“كورونا”.. وحل العصرانية الديمقراطية
أحمد شيخو
إن كان فيروس “كورونا ” قد أكد مجددًا على وجود أزمة في بنية النظام العالمي المهيمن وأدواته من الدول القوموية وعلى عدم تمثيل هذه الانظمة وسلطاتها لمصالح الشعوب والمجتمعات وكذلك عدم قدرتهم في الدفاع وتأمين أبسط الحقوق الإنسانية ومنها حق الحياة وتأمين الحماية الصحية لهم بالإضافة إلى الأمن الغذائي والإقتصادي وكذالك عدم تحقيقهم للإستقرار المطلوب للتنمية والتطور. إنما يكشف بكل بد أن البحث عن نظام عالمي جديد أمر لامفر ولابد منه وخصوصًا في ظل الأصوات القادمة، سواءً من المناهضين له الذين يريدون تجاوز مايسمونه “النظام النيوليبرالي” أو الأصوات القادمة من داخل النظام الرأسمالي ومنظريهم في البحث عن نظام عالمي جديد مع الحفاظ على المبادئ الليبرالية للنظام العالمي الذي هو بالاساس يبحث عن طرق لتجاوز أزمته وتجاوز أدواته السابقة من نمط الدولة القومية والرأسمالية والصناعوية التي كانت سعيه وهدفه فقط عن المال و الأرباح الأعظمية حتى في المجال الصحي كما أظهرت جائحة “كورونا”. وذلك بإستغلال كل إنجازات البشرية وعلومها وجهدها لخدمة سلطتها وهيمنها.
مهما تعددت الحلول المقترحة لأزمة “كورونا” والنظام العالمي فإن الحل الذي لايستند الى الفكر المجتمعي أو الحقيقة الاجتماعية إنما يعكس كيف يتم النظر الى الظواهر الإجتماعية والأزمات وكيف يتم ربطها بالقوانين الفيزيائية والكيميائية المجردة من الحس والروح وكذلك إلى الفصل بين الذات والموضوع ، التي أنتجت أغلب السلوكيات والإجراءات التي تعكس الذهنيات الهيمنية والسلطوية والديكتاتورية الدولتية المركزية، مع العلم أن فيزياء الكم أكد على أهمية الإلتزام بالكلياتية و وحفظ الاختلاف في الوحدة وكذالك بين خطأ كل هذه القوانيين والمقاربات التي أنتجت الاستبداد والقمع والابادة في الحقل السياسي والعسكري .
لقد كانت الحقيقة الشرقية واهنة ومهزومة أمام حقيقة النظام الرأسمالي الغربي العالمي بعد القرن الثالث عشر لما تحمله الرأسمالية من القدرة في التعبير عن قوة المعنى والحياة للظواهر الإجتماعية ولذلك إنهزم من كان يدعي تمثيل الشرق من السلطات والطبقات الفوقية التي رأت مصالحها مع النظام المهيمن والذين لم يكونوا قادرين على تحديد مسار الذهنية وإرادة الحياة في مجتمعاتهم.
لقد انهارت الإشتراكية المشيدة(النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي وبعض الدول) ولم تستطع أن تصبح حداثة (نظام حياة) جديدة ومختلفة عن الحداثة الرأسمالية الليبرالية وبل اتجهت نحو المغالاة من الرأسمالية البيروقراطية ورأسمالية الدولة سالكة بذلك طرق الرأسمالية وأدواتها ولو بغير قصد في بعض الأحيان .
لعل الحركات السلطوية والدولتية كما في تركيا وإيران وبعض الدول الأخرى والتي يمكن وصف حداثتها المطروحة استنادًا الى التقاليد الإسلامية السياسية الشيعية والإخوانية بالمنحرفة والضالة والمخادعة وإجراءاتها لمواجهة “كورونا” خير دليل. كما أنهم لن تستطيع الوصول إلى عتبة النظام الرأسمالي ومركز هيمنتها في المنطقة (إسرائيل) لزيف ولكذب حقائهم التي يحملونها ويدعونها وخصوصًا إدعاءهم بالاستقلال والوطنية فالثلاث تركيا الأردوغانية وإيران الشيعية واسرائيل الصهيونية لهم نفس المنطق والمنبع والمحرك.
يجب أخذ انتقادات الحركات الإيكولوجية والبيئية بعين الإعتبار كون الراسمالية تجاوزت أغلب الدورات الطبيعية للحياة والطبيعة و ضحت بها لتحقيق ربحها .ويجدر التركيز أن الحركات الفامينية والنسائية ورغم نواقصها لتمكين المراة ولضمان حريتها ،يشترط الأخذ بها عند البحث عن نظام جديد للمنطقة والعالم.بالإضافة الى تقدير قيمة الكدح الإنساني وضرورة احترامه في طرح أو أي مشروع للحل.
بالرغم من الانتقادات الموجهة الى الأنظمة المدعية بالإشتراكية وتجاربها الفاشلة، لكن يجب الأخذ بما هو من صميمها المناهض للرأسمالية الليبرالية وكذلك يجب القيام بالتحليل العلمي المعاصر للثقافة التقليدية في منطقتنا الشرقية مع تجاوز النظرة المحافظة التعصبية.
إن طرح العصرانية الديمقراطية وقوة الحل التي يحملها مقوماتها الأساسية وبحداثتها البديلة يشكل أحد الحلول المقترحة المرتكزة إلى :
1_الأمة الديمقراطية:
مع قطع أوصال المجتمعات والشعوب من قبل الدولة القومية التابعة للرأسمالية الليبرالية كالجزار فليس هناك من نظرية إجتماعية قادرة على جمع وإعادة توحيد المجتمع البشري العالمي وإحيائه ضمن أجواء مفعمة بالحرية سوى الأمة الديمقراطية التي تستند إلى الإرادة والذهنية المشتركة والتكامل الثقافي للمنطقة. والتي تهدف إلى وقف الممارسات السياسية الداخلية والخارجية للدول القومية والتي أنتجت حملات للإبادة والإنكار ولعل التطهير العرقي بحق الكرد من قبل تركيا المستحدثة خير دليل. فالأمة الديمقراطية تعني وقف التقطيع و التمزيق للوحدة الثقافية للمنطقة والتخطيط للعالم الذهني اللازم للبدء بالوحدة التكاملية وكذالك إحتواؤها على قيمة مبدئية لتوحيد العالم الثقافي للمنطقة تحت إسم إتحاد الأمم الديمقراطية كبديل لمشاريع النظام الرأسمالي من الشرق الأوسط الكبير أو الجديد أو إستمرار النظم القوموية التي اوجدها الرأسمالية بعد الحرب العالمية الأولى في المنطقة . وهذا يكفي لإفراغ سياسات فرق_تسد وكذالك وضع حد للفكر المطلق والاحادي والاقصائي للدولة القومية. وبذلك تكون الأمة الديمقراطية هي الإطار الأكثر توحيدًا للشعوب والثقافات المتميزة بالغنى الكبير.وكذالك يشكل المجتمع الوطني الديمقراطي ضمانة السلام والأمن والحرية والحياة الديمقراطية في وجه كارثة الدولة القوموية كأسلوب لتنظيم الحياة والإدارة مع الحفاظ على الحدود الموجودة وعدم هدم الدول الموجودة .
2_الاقتصاد الكومينالي (التشاركي) الديمقراطي:
إن المجتمع الذي جعلته الراسمالية حشد من العاملين العبيد والعاطلين عن العمل كنتيجة للصوصيتها ولسعيها للربح دون أية إعتبارات أخرى. وحتى أن “بروديل” يقول أن الرأسمالية ليست اقتصادا بل احتكارا ونزعة احتكارية فردية وخاصة كانت أو دولة وذلك من خلال السعي نحو تدمير وإضعاف خلايا المجتمع وأنسجته الأساسية وأخلاقه . مع الإشارة الى أن التفكك الحاصل للإقتصاد المجتمعي فتح التفكك والدمار الحاصل في حقول الأخلاق والسياسة والإقتصاد. ومن الأفضل تجاوز الرأسمالية الخاصة ورأسمالية الدولة التي تجعل من 1% من الناس يتحكمون بأغلب أقتصادات الدول والمجتمعات أو التي تجعل من دولة او دولتين مثل أمريكا والصين تملكان 25% و16% من الناتج العالمي نتيجة لإحتكاراتهما للإقتصاد العالمي
والاقتصاد الكومونالي( التشاركي) المقترح لايجب حصره في مجالات معينة بل يشمل جميع المجالات من العلم والمهن والصناعة والزراعة والتقانة والمعلوماتي. مع التأكيد على تحقيق التوازن بين المدينة والقرية، ذلك التوازن الذي ضحت بها الرأسمالية بالإضافة إلى الإبادات البيئية المختلفة وكذلك إقامة السدود والتضحية بالثقافات النهرية المجتمعية. وكذلك يجدر الإشارة إلى تعويل الدولة القومية على تحقيق المجتمع النمطي بناءً على بعثرة الحياة التشاركية في المنطقة لأنها تعتبر الحياة المشتركة والمجتمع الجماعي والإقتصاد المجتمعي التشاركي حجر عثرة أمامها وما يلائم الراسمالية هو الحشد المؤلف من الأفراد معدومي الضمير والشخصية والهوية لديهم تضخم الأنا البعيدة عن كل الإلتزامات الأخلاقية تجاه الأخرين أو حتى مجتمعه.
والحل الحقيقي وتجاوز الأزمة تعني إنجاز الحياة التشاركية التي تمكّن وتعزز وجودنا التاريخي وإرساء دعائمها في مختلف الحقول الإجتماعية.
3_الصناعة الإيكولوجية:
نعرف الصناعوية الرأسمالية بأنها التوظيف والإستغلال للتقدم التقني والمعلوماتي في خدمة ميول الربح الأعظمي وتفتيت المجتمعات، وعندها يتم تحويل المجتمع إلى ربوتات وألات ميكانيكية ، وكذلك حصر العالم بوسائل افتراضية تقنية ومدن كبيرة منقطعة عن البيئة الطبيعية تتحول إلى وحوش للإبتلاع وأجواء من الأمراض والتلوث السرطاني والضجيجي مع حصر ودفع البشرية إلى سجن و إلى عالم افتراضي كما في حالة الحجر نتيجة فيروس كورونا لتسهيل التحكم به وتوجيهه حسب الرغبة الدولتية والرأسمالية .
وما اقتصاد النظام العالمي المهيمن و أدوات الحرب والشركات المصنعة لها وكذالك الشركات العابرة والمدراء التنفيذيين والمؤسسات والقوانين التابعة لها سوى أدوات دمار وهيمنة مسلطة على الطبيعة والإنسان في العالم طالما هدفهم فقط الربح دون أي إعتبار ومن المؤكد أنهم سيكونون السبب في كثير من المصائب والويلات كجائحة كورونا وسيموت الناس وسيفشل أنظمتهم الصحية وسيأتي الركود الإقتصادي من كل بد كما هي في وضع جائحة كورونا .
والعصرانية الديمقراطية تجعل من مواكبة التقدم العلمي والتقني والمعلوماتي وإستخدامها في مجال الصناعة ضرورة لابد منها ، لكنها تعتبر الصناعة ككل متكامل، لها قيمتها بقدر ما تساهم في تمكين وجود المجتمع وتعزيز أركانه الأخلاقية والسياسية والرقي به ديمقراطيًا وإقتصاديًا.
إن الظروف الزمانية والمكانية الشاهدة على نشوء القضايا والأزمات تحتوي بين طياتها ظروف الحل أيضًا وكما تم تجاوز الكثير من الويلات سيتم تجاوز جائحة كورونا لكن بكل تأكيد قبل كورونا وبعدها مختلف.
وباعتبار منطقتنا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أو المشرق المتوسطي كانت مهد الإنطلاقات الكبرى في تاريخ البشرية كما حصل على أطراف سلاسل جبال طوروس وزاغروس ونهري الدجلة والفرات أو على حواف النيل هنا أيضًا تستطيع شعوبها من تقديم الحلول و بخاصة تلك الجغرافيات التي قلما شهد نماء وتطور الرأسمالية والدولة القومية والصناعوية فهم أكثر مقدرة على الإستفادة من وضعهم وتحويلها إلى قدرة لتنظيم جميع الطاقات البشرية ضمن مشروع العصرانية الديمقراطية المجتمعي والأخلاقي والإيكولوجي لتعيد بلاد الجنان القديمة وكل المنطقة في هيئة العصرانية الديمقراطية وإتحاد الأمم الديمقراطية كحل لكل الأزمات والويلات ومنها كورونا. ولأجل ذالك يكفي فقط التحلي بكرامة وعزة العيش في بلد حر ومجتمع ديمقراطي.