الإثنين 25 نوفمبر 2024
القاهرة °C

قراءة لتفاعل المشهد الإقليمي وتكويناته الباحث والسياسي الكردي: أحمد شيخو

الحدث – بيروت

تمتاز الحياة بجوانبه المادية والمعنوية بخاصيات متعددة،ومنها التغيير والتحول الذي يطرأ طالما ترافق الوجود والزمان معاً، فيقتضي عندها النشوء و البناء والإنتاج. لكن كيفية ونوعية التبدل الممكن من الظهور، إضافة لجدلية العلاقة بين القديم والجديد تظل حاضرة في كل الزماكانيات، وهذه العلاقة تتوقف على ماهية البنى الفكرية والمادية لكل تركيب ذهني وقدرتها على الاستمرار وفعاليتها، طالما هي التي تحدد السلوكيات المتبعة أو الحداثة المجسدةلفلسفة التركيب و لمنظومات الحياة المختلفة وعلاقة المجتمع بالسلطة أو الدولة.

التشكل القسري للمشهد الإقليمي وتفاعل مكوناتها

لقد تشكل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط كما في عدد كبير من الأقاليم حول العالم، نتيجة التدخلات الخارجية ومشاريعها، ورغبة القوى المركزية في النظام العالمي الليبرالي في إيجاد آليات وأدوات تستطيع عبرها وبها من فرض الهيمنة ونهب المنطقة بقيمها المادية والمعنوية، كالدول القومية المركزية وأمة الدولة النمطية ذات اللون الواحد وثقافة القطيع، مما خلق إشكالية بين المجتمعات والشعوب من جهة وبين السلطات الحاكمة من الجهة الأخرى، تلك السلطات التي في غالبيتها تأخذ مشرعيتها ودوام وجودها من النظام العالمي والأدوار الوظيفية المنوطة بها، وليس من المجتمعات والشعوب وإن تم الخداع والتضليل باسم الصناديق والانتخابات الشكلية. وهنا تكمن المشكلة، حيث أن هذا التشكل القسري للمشهد الإقليمي لم يأخذ بعين الاعتبار أولويات ومصالح شعوب المنطقة واحتياجاتها والجغرافيات السكانية الطبيعية، بل يمكننا القول أنه يشكل أحد أهم الأسباب الرئيسية لأزمات ومشاكل المنطقة التي تعاني منها شعوبنا.

إن التشكل الاجتماعي المضطرب والصياغة الفكرية والثقافية والفلسفية للدولة القومية وعقليتها السلطوية المركزية الدولتية، علاوة على منظومة الاقتصاد والسياسة والأمنالقمعية والفاسدة، كانت ومازالت تشكل القسم الأكبر من التحديات الموجودة لمحاولات القوى المجتمعية الوطنية والديمقراطية والأخلاقية، لإحداث انطلاقات جديدة وبناء سياقات نضالية نحو مزيد من الحرية والديمقراطية والعدالة لتعزيز الحضور المجتمعي وتبديل بنية المجتمعات من الاستقرار الساكن المؤقت إلى الاستقرار المتجدد الدائم في بناء الحياة الحرة التي تحفظ كرامة الإنسان ووجوده وحريته وإرادته وإرادة مجتمعه قبل أي سلطة أو دولة.

بالرغم من البعد الحضاري للشرق الأوسط وشعوبها، وتنوع العلاقات وظهور الكثير من أنواع الدبلوماسيات الشعبية والثقافية والاجتماعية، إلا أن العلاقات بين أبناء المنطقةومجتمعاتهم فيما بينهم وبينهم وبين الخارج، مازالت تعاني الكثير من أوجه القصور، علاوة على المشاكل والأزمات فيها،بسبب الإصرار على أن العلاقات والدبلوماسية لها جانب رسمي فقط أو أن المحرك والمرجع هو العقل الدولتي وأجهزتها ورسميتها المركزية الاحتكارية دون المجتمعات والشعوب أصاحب المصلحة الحقيقية في نسج العلاقاتالصحيحة والبناءة والمفيدة بين كافة الأطراف ومن مختلف النواحي من علاقات أخوة الشعوب والتعايش المشترك بين المكونات وحل القضايا العالقة.

قوى المشهد والنظام الإقليمي

ولو أرنا التدقيق في المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط وتكويناته، لا بد أن نلاحظ عدد من القوى الإقليمية المتناقضة ومشاريعهم الخاصة في ظل مشروع عالمي للمنطقة يريد تجديد الهيمنة والنهب بإدخال بعض التعديلات في النظام الإقليمي ومنهية الدول القومية لتناسب المعطيات الجديدة مع المحافظة على المتعهدين السابقين بأدوار جديدة أو إدخال متعهدين جدد أو السماح بنسج علاقات بين المتعهدين لإحداث وقائع يتغير معها بعض الديناميكيات الساكنة والسابقة لخدمة النظام الرأسمالي العالمي أكثر، وكذلك علينا رصد حالة الشعوب والمجتمعات المهمة والأصيلة القادرة على إحداث فارق كبير رغم حالة الضعف والهجمات التي تعرضت وتتعرض لها، إن هي تحركت بتنظيم ووعي وحركية منسقة ومدربة، إضافة إلى العديد من مراكز القوى وكذلك الجغرافيات التاريخية والاستراتيجية المحددة لمفردات ومفاهيم الأمن التكاملي والدفاع الاستراتيجية، ناهيك عن نواة مهيمنة إقليمية للنظام العالمي يراد توسيع هيمنتها دون حل الإشكاليات العالقة، بل عبر إذكاء الخلافات ومحاولة تحقيق اندماج مؤقت يراد أن يكون سبيل لحالة الإدماج والتكامل الأحادي وليس التشاركي الديمقراطي أي المجتمعي، وهنا يمكننا أن نتحدث عن التفاعلات بين قوى المنطقة وتكويناتها العرقية والدولتية والدينية السلطوية والشعبية وفي داخل كل واحدة منهاوحولها وهي:

1- تفاعلات إيران(الشيعة القومية) وعلاقاتها في الشرق الأوسط: انتقلت إيران منذ ١٩٧٩ إلى لبوث جديد إسلامي شيعي بصياغة قومية أرادت وتريد إعادة أمجاد كيروس والبرس والساسانيين، ولكن بموديل ديني شيعي، تريد تقمص شيعية آل البيتومذهبية خاصة للتمدد والتوسع في المنطقة والمجتمعات الإسلامية عبر استخدام مختلف الوسائل والظروف والاستفادة من أزمات الشرق الأوسط واستغلال الموروث الديني لآل البيت، علماً أن النظام الايراني يعيش الأزمة بحد ذاتها كأحد أنظمة المنطقة، بسبب سياسة الاقصاء والتهميش والعداء والاستفراد بالسلطة الذي يمارسه منذ أن قضى وخطف ثورة الشعوب الايرانية بمساعدة الجهات الخارجية التي أرسلت الخميني بطائرتها وسمحت له في الذهاب لبعد أحادي شيعي ومركزي دولتي، لا يتعرف بحق الشعوب غير الفارسية في إدارة وحماية أنفسهم ضمن جمهورية إيرانية ديمقراطية تستوعب الجميع، وما شهدته إيران من ثورة المرأة، الحرية والحياة المستمرةفي السنة الأخيرة وإلي اليوم، ماهي إلا إشارة ودلالة على رفض الشعوب في إيران لهذه العقلية والعلاقة السلطوية ونوعية الحكم والثقافة القسرية التي تفرض على النساء وعلى كافة الشعوب والمجتمعات في إيران، في ظل صمت وتواطؤ دولي وإقليمي مع النظام الإيراني الذي هو أحد مسننات وأدوات هذا النظام الإقليمي المراد الحفاظ عليه حالياً على الأقل من قبل النظام العالمي المهيمن الليبرالي، في حين أن الثقافة الإيرانية المتعددة لها القدرة الكامنة في العديد من الانطلاقات الجادة لحل ديمقراطي يجمع كل الشعوب في إيران ضمن جمهورية ديمقراطية للجميع.
2- تركيا(الإسلام السياسي+القومية الطورانية التركياتية): تجسد تركيا منذ اليوم الأول بالسماح لنشؤها عبر سلسلة من الإبادات الجماعية بما فيها القتل الجماعي والتهجير القسري بحق الشعوب والمجتمعات، أحد مخافر النظام العالمي وأدواته الوظيفية، وعندما تم السماح للمشروع العثمانيبالتوغل في سوريا والعراق وليبيا وعدد من دول المنطقة فهو ليس إلا لتحقيق توازن مع غيره من الأدوات والقوى التي تريد أن تكون مساحتها التأثيرية ونصيبها من الكعكة أكثر في ظل اضطراب أمواج الدول والسلطات ورغبة كل قوى إقليمية أو عالمية في التموضع والوضعالذي يعطيه أوراق قوة وضغط أكبر في المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط. و كما أن علاقة تركيا الأردوغانية الحالية مع الداخل لا يختلف عن الخارج فهو إما في حرب وصراع مستمر أوهدن مؤقتة لأجل الحرب مرة ثانية، فركيزة البقاء لنظام أردوغان وبخجلي الفاشي هي الحرب والإعلان عن أن كل مخالف هو إرهابي يستوجب قتله أو سجنه وإعدامه، أما محاولة التحسن النسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة أو إعطاء انطباع مختلف فهو لحين ولأجل حالة الهدنة المؤقتة لتجميع القوى والهجوم مرة أخرى، وطالما بقيت ذهنية وسلوك الإبادة حاكماً في تركيا فستعاني شعوب تركيا وشعوب المنطقة من حالة التدخل والتجاوز على سيادة المجتمعات والدول.
3- إسرائيل(نواة الهيمنة العالمية): تسعى إسرائيلومعها غالبية القوى المركزية في النظام العالمي، لتحقيق إدماجها في الشرق الأوسط بالشكل الكافي الذي يعطيها الأفضلية في التأثير ونسج العلاقات مع دول المنطقة، وقد تحقق جزء كبير منها مع اتفاقيات إبراهيم في العلن والسر، وها هي إسرائيل تشارك التدريب مع الجيوش العربية كما مع الجيش المغربي في العلن وربما مع عدد من الجيوش العربية في السر، وتظل دولة إسرائيل أحد مصادر الشرعية للدول والسلطات القومية ورؤسائها في المنطقة، من دون أن تكون هذه الشرعية والدور ومصالحها متوافقة حتى مع مصالح وشعوب عدد من شعوب ومجتمعات المنطقة هذه الدول القومية، فرغبة إسرائيل في أن تكون الأقوى دون منازع في الشرق الأوسط يسيطر عليها بشكل كبير وتجعلها في حالة إزعاج وقلق من أي قوى تريد الهيمنة في الإقليم وتجاوز حدها أمام إسرائيل. مع العلم أن علاقة إسرائيل بداخلها مختلفة عن علاقات دول وسلطات المنطقة بشعوبها وإن تراوحت أحيانا بين الاعتبار والإهمال الجزئي.
4- منظومة الدول العربية( الملكية+الجمهورية):يعاني النظام الإقليمي العربي من مشاكل وتحديات كبيرة، ومنها عدم التوافق الموجود بين العديد من الدول العربية حول الكثير من القضايا، كالموقف العربية المختلفة من أزمات سوريا، العراق، اليمن، لبنان، السودان ،ليبيا وغيرها، والموقف من الحرب في أوكرانيا، فليس هناك إرادة عربية موحدة رغم توفر الامكانات الكبيرة، كما أن الجامعة العربية التي أسسها الإنكليز لسد الطريق أمام أي وحدة الإرادة العربية الحقيقة عام ١٩٤٥، تظهر أنها غير قادرة على بناء وصياغة سياسة عربية فعالة وقادرة على حل أزمات الشعوب والدول العربية، ناهيك عن افتقادها للأدوات والآليات المناسبة، رغم أنها تستطيع أن تلعب أدواراً كبيرة إن تجاوزت حالتها التنظيرية الإنشائية وتجاوزت الخلافات الداخلية العربية وكذلك عقمها وبيئتها المحبطة ورؤيتها الفوقية وتبعيتها المطلقة للنظام العالمي.

لدى الشعوب العربية الكثير من الإمكانيات والقدرات الهائلة والعلاقات المفيدة، ولهم تاريخ ممزوج بين الحالة المجتمعية والشعبية الحقة وتقاليدها الديمقراطية وبين الحالة السلطوية الإسلاموية التي أنهكت وأضعفت الكثير من القيم المجتمعية العربية الأصلية، وعليه يحتفظ المجتمعات والشعوب العربية بإمكانية تحقيق الأفضل ونسج أحسن العلاقات مع الشعوب المجاورة وفيما بينهم إن تجاوزا العقلية الدولتية الإنكاريةالصراعية فيما بينهم وحالة التبعية الرسمية للنظام العالمي وتوظيف موارهم لخدمة النظام العالمي ومشاريعه، وإن تخلصوا من ثقافة الكذب والنفاق التي يريد القوميين والإسلاميين السياسيين تعميقها، وأرادوا بناء حياة حرة ديمقراطية وأخلاقية لشعوبهم ونسج علاقات تعاون وتكامل واستقرار واحترام واعتراف متبادل مع كل الشعوب والتكوينات الاجتماعية في الدول العربية وفي الشرق الأوسط و العالم.

5- الشعب الكردي ومجتمعات وشعوب المنطقة:توجد الكثير من الشعوب والمجتمعات في دول المنطقة التي ترتكز لأمة أو أثنية واحدة دون أن تكون حقوقها وهويتها مصانة، علماً أنه لا توجد منطقة نقية أو خالصة في كل مناطق الشرق الأوسط والغالب هو مناطق وأقاليم ودول مختلطة وبمجتمعات وشعوب متنوعة، وهذه أحد الإشكاليات في بلدان الشرق الأوسط والدلالة على تردي العلاقات ونوعيتها التحريفية التضليلية في الداخل والخارج، فمثلاً هناك الشعب الكردي الذي يشكل بالجنب من الشعوب العربية والشعب الفارسي والتركي القومية الرابعة الكبرى التي كانت لها ومازالت لها الكثير من الاسهامات في الحياة الحضارية والإنسانية للشرق الأوسط واستقرارها وأمنها واستقلاليتها وتشكيل الحياة المستقرة فيها في أصعب الظروف والمواقف، ولعل ما فعله الشعب الكردي وقواها الرئيسية والرائدة وبالتشارك مع الشعب العربي وشعوب سوريا في منظومة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية(QSD) في السنوات الأخيرة من ردع داعش والقضاء على دولتها وخلافتها المزعومة وبناء سياق متطور للأخوة العربية الكردية وحماية شعوب سوريا والعراق والمنطقة والعالم من أخطر تنظيم إرهابي دلالة على أنه لا يستطيع أحد من تجاوز إرادة الشعب الكردي في الشرق الأوسط على الأقل في الدول الأربعة التي يتواجد فيها الأجزاء الأربعة من كردستان التي قامت القوى العالمية بتقسيمها بين الدول الأربعة وبقاء الكرد بدون أية حقوق طبيعية كباقي الشعوب.

وعلى الرغم من كل التواطؤ والصمت الدولي والإقليمي على المجازر والإعدامات والإبادة التي يتعرض له الشعب الكردي في شمال كردستان وشمال وشرق سوريا وإقليم كردستان العراق وشرق كردستان في إيران، إلا أن الشعب الكردي مازال يشكل أهم الفواعل الرئيسية في الشرق الأوسط و هو الذي يبادر إلى نسج علاقات الأخوة مع كافة شعوب المنطقة ودولها وشعوب العالم، لأنه يؤمن أن حل القضية الديمقراطية وبناء نظام تعددي لامركزي ديمقراطي في الشرق الأوسط وبناء علاقات متبادلة وفق فلسفة الحياة الحرة وحرية المرأة وريادتها مع الشباب لجهود التغيير والتحول الديمقراطي  للمفكر والقائد عبدالله أوجلان هو المدخل الصحيح للحل الديمقراطي للقضية الكردية وكل قضايا المنطقة ولابد أن تسود حالة التعايش المشتركة وثقافة التشارك والأخوة والإدارات الذاتية بدل الدولتية القومية وممارساتها الاجرامية وإنكار الأخر المختلف عرقياً ودينياً ومذهبياً وجنسياً وإبادته وإنهائه، فالمستقبل هو للتعايش والتعدد والاستقرار المتجدد المجتمعي في الشرق الأوسط وليس للاستقرار الساكن المؤقت أو التبعية أو المركزية السلطوية بفضل جهود أبنائها وقواها المجتمعية الديمقراطية وتحالفاتهم الديمقراطية.

الدبلوماسية الديمقراطية طريق للحياة الحرة

وعليه، نعتقد أن التكوينات الاجتماعية في المشهد الإقليميوتفاعلاتها وكذلك الدول والسلطات في الإقليم الشرق الأوسطي تستطيع إيجاد بدائل حلالة للمشاكل ومفيدةمتجاوزة لحالة التبعية والتدهور الذي يمتاز به مختلف قطاعات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعيةوالثقافية وكذلك بناء أفضل العلاقات ونسج دبلوماسيات متنوعة كدبلوماسية الأمة الديمقراطية لتكون قادرة على تحقيق حالة الوفاق بين المجتمعات والشعوب من جهة وبين الدول القومية والسلطات الموجودة من الجهة الأخرى في إطار من الاعتراف المتبادل ومحاولة خلق ساحات تشارك ومساحات تعبير وتنظيم وعمل كافية لكل المجتمعات والشعوب الأصلية في الشرق الأوسط لتكون التحول الديمقراطي في دول المنطقة عنوان المرحلة حتى نصل  للحياة المستقرة والأمنة والحرة، دون أن تكون دول المنطقة وشعوبها وسلطاتها أدوات أو توابع في مشاريع الهيمنة الخارجية والإقليمية في غير مصالح مجتمعات وشعوب الشرق الأوسط، بل أن يجب تكون إرادة مجتمعاتنا وشعوبها حاضرة في أية علاقة مع الداخل والمحيط والخارج وهذا ما تتضمنه دبلوماسية الأمة الديمقراطية.

to top