ربما يمكننا التحدث في العديد من الدول عن الأطر الرسمية الدستورية والقانونية في آلية صنع القرار مثل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية بالإضافة إلى دور القيادة والنخبة السياسية وخلفياتهم وسماتهم الشخصية وتراكم البيئة بميراثها وثقافتها فيهم وفي تناولهم و صنعهم القرار وكذالك دور القوى السياسية المؤثرة في القرار من الأحزاب والتيارات السياسية وجماعات المصالح والطرق والجماعات الدينية واللوبيات الضاغطة و مراكز الأبحاث والدراسات و كذالك منظمات المجتمع المدني والرأي العام ووسائل الأعلام.
لكن في تركيا التي تشكلت بعد إنهيار الأمبراطورية العثمانية يمكننا أن نتذكر ما يسمى المبادئ الستة الأساسية لمصطفى كمال أتاتورك( الجمهورية، القومية، الشعبية، العلمانية، الثورية والدولة) التي توضع كسهام على علم حزب الشعب الجمهوري . وكذالك علينا أخذ أهمية تركيا للقوى العالمية حينها للبريطانيين والفرنسيين ومن بعدها لأمريكا ، وكذالك دخولها الناتو بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1952م، وعلينا التركيز على علاقتها بإسرائيل حيث أن هذه الأهمية والعلاقات تلعب دوراً رئيسياً في طبيعة السلطة في تركيا وكذالك في العديد من أليات إتخاذ القرار.
والعامل الأكثر فعالية في تركيا لإتخاذ القرار أو التمرير والتأثير من خلالها على القرار التركي كان الجيش التركي ذات العقيدة والنهج والتسليح والتدريب الغربي، وكان الجيش في كثير من الأوقات هو الذي يقوم بإنقلابات (1960_ 1971_ 1880م ) وتغير الحكومة دون أي رادع أو صعوبة، وأغلب الحكومات كان تحسب للجيش ورأيه ألف حساب. ومن الأهمية عدم الاغفال عن عامل حاسم في القرار التركي وهو مايسمى في تركيا بالدولة العميقة (أرغنكون) نواة الناتو ضمن تركيا و التي هي عبارة عن إمتداد لغلاديو الناتو (نواة الحلف) والمسؤولة عن الملف التركي والتي يقال أنها متواجدة في ألمانيا منذ بدئها عملها.
كان يحكم دستور سنة 1982 م رسمياً وربما شكلياً إطار عملية صنع القرار في تركيا من الناحية القانونية من حيث السلطات العامة وعلاقتها وأختصاصاتها ، وكان قد سبقت دستوران عام 1924 وعام 1961 وأدخل عليهما تعديلات عام 1937 أدرج أيضاً في دستوري 1961 و 1982 ويتعلق بتبني المبادئ الكمالية للدولة. وتم تعديل الدستور 17 مرة ، منها استفتاء 1987، 2007 و2010م وتم في 16 إبريل و2017 الأستفتاء الأخير على مشروع دستور قدمه حزب العدالة والتنمية وتم فيه الغاء سلطة رئيس الوزراء وزيادة سلطات الرئيس وإلغاء شرط عدم ترأس رئيس الجمهورية لأي حزب سياسي. وتم هذا بعد صراع وتحالفات بين مختلف أطياف ومؤثرات القرار التركي.
ومن المفيد تذكر الدستور الأول الذي كانت بمثابة أول دستور لتركيا عام 1920 أثناء التفاف الشعوب حول ماسمي “حرب الإستقلال” وكان أول برلمان لتركيا اسمه مؤتمر الكبير للشعب ولم يكن فيه صفة القومية التركية، وحضره نسبة 33% منه من الكرد ، ولكن بعد اتفاقية لوزان ودستور 1924 أصبح كل شي له صفة تركي وأعتبر كل من يعيش في تركيا هو تركي في تعدي صارغ على تنوع الحياة والطبيعة وعلى التاريخ والتقاليد المشتركة لشعوب المنطقة وبالأخص مييزوبوتاميا والاناضول.
وربما مايسمى مجلس الأمن القومي التركي الذي تم إقراره بعد انقلاب 1980م هو صيغة لتفيذ وإخراج القرار التركي بعد أن يتم تجهيزة خلف الكواليس وأخذ أراء القوى الرئيسية في المنطقة والعالم وذالك بإعطائه صيغة ولبوث تركياً لإعطائها الشرعية والقبول الشعبي التركي حسب مصلحة السلطات التركية.
وكان مصطفى كمال و أعضاء تنظيم الأتحاد والترقي وكذالك عدنان مندريس وكنعان أفرين وسليمان ديميريل وتركوت أوزال ونجم الدين أربكان من الشخصيات الموثرة إلى حد كبير في تركيا وقرارها ، لكن أغلبهم كانوا تحت التهديد المستمر لقوة الجيش ومن ورائها شبكة غلاديو ( الدولة العميقة) التي هي إمتداد للنظام العالمي المهيمن في تركيا ، وكان يتم التضحية بهم عندما يفكرون بغير المنط الجيو_سياسي الذي خلقت تركيا لها.
ويقول الكاتب الأمريكي غراهام فولر في تقيمه لتركيا يقول أن هذا البلد عرف ثلاث جمهوريات، الأولى في عام 1923 وهي التي أعلنها مصطفى كمال أتاتورك . أما الثانية فقد بدأت ملامحها في منتصف القرن العشرين عندما تحولت تركيا عن الكمالية العلمانية الصارمة ، ودخلت عهد ما سمى التعددية ثم انطلقت الجمهورية الثالثة مع نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي لذالك فهي تجربة لم تكتمل بعد. ولكن البعض يقسمها إلى أثين واحدة قبل حزب العدالة والتنمية وثانية مع حزب العدالة والتنمية كون الأثنين لهما إيدولوجية مختلفة لكن الأثنين ظل وجودهم على السلطة مرتبط بأجندة الغلاديو والأرغنكون.
وربما بعد التعديلات التي أحدثتها أردوغان وحزب العدالة والتنمية بعد الإنقلاب المزعوم في 2016 وكذالك تعديلات الدستور في 2017 وتحول تركيا لسلطة الرجل، أصبحت الدائرة الضيقة حول أردوغان من عائلته وبعض من الجماعات المؤثرة حوله وكذالك بعض من رؤوساء مجالس الأعمال التركية المشتركة مع الدول في الخارج لهم دور إلى حد كبير. وتبقى علاقة حزب العدالة والتنمة مع حزب الحركة القومية التركية ووجودهم في تحالف في الحكومة هو ذات دور مؤثر ليس على الحكومة بل حتى على قرار العدالة والتنمية بشكل كبير في عدة قضايا داخلية وخارجية وأن حزب العدالة والتنمية الأن يختلف عن بدايته في كل سياساته..
ويبقى تأثير الإعلام والرأي العام شبه معدوم بسبب سيطرة أردوغان وأذرعه الإعلامية على أغلب أو كل الأطر الإعلامية وحتى منصات التواصل الإجتماعية والانترنت وتقييد الوصول إلى كثير من المواقع المعارضة أو العالمية الإعلامية بمجرد عدم رضا السلطات عليها. وبالإضافة إلى اعتقال الآلف من العاملين بالحقل الإعلامي حتى لوضع اعجاب على منشور لم يرغب به السلطات. وفي السنوات الآخيرة تم التعبئة الشوفية والقوموية والفاشية للمجتمع نتيجة خوض السلطات لصراعات مختلفة في كافة المجلات ضد الشعب الكردي في الداخل ودول الجوار وكذالك مع الشعوب العربية نتيجة تدخله في ليبيا وقطر والصومال واليمن ووجود تأثير متزايد له عبرالإخوان في عدة دول عربية ومع شعوب شرق المتوسط وكذلك مع الشعوب في جنوب القوقاز. مع العلم بإمكانية تفجر المجتكع التركي في أي لحظة نتيجة الكبت والظلم والسجن والاعتقالات، وقد كانت هناك جولة في التعبير في أحداث حديقة أو منتزه غيزي عام 2013م، التي أخافت السلطات بشكل كبير. كما أن انتخابات البلدية وفقدان أردوغان اسطنبول خير رسالة من شعوب تركيا لأردوغان وزمرته الحاكمة.
والمتتبع للمعارضة ودورها في التأثير على القرار التركي يلاحظ، تبعيتها للجو العام المشحون بالفاشية لصالح السلطات وتجاوزاتها للقانون الدولي والإنساني، وعدم أخذها أي قرار جدي يخالف السلطات ربما لأنها أحزاب للدولة، وللدولة العميقة نفوذ قوي فيها أو أن قيادات هذه الأحزاب لا تريد خوض نضالات حقيقية لصالح الشعب، وتكتفي ببعض الامتيازات الشخصية والحزبية. فكل القرارات التي تعطي الإذن من البرلمان للسلطات في حروبها الخارجية ضد دول المنطقة وكذلك حربها الداخلية، كانت أحزاب المعارضة توافق عليها في البرلمان ما عدا حزب وحيد هو حزب الشعوب الديمقراطي ذو الغالبية الكردية، الذي يتبنى نهج مخالف ومعارض حقيقي لسياسات أردوغان المهددة للاستقرار والأمن في المنطقة.
وتبقى موضع تركيا وعلاقاتها مع القوى الفاعلة في النظم المهيمنة الإقليمية والعالمية وكذلك وضعها الاقتصادي الهش وحروبها العبثية ضد الداخل والخارج السلطة التركية تكيفها وتمررها مع مصالح الهيمنة العالمية وكذلك تحالفها مع الحركة القومية التركية والدولة العميقة، كلها تشكل وتؤثر في اتخاذ القرار التركي الحالي.
وبالتالي يبقى القرار التركي مرهوناً بما هو غير صالح للمجتمع التركي وعلاقاته مع شعوب المنطقة وجيرانه ووضعه بين أمم ودول الأرض.
ويمكننا أن نضع عدة احتمالات للسلطة التركية ومستقبلها في السنوات القادمة منها:
1ـ استمرار وضع وبقاء تركيا عضو في الناتو والمشاركة بالعمليات المشتركة للناتو واستمرار النموذج الحالي للسلطات بمواقفها غير المريحة، لكن تبقى ضمن المنظومة الغربية في الإطار العام. وكذلك التفاعل مع أمريكا والاتحاد الأوربي مع بقاء بعض المشاكل. وحل بعض المشاكل الخلافية مع الاتحاد الأوربي وأمريكا العالقة دون التسبب في توتر كبير.
2ـ صعود سياسي معارض في انتخابات 2023 والقيام بإلغاء التعديلات الدستورية التي جرت في 2017 والعودة للنظام البرلماني. وتبني سياسة خارجية وأمنية أكثر غربية ومتوافقة مع الاتحاد الأوربي وأمريكا. سيؤدي هذا الوضع إلى تطوير العلاقات مع السياسة الأمنية الأمريكية والأوربية والتفاهم معهم، وتحسين العلاقات مع العالم العربي، والاقتراب من القضايا الأساسية مثل الكردية والقبرصية وكذلك المشاكل الداخلية.
3ـ وجود علاقات لتركيا مع روسيا والصين وإيران وكذلك بقاء تركيا في الناتو. ومحاولة تركيا لخلق توازن أكثر وضوح. ومع وجود التحالفات المتقلبة. وهذا سيكون ضار لجهود الردع للصين ولروسيا من قبل أمريكا، وتزداد اهتمالية حدوث هذا في المستقبل إذا ظلت المشاكل التركية مستمرة مع الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية دون حل.
4ـ وصول انعدام الثقة المتبادل والخلافات السياسية مع الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة إلى نقطة الانهيار، وسوف تنفصل تركيا رسمياً عن الناتو وستقيم علاقات أوثق مع روسيا والصين وإيران، ومعها سيكون خطر نشوب صراع عسكري ومحاولة تشكيل الخريطة التركية من جديد وربما دعم أطراف داخلية متناقضة في نفس الوقت.
5ـ حصول انقلاب عسكري يطيح باردوغان وحزبه ومحاكمة أردوغان وحزبه بتهمة دعم الإسلاميين الراديكاليين والإرهاب وداعش. وإعادة تشكيل السلطة تكون لها علاقة جيدة مع الغرب وتقيم علاقات متوازنة مع المحيط.
6ـ فقدان أردوغان السلطة في انتخابات 2023 وعدم ترك السلطة والإدعاء بوقوع مشاكل ومحاولة الإعادة. وحصول انقسامات واصطفافات حاد في المجتمع التركي، تكون أقرب للحرب الأهلية وتستمر لسنوات قبل إيجاد الحل والتدخل من قبل القوى العالمية بعد أن تصل أوضاع تركيا الداخلية للمرحلة مطلوبة لشبيه بنهاية عبد الحميد الثاني.
وهكذا لو أخذنا كل الاحتمالات نجد أن تركيا قادمة على أجواء من التوتر والاضطرابات وربما لن توقف الشرارة عند الحدود التركية وسيكون لها تأثير على المنطقة والعالم. ويبقى من الأهمية التعامل مع الملف التركي بالحكمةو أقل ضرر على السلم والأمن الدوليين. وتبقى أهمية قاعدة أنجرليك كبيرة في تأمين التواصل مع الجيش التركي وفي إعطائها أدوار ربما تخرج عن كونها قاعدة. لكن احتمال فقدانها واردة مع زيادة التوترات أو عند ذهاب السلطة في تركيا أو القوى الغربية إلى خيارات أكثر حدية.
وهكذا نجد أن لفهم التدخلات التركية وسياستها في الإقليم وكذلك لإيجاد سياسات رادعة وكافية لمنع التمدد والاحتلال التركي للشعوب ودول المنطقة يتطلب معرفة دقيقة بكيفية سير النظام التركي وآليات صنع قراره وكذلك يتطلب معرفة بالداخل التركي وقضاياه وبنقاط الضعف والأماكن الرخوة للنظام والسلطات التركية حتى يكون وضع السياسات والبرامج لحماية شعوبنا ودولنا صحيحة وتأتي ثمارها وكذلك في تجاوز حالة الفوضى والاستقرار التي تحاول تركيا بأن يكون طويلاً قدر تمكنها من تحقيق أهدافها وهيمنتها الإقليمية. ويبقى التعايش المشترك وأخوة الشعوب وكذلك بناء تحالفات قائمة على الأسس الديمقراطية وعلى الاعتراف المتبادل بين شعوب المنطقة وكذلك بين دولها بالإضافة إلى بناء تحالف دولي ومنظومة علاقات ومصالح مشتركة تقف بالضد من الفوضى والاضطراب وتحقق الأمن والسلام والاستقرار لكل الشعوب وحتى للشعب التركي الذي ابتلي بأكبر مصيبة (أردوغان وحزبه) في حياتها حسب أحد المسؤولين الأتراك.