فراس حج محمد/ فلسطين
في الواقع لن يقبل كثير من المفكرين والمثقفين مسألة ارتباط أمر علمي بالدين ونصوصه العامة التي قد يَستشهد بها المتدينون في محاولتهم تفسير المسائل المستجدة، فقد تم برمجة عقل العالم أن ما لله لله، وأن ما لقيصر لقيصر، وما للعلم فإنه لا دخل للدين فيه، ولا يقتنع ذلك الفريق بتاتا بأي تفسير ديني يتناول قضية علمية، بل يرون ذلك أحيانا شعبوية وتسخيفا وجريا وراء أوهام. مع أن المتدينين عموما ليسوا “ملة” واحدة، فهم مختلفون في نظرتهم، بين من يرى النوازل عامة هي عقاب من الله لا راد له، أداة يؤدب الله فيها البشرية كلما ابتعدت عن الحق حسبما يعتقدون، وإن ذهب الصالح في ذنب الطالح، فالعذاب سيقع على الكل، وعندما يبعثون للحساب يوم القيامة، يُبعث كلٌّ حسب نيته. فالعذاب الدنيوي شامل، والرحمة الآخروية منتقاة.
وثمة فريق يرى أنْ لا شيء يحدث في هذا الكون جبرا عن الله، وإن لم يفسر الأمر عقابا وتأديبا، فهو يراه من سنن الكون أو من أمور القضاء التي تقع على الإنسان أو منه جبرا عنه، ولذلك لا يحاسب عليها، وليس له دخل في إيجادها، فهي ليست عقابا من وجهة نظرهم، وإن لم ينفوا أن تتضمن عذابا ما لفريق من الناس، ورحمة لفريق آخر، لكن الفكرة في وعيهم لا تأخذ أكثر من التسليم لقضاء الله، وهم أيضا عكس الفريق الأول يرون إمكانية مواجهة الجوائح والأمراض والتغلب عليها، فهم يؤمنون أنه لا داء إلا وله دواء، وعلى الإنسان أن يجتهد للوصول إلى هذا الدواء، فهم يتغلبون على قضاء الله بقضاء الله أيضا.
هذه المسألة مهمة في النظر إلى التبعات الأخيرة التي يواجهها العالم نتيجة ما اجتاحه من مصائب متولدة عن فيروس كورونا، فهذه التبعات كانت ثقيلة ومتشعبة ومتداخلة ومعقدة، سياسية، اقتصادية، ثقافية، وصولا إلى مسألة الفلسفة الكلية التي يمكن أن تعالج بها تلك التبعات أو أن تكون سببا فيها.
برزت المسألة الثقافية بروزا واضحا في جائحة كورونا، ولعل أكثر سؤال يمثل هذه الناحية، لماذا كانت مصائب هذا الفايروس في الغرب (أوروبا وأمريكا) والصين أكثر من العالم الإسلامي؟ سيتناول أصحاب النظرية القدرية المسألة بشكل مختلف، بإجابة مختصرة، وانتهى الأمر ولا يكلفون أنفسهم عناء التحليل المنطقي، أو الموضوعي المستند إلى الدين باعتباره المشكّل الأساس للمسألة الثقافية، في حين أنك ستجد أن الاتجاه الآخر المتدين يعدد أسبابه ليرى أن الغرب أعرض عن ذكر الله ولذلك فإن له معيشة ضنكا، وليس هناك ما هو أكثر ضنكا مما يمر به العالم اليوم، ومن المتوقع أن يصل إلى الركود الاقتصادي الكامل، ويؤدي إلى شلل كل مناحي الحياة، بما فيها تضاؤل فرص توفر الغذاء والتطبيب والرفاهية، بل ليس هناك من ضنك أشد من الإجبار للمحافظة على الصحة أن يختار الفرد مرغما “الحجر المنزلي”، بمعنى آخر يختار سجنه بكامل إرادته، لأنه إن خرج سيزدرده الفايروس ويقضي عليه.
هذا التأسيس الأول للمسألة الثقافية في التعامل مع الفايروس ولكن له دعائم نصوصية أخرى من القرآن الكريم وأحاديث النبي محمد (ص)، فيستحضر هذا الفريق: “وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر”، “وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير”.
والجانب الآخر المتعلق بالمسألة الثقافية وعلاقتها بالفايروس وانتشاره على نحو مفزع في الغرب هو مسألة العبادات والتطهر من الأرجاس والنجاسات، فتكتشف كم للوضوء والاغتسال والنظافة الشخصية من فوائد، وبما أننا مسلمون ومحافظون على تأدية العبادات بطهارة لباس وبدن فإن تعرضنا لفتك الفايروس سيكون أقل. تبدو المسألة منطقية نوعا ما، ولكن سيبدو للحظة أن الغرب، كيانا وأفرادا وثقافة، معبأ بالنجاسة، بل هو أساس النجاسة المادية في هذا الكون، ولذلك فتك الفايروس فيهم فتك شديدا، فقد وجد أمامه مجتمعا هشا ضعيفا متهالكا فتمكن منهم بهذه السهولة المتناهية في التوصيف والتحليل.
وأما الجانب الثالث من المسألة الثقافية فهو ما يتعلق بالطعام والشراب وعادات الأكل عموما، ماذا سترى في هذه المسألة تجد أن الغرب يشرب الكحول ويتناول الأطعمة الجاهزة، ويدخن ويتعاطى المخدرات ويسهر كثيرا، إذن فإن أكله غير صحي وغير شرعي، بمعنى أن تلك الأطعمة كانت سببا في انخفاض مستوى المناعة فأدى إلى ما أدى إليه من كثرة الضحايا. ويرتبط مع هذه المسألة مسألة العفة والزواج والتركيبة الاجتماعية والعمرية للناس في الغرب، فأكثر مجتمعات الغرب هي مجتمعات هرمة، وتفسر كثرة الضحايا بأنهم من كبار السن وممن يعانون من أمراض أخرى. في حين أن المجتمعات الإسلامية مجتمعات فتية، ومناعة أفرادها أعلى، وكأنه لا يوجد فيهم مسنون ولا مصابون بأمراض مزمنة وخطيرة.
تبدو المسألة الثقافية في ارتباطها بفايروس كورونا شديدة التعقيد فعلا، كون الغرب لا يواجهها طبيا أولا، بل يواجهها ثقافيا، ويفرض كثيرا من السلوكيات ذات المدلول الثقافي على الأفراد لعلهم ينجون من براثن هذه الجائحة الكبرى، فيكتسب “الحجر المنزلي” أهمية طبية وشفائية وقائية بالقدر نفسه الذي يؤشر إلى الجانب الثقافي، ففرض نتيجة ذلك على المجتمع “التباعد الاجتماعي”، وما يعنيه من مسائل ثقافية أيضا من عدم التقبيل والمصافحة والاجتماع، ما يعني عند أصحاب المسألة الثقافية منع كثير من المعاصي والآثام جبرا عن الأفراد، فلا لقاءات خاصة ولا عامة ولا اختلاط نساء ورجال، ولا تبرج ولا أعمال مخلة بالآداب، وأصبح المجتمع في الشارع يخلو من مظاهر “الفسق” و”الانحلال”، وكأن التفسير دائما هو تفسير ثقافي بالدرجة الأولى.
وربما ابتعدنا أكثر في تفسير الحالة ثقافيا، فهذا الفايروس استطاع خلال فترة قصيرة اختبار مفاهيم العولمة، فانهارت كل تلك المنظومة الفلسفية دفعة واحدة، هكذا سيفسر أتباع النظرية الثقافية انكفاء كل دولة داخل حدودها، والرجوع إلى مقرراتها وثقافتها، ولعل العالم لاحظ شيئا من ذلك عندما أخذت الصين بترويج “الطب البديل” القائم على التداوي بالأعشاب باعتباره جزءا من منظومة ثقافية خاصة بالصين، وأجبرت منظمة الصحة العالمية على الاعتراف بذلك، وكذلك دفع الفايروس الشعوب الإسلامية إلى أن تحدق أكثر في ثقافتها وتنبش الماضي لتحارب وحدها بآلياتها الثقافية وباء عالميا.
ستظل مسألة الثقافة وارتباطها بالفايروس ذات فاعلية فكرية وواقعية ما دام العلماء عاجزين عن فك لغز الفايروس وتفكيكه والقضاء عليه أو السيطرة عليه طبيا وعلميا، وسيفسر أيضا هذا العجز تفسيرا ثقافيا، يعود إلى الفلسفة التي تحكم المجتمع الغربي في كون أفرادهم تحكمهم “اللحظية” والأنانية، وتتحكم في عقول الساسة “الميكافيلية” وحب السيطرة، ولذلك ستُرجم الرأسمالية بعنف ثقافي كبير جدا، وستتحمل مسؤولية فشل العلم والعلماء في مواجهة الوباء العالمي، فهوس الدول الكبرى في السيطرة على العالم جعلها لا تهتم بالناحية الأخرى الصحية، وفجأة سيكتشف العالم بما فيهم أدعياء المسألة الثقافية النتائج الكارثية للرأسمالية على صحة الفرد الغربي، مع أن المفكرين عموما ليسوا بحاجة لكورونا ليكتشفوا أن العالم أجمع يعاني من الفشل نتيجة هذه الرأسمالية المتغولة.
على ما يبدو ذهبت المسألة الثقافية بعيدا في تفسير “الفايروس” وظروف نشأته، وارتبطه بنظرية المؤامرة التي يعد لها منذ عقود، وظهرت عند فريق من المحللين ذات بعد دراماتيكي مخيف مجللا بالغموض، ليكتشف هذا الفريق “المثقف” بالأعمال الأدبية والسينمائية والأحداث التاريخية المشابهة أن ثمة من يحكم العالم ويخطط له منذ زمن بعيد، ولا شيء يحدث في هذا العالم خارجًا عن نطاق هذه الجهة غير المعلن عنها، لتكتسب هالة من التعظيم غير المصرح به، وكأنها هي الإله الحقيقي المسيطر على كل صغيرة وكبيرة فيه، فهم من خططوا لجرائم الفايروس، وبثوا ذلك في أعمال أدبية قديمة تجاوز عمرها ثلاثة عقود أو أكثر لأدباء ظهروا وكأنهم مأجورون، لا عمل لهم سوى أن يكتبوا على شكل رواياتٍ سيناريوهاتِ الفناء للعالم، تلك السيناريوهات التي ترسمها آلهة محتجبة لا نرى منها إلا الانتقام والشر عن طريق بث الأوبئة والفايروسات. ربما أشارت هذه الناحية الثقافية إلى “وثنية” التفكير، لكنها وثنية خارجة أيضا من رحم التحكم والسيطرة الإلهية لآلهة تحب الشر وتخطط له للإيقاع بالبشر، لأنهم كائنات وجدت لتتسلى بها الآلهة في لحظات الملل من أفعال البشرية، فما عليها حتى تكسر ذلك الروتين إلا أن ترسل جنودها المجندة لتفتك بالضحايا، وتجلس تلك الآلهة على عروشها مستمتعة بما تشاهد من أفلام رعب حقيقة، فالآلهة أيضا ترغب في كسر القاعدة، ولا تسعى أن يظل العالم سائرا على وتيرة واحدة. إنها الآلهة فمن يحاسبها؟ وما فايروس كورونا إلا واحد من قائمة جنودها المدّخَرين لديها لوقت الحاجة، ومتى أرادت أن تكسر إيقاع الحياة مرة أخرى إذا ما شعرت بالملل من جديد فبإمكانها فعل ذلك وتربك العالم في جائحة أو مصيبة أخرى قادمة.
– خبر 24