدولوجية والاقتصادية والنظم والأجهزة التنفيذية واحتكاراتها، تم استهداف المجتمعات والشعوب وتضيق ساحة حريتها وعملها وتخريب قيمها وثقافاتها المعمرة ألاف السنين والعمل على إبادة وانصهار العديد من الشعوب والمجتمعات والخصوصيات الثقافية الغنية للمنطقة بحجة إيجاد أمة الدولة المشادة في كل دولة والحفاظ عليها بعد تقديسها مع حدودها المصطنعة، وتم بذلك سد الطريق ومنع ظهور أية سياقات ومسارات مجتمعية ديمقراطية أو انطلاقات ذاتية حرة وتم ترك الساحة للأدوات التي ظنت واعتقدت أنها مستقلة وحرة وهي في الأصل لا تملك حتى حرية التفكير لوقوعها تحت تأثير الأفكار الاستشراقية والهيمنة الفكرية للمدنية الأوربية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ضمن التوجهات والمدارس السياسية والثقافية.
وهكذا تم إيجاد وفرض نظم وقوى سياسية وثقافية بعيدة عن مصالح المجتمعات والشعوب وتجسيدها والكفاح لأجلها ولا تفكر سوى بسلطتها ومناصبهم وبوجودهم واستمرارهم بالحكم عبر مختلف الوسائل واستعمال كل الاحتكارات التي جعلوها في خدمتهم الشخصية والعائلية والحزبية الضيقة قبل حتى الأثنية والمذهبية الضيقة، التي يعملون لاحتكار تمثيلها إذا تطلبت ذلك وجودهم على سدة الحكم.
ونظراً لطبيعة الدول المشكلة في المنطقة من قبل النظام العالمي الذي قادته بريطانيا وثم أمريكا فإن التدخل الخارجي في شؤون دول ومجتمعات وشعوب المنطقة من مميزات هذه الدول والسلطات علاوة على غياب الحالة الديمقراطية والتي حرص عليها كل من الطرفين السلطات المحلية العملية والقوى المركزية في نظام الهيمنة العالمي بأن لا يكون هناك مجال لنمو وتشكيل إرادة مجتمعية ووطنية حرة خارج تحكمهم وسيطرتهم، وإن حصل يكون أمامها طريقين إمام تعرضها للإبادة والقتل والمجازر و السجن وإلصاق كافة التهم والأكاذيب بها أو محاولة ترويضها ووضعها تحت السيطرة إن أمكن وثم استعمالها في غير حقيقتها لخداع وتضليل الناس المطالبين بالحق والديمقراطية والحرية والعدالة والتعايش المشترك.
والآن بعد العقود الأخير من حالة الأزمة أو التحركات الشعبية والمجتمعية التي حصلت للبحث عن مزيد من الحرية والديمقراطية والتخلص من الاستبداد والفقر ، نرى أن القوى المركزية للنظام العالمي وكذلك أدواتهم وتوابعهم الإقليميين مصريين على التدخل مرة أخرى وبلورة نظام إقليمي لصالح كل واحد منهم بعيداً عن مصالح شعوب ومجتمعات المنطقة.
وعليه يمكن قراءة التدخلات المستمرة من قبل أمريكا والصين وروسيا وكذلك تركيا وإيران وإسرائيل وغيرهم في الدول العربية وفي شعوب المنطقة من مبدأ أن جميعهم يعلمون أن من يسيطر على الشرق الأوسط سيكون له الصدارة والنفوذ والفعالية في أي نظام ومشهد ومعادلة إقليمية ودولية. وكلهم يهدفون لإخضاع شعوبنا ومجتمعاتنا والسيطرة على مواردنا وقرارنا وفرض نظم وحكومات لمصالحهم وتحقيق اجنداتهم وتمددهم والبعض يريد إرجاع عقارب الساعة إلى الخلف والعودة بنا إلى حيث كان يحتل شعوبنا ومنطقتنا وإن عبر الاعتقال والسجن و التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي واستعمال الأسلحة المحظورة والأسلحة الكيميائية واستهداف البنية التحية وكل عوامل الاستقرار كما تفعلها تركيا في جنوب شرق تركيا و شمال وشرق سوريا وفي إقليم كردستان العراق، و قتل المتظاهرين وتنفيذ أحكام الإعدام بهم كما تفعلها النظام الإيراني(ولاية الفقيه-الشيعة القومية).
ينقسم التيارات والأحزاب والميول اليسارية واليمينية وكذلك الأشخاص في منطقتنا والدول العربية من حيث محاولات القراءة والفهم بين:
1- ومن يحاول القراءة والرؤية حسبما يريده ويتمناه ومن خلفيته ونظرته الضيقة وعدسته الأيدولوجية وبالتالي لا يرى كافة الجوانب والحقيقة الموجودة ، بل يتخيل ويتصور وقائع وظروف ونتائج يتمناه هو ويحاول تسويقها والتشدق بها، كما هي حال غالبية القراءات في المنطقة وكأنه هناك تدخل ومستعمر جيد أو حالة اخضاع ونهب مفيدة وهذا في غالبيته نتيجة حالة الضعف في الإرادة وفقدان الثقة بالنفس وبالمجتمع والتأمل والاعتماد على الأخرين وهذه بحد ذاته هزيمة فكرية وذهنية لابد من معالجتها والتخلص منها ومن تداعياتها وسلوكياتها المختلفة.
2- من يحاول قراءة الواقع والتدخلات كما هي وليس كما يتمناه هو أو يخدم مصالحه وتصوراته الفكرية ومصالحه الضيقة، بل بعد الفهم والمعرفة يحاول تقديم رؤية موضوعية وواقعية للتدخلات وكيفية المواجهة والمعالجة الشاملة وتقديم البديل المنطقي والمجتمعي الديمقراطي والعمل لتطبيقه فعلياً.
إن التدخلات ومن أية أطراف دولية وإقليمية وتحت أية عناوين كانت ووفق أية ظروف حصلت، هي في النهاية تحجيم و إضعاف للإرادة الوطنية والمشرقية الحرة وتضيق لساحة الحرية المجتمعية وتمثيل لحالة تبعية وولاء للخارج لغير صالح مجتمعاتنا وشعوبنا وقيمنا وثقافتنا التكاملية، ولابد من التخلص منها والعمل لإلغاء ظروف وشروط تلك التدخلات وكذلك البحث عن مواقف مشتركة وتحالفات ردع ومنع بين كافة القوى حتى ولو كانت هناك خلافات سياسية وفكرية بين القوى المختلفة الرافضة للتدخلات والاحتلالات الخارجية لأنها قضية مصلحة عليا وحالة وجود وحرية وكرامة ومستقبل نريده أن يكون مختلف ونكون فيه أحرار وندير أنفسنا و مناطقنا وثرواتنا.
ومن المفيد الإشارة إلى نمط الحياة والحداثة التي نعيش بها وخاصة في ظل الرقمنة والثورة التكنولوجية والتي تخضع في حد كبير لنفوذ وتحكم قوى الهيمنة العالمية، حيث أصبحت التدخل والنمطية حالة عالمية شاملة في ظل ظروف وشروط الفضاء الافتراضي وسعي قوى عالمية لخلق إقطاعيات رقمية لتحقيق الربح الأعظمي وهذا يخلق تحديات كبيرة أمام الحفاظ على الخصوصية الثقافية والهوية الذاتية وحالة الاستقلالية والتدخلات التي يجب أن لا نحصرها بأمور ومؤسسات وأجهزة تنفيذية أو حدود مصطنعة أو جيوش محتلة وأو حالات تهجير قسري وإبادة فيزيائية فالموضوع أوسع.
ولعل من أهم ظروف وشروط التدخلات الخارجية هو غياب الديمقراطية والممارسات الأحادية وبالتالي ضعف الجبهة الداخلية و الإرادة الوطنية الحرة القادرة على رفض التدخلات الخارجية، وهنا لابد أن نبحث عن الذهنية والعقلية الانتهازية الاستسلامية الموجودة والمقاربات والسلوكيات المتبعة والإجراءات التنفيذية في المؤسسات المعنية و التي علينا الوقوف عندها وإصلاحها وتغيرها وتحقيق التحول الديمقراطي فيها عبر بناء ذهنية وعقلية تشاركية ديمقراطية وبناء المؤسسات الديمقراطية الوطنية والمجتمعية القادرة على التعبير والتمثيل الحقيقي عن مصالح الشعوب والمجتمعات ورفض التدخلات وتحقيق الديمقراطية كسلوك وفكر وذهنية للحياة الحرة.
طبعا هنا نحن لا نتكلم عن العلاقات الطبيعية الندية التي يجب أن تتوفر كسياق وكعمل نبيل ومفيد بين المجتمعات و الشعوب والدول فيما بينهم وبين الشعوب والمجتمعات والدول الأخرى و لصالحهم المشترك، فمن الطبيعي أن يكون التفاعل والتبادل والعلاقات المختلفة وكذلك التأثير الإيجابي والاحترام متبادلاً ومصاناً وموجوداً في كافة المستويات والمجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والأمنية. ولكن ما نقصده أن لا يكون هناك حالة استغلال واحتلال مباشر أو غير مباشر أو اخضاع وهيمنة ونهب وإبادة وانصهار وتطهير عرقي تحت حجج واهية ومبررات ومخاوف كاذبة لا تخدم سوى قوى التدخل والهيمنة وكذلك تأمين البيئة الداخلية المتوترة والظروف المحلية الغير مستقرة نتيجة القضايا الوطنية العالقة والمفروضة من قبل القوى السلطوية-الدولتية والمهيمنة والتي تسهل وتفتح المجال للتدخلات والتجاوزات على سيادة المجتمعات والشعوب والدول بالتالي تخريب الاستقرار الاستراتيجي المجتمعي المطلوب والذي يمكن العمل لتحقيقه بالتحول الديمقراطي و ببناء النظم الديمقراطية التي ستكون قادرة على تحقيق الاستقرار والأمن والسلام الحقيقي و المحافظة عليه عبر ضمان الحق الطبيعي للمجتمعات والشعوب في الدفاع الذاتي عن وجودها وحريتها وممارستها السياسية الديمقراطية وضمان ذلك بدساتير ديمقراطية مع امتلاكها الذهنية التشاركية وعناصر القوى التي تحافظ بها على روح العدال وقوانينه وبالتالي رفض التدخلات الخارجية والقدرة على بناء علاقات استراتيجية وفق الاحترام والمصالح المشتركة والمتبادلة.