الحدث – دبي
معالي السيدة نورة بنت محمد الكعبي
وزيرة الثقافة والشباب بدولة الإمارات العربية المتحدة
أصحاب السمو والمعالي والسعادة،
الحضور الكريم،
إنه لمن دواعي السرور أن أشارككم اليوم في افتتاح أعمال هذه القمة التي تقام لأول مرة على هذا المستوى الحكومي الرفيع … هنا في هذه المنصة العالمية … اكسبو دبي … برعاية كريمة من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، تحت شعار تواصل العقول وصنع المستقبل… واسمحوا لي في مستهل كلمتي أن أتقدم بخالص الشكر لوزارة الثقافة والشباب ومركز أبو ظبي للغة العربية لما بذلاه من جهود مقدرة لجمعنا في هذا المحفل الكريم… وأخص بالذكر وزارة الثقافة والشباب، ممثلةً في شخص معالي السيدة نورة بنت محمد الكعبي، التي حرصت على أن تكون جامعة الدول العربية ضيف شرف للقمة في دورتها الأولى … وهي مبادرة تعكس وبصدق حرص القيادة الإماراتية والتزامها المعهود بتعزيز مكانة الجامعة العربية إقليمياً وعالمياً … والشكر موصول لكل من ساهم في إنجاح هذه القمة.
السيدات والسادة..
إنني أشرف بتولي أمانة منظمة إقليمية تستمد من العربية اسمها، وتتخذ منها عنواناً لوجودها.. الجامعة العربية هي حقيقة ثقافية قبل أن تكون رابطة سياسية.. وهي عنوان على وحدة الشعور والوعي بين الشعوب.. قبل أن تكون تجسيداً لطموحات العمل المشترك على مستوى السياسة أو الاقتصاد.
وقد لا يعلم الكثيرون أن أول اتفاقية أُبرمت تحت مظلة جامعة الدول العربية مباشرة بعد تأسيسها هي المعاهدة الثقافية بتاريخ 27/11/1945 وهي اتفاقية اهتمت بشأن اللغة العربية… إذ تضمنت في مواضع عدة من موادها موضوعات تتعلق بالترجمة وسن التشريعات وتوحيد المصطلحات العلمية بواسطة المجامع اللغوية والارتقاء باللغة العربية وجعلها لغة الدراسة في جميع المواد وكل المراحل الدراسية … وشكلت هذه الاتفاقية النواة الأولى لإطلاق مسار تعاوني عربي يُعنى بتعزيز اللغة العربية ودعمها … حيث انطلقت البعثات الدراسية لتعليم العربية بين الأجيال الجديدة من أبناء الدول العربية…وصدرت على إثرها توصيات عديدة من جامعة الدول العربية لدعم مكانة اللغة وحث المجموعات العربية داخل المنظمات الأممية والإقليمية لدفع هذه المنظمات إلى الاعتراف بالعربية بها لغة رسمية ولغة عمل … حتى تكللت هذه الجهود باعتمادها سنة 1973 كلغة رسمية سادسة في الأمم المتحدة … بما ينطوي عليه ذلك من رمزية استعادة العربية لمكانتها بين اللغات الحية في عالم اليوم.
ولا مبالغة في القول بأن اللغة العربية هي الركن الأهم في وحدة هذه الأمة… هي نواة ثقافتها الأصيلة ومحل هويتها الفريدة.. وهي أيضاً عنوان امتدادها عبر الزمن… وحلقة الوصل بين ماضيها وحاضرها.. والناقل للحمولة الحضارية الثرية التي تتميز بها الثقافة العربية، أدباً وفناً.. شعراً ونثراً.. علماً وفكراً… وهي فوق ذلك، وقبله وبعده، جوهر عالمنا الروحي والوجداني.. فالعربية هي لغة القرآن.. اللغة التي تنزلت بها كلمات الله منذ أربعة عشر قرناً… ونقرأ بها الكتاب العزيز إلى يومنا هذا.. وهي حالةٌ نادرة بين الأديان المختلفة والنظم العقائدية عبر العالم، وكانت عاملاً مهماً وراء ما تمتعت به لغة الضاد من بقاء واستمرارية عبر القرون الطوال.
لقد كانت اللغة العربية أيضاً هي البذرة الملهمة لفكرة العروبة.. وهي فكرةٌ لا تقوم على العنصر، ولا على الدين أو العرق … وإنما على المشترك الحضاري والثقافي، ووحدة التجربة التاريخية … لذلك ليس صدفة أن يكون من بين أول من نادى بهذه الفكرة –فكرة العروبة- من غير المسلمين.. لقد ظلت اللغة العربية رابطاً بين مختلف الأعراق والأديان في منطقتنا.. ونجحت نجاحاً باهراً في صهر الأقليات المختلفة في ثقافةٍ واحدة جامعة… فمسيحيو الشرق، على سبيل المثال، لهم إرثهم الديني المتميز وتراثهم الخاص، ولكنهم يبقون جزءً لا يتجزأ من الثقافة العربية … ويُمثلون مكوناً بارزاً في مسيرة الحضارة العربية.. ليس فقط بالانتماء وإنما أيضاً بالإسهام والمشاركة.. وقد كان ذلك ممكناً فقط بفضل اللسان الواحد الذي خلق وعياً مشتركاً عابراً للأديان والطوائف، حاضناً للعرقيات المختلفة التي تشكل نسيج مجتمعاتنا المتنوعة.
لقد استطاعت اللغة العربية بفضل جذورها الضاربة في عمق التاريخ جمع كافة الثقافات التي انفتحت عليها في حضارة واحدة عالمية البعد وإنسانية الرؤية … حيث أثّرت وتأثرت.. وأعطت وتلقت.. وأثرت الثقافات الأخرى كما أفادت منها … ويزخر تاريخ اللغة العربية بالشواهد التي تبين الصلات الكثيرة التي جمعتها بغيرها من اللغات، عطاء وأخذاً … واسمحوا لي في هذا الصدد أن أقدم تحية شكر وتقدير باسم كل محبي العربية لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى للاتحاد حاكم الشارقة… الذي قاد جهوداً كبيرة لإطلاق المجلدات الأولى من “المعجم التاريخي للغة العربية” وهو أول وأكبر مشروع يؤرخ لكل مفردات لغة الضاد وتطورها عبر التاريخ.
السيدات والسادة،
لا ننظر فقط إلى ماضي لغتنا الجميلة، وهو ماضٍ عريق جدير بالفخر والاعتزاز.. وإنما نمد بصرنا إلى مستقبلها.. وهو وثيق الصلة بمستقبل أمتنا على نحوٍ قد لا يدركه الكثيرون للأسف… ولستُ من أنصار التشاؤم أو التباكي على حال اللغة… برغم أنني أتفهم بواعث القلق والانزعاج لدى الكثيرين… فواقع الحال أن اللغة العربية لا تنحسر وإنما يزداد عدد المتكلمين بها ومن يقبلون على تعلمها لأسباب دينية واقتصادية وثقافية.. وتشير التقديرات إلى أن عدد الناطقين بها في عام 2050 سوف يُصبح 647 مليوناً… أي أن لغتنا لا تموت بل تنمو وتكتسب كل يوم ناطقين جدداً.
وقد اطلعت باهتمام كبير على تقرير حالة اللغة العربية الذي بذلت وزارة الثقافة والشباب الإماراتية جهداً مشكوراً في اعداده وتوفر عليه فريق من خيرة الخبراء … والتقرير يرصد بشكل جامع حالة اللغة العربية، ويشخص واقعها من زوايا مختلفة … ويقوم على رؤية علمية لا تُفرط في التشاؤم أو تتغافل عن الواقع… فيشير مثلاً إلى الانطباع السائد لدى الكثيرين بأن اللغة العربية في تراجع، بأنه انطباعٌ ” أقرب إلى الوجدانيات البكائية … ولا يقوم على معطيات ملموسة أو أدلة أو أرقام”… ويحذر من أثر هذه التراكمات النفسية لأنها “تدعو إلى الانهزام وتُرسخه في ذهن المواطن العربي”… والقارئ لهذا التقرير سوف يُدهش لكثرة وتنوع المبادرات العربية، الحكومية والأهلية، التي أُطلقت من أجل صيانة اللغة وحمايتها وتطويرها وتعزيز حضورها في المستقبل… ولا يفوتني في هذا الصدد التعبير عن استعدادنا لاحتضان حفل إطلاق النسخة القادمة منه في المقر التاريخي لبيت العرب “جامعة الدول العربية” لما سيكون لذلك من رمزية تُضيف إلى قيمته.
السيدات والسادة،
اليوم، ونحن في رحاب الأكسبو، لا أجد مجالاً أكثر مناسبة للحديث عن مستقبل لغتنا… إنها لغة شاعرة وبديعة.. ولكنها أيضاً يُمكن، وينبغي لها، أن تكون لغة عصرية.. اليوم نحن نتحدث عن مجتمع المعرفة.. المجتمع القادر على إنتاج المعرفة وتناقلها ومراكمتها من أجل تحسين أساليب الإنتاج .. ومن ثم مستويات الحياة.. واللغة ركنٌ أساسي في مجتمع المعرفة، لأنها من “الأصول غير المادية” التي تجعل انتاج المعرفة وتداولها ممكناً… ولا شك أن الانفصال في مجتمعاتنا العربية بين لغة العلم والتكنولوجيا، التي يستخدمها الخبراء -والتي كما نلاحظ جميعاً لا تكون العربية في العادة-… وبين اللغة التي يستخدمها أبناء المجتمع في التواصل .. وهي اللغة العربية.. هذا الانفصال وتلك القطيعة هو تحدٍ كبير تواجهه مجتمعاتنا.. لأنه يحول دون توطين التكنولوجيا والعلم.. ويحصر الاستفادة من ثمارها في فئات صغيرة لديها القدرة على الوقوف على آخر التطورات العلمية والمنجزات التكنولوجية بلغاتها الأجنبية… كما يقف عائقاً امام إطلاق الإمكانيات القصوى لمجتمع المعرفة في بلادنا العربية.
ولا أظن أن اللغة العربية قاصرة أو عصية على التكيف مع منجزات العلم أو مفردات التكنولوجيا الجديدة.. بل هي كما نعرف جميعاً.. لغة غنية في اشتقاقاتها … ثرية وطيعة في إمكاناتها وتراكيبها … وتقع على عاتقنا جميعاً، حكوماتٍ ومؤسسات ثقافية وتعليمية، مسئولية صياغة سياساتٍ واستراتيجيات تسد الفجوة الخطيرة بين اللغة العربية وعصر التكنولوجيا.. وبحيث تصير لغة صالحة لتلقي العلم في كافة المجالات، سواء في العلوم أو الإنسانيات، وفي أعلى المستويات الأكاديمية.. وهو أمرٌ ممكن، بل وضروري من أجل المستقبل.. ولا يعني أبداً أن نقصر في تعلم اللغات الأجنبية.. فكلا الجهدين مطلوب من أجل تكوين مجتمع المعرفة الذي ننشده… والذي يُطلق الطاقات الوطنية على أفضل نحو ممكن.
وفي هذا السياق، لا تفوتني الإشارة على نحو خاص إلى مشروع “النهوض باللغة العربية للتوجه نحو مجتمع المعرفة”، الذي اعتمدته القمة العشرون في الرياض عام 2009 بعد أن تم اقتراحه في قمة دمشق 2008” .
كما أود في هذا المقام التذكير بأن الأمانة العامة للجامعة، وبالتعاون مع شركائها، قد أطلقت مبادرة “شهر اللغة العربية” الذي من المقرر إقامته ابتداءً من يوم 21 فبراير القادم المصادف لليوم العالمي للغة الأم… وإلى غاية 22 مارس تاريخ تأسيس جامعة الدول العربية … وأدعو في هذا الصدد كل محبي اللغة العربية إلى التعاون معنا لإنجاحه.
السيدات والسادة،
أقول في الختام، إن اللغة كائن حي .. ينمو ويتطور.. وتستمد اللغة قوتها وحيويتها من مدى حرص أبنائهم عليها واعتنائهم بها… وقد أعطتنا لغتنا الكثير.. أعطتنا الثقافة والحضارة.. ومنحتنا الثقة في أنفسنا وفي منجزنا الإنساني.. وواجبنا ومسئوليتنا جميعاً ألا نُقصر في حقها.. وأن نمنحها إمكانيات التكيف مع المستقبل.. لأن مستقبلنا لن ترسمه سوى حروفها البديعة وموسيقاها الأثيرة في القلب والوجدان.
شكراً لكم.