ارتبطت تربية الخيل منذ القدم بالبطولات والفتوحات والفروسية، وكانت الخيول من أهم وسائل الدفاع ووسائط الفتوحات إذ كانت وسيلة لنقل المقاتلين وتَنَقُّلهم ومن أهم ضرورات الحياة اليومية، كذلك فكانت تستخدم للنقل والصيد إلى جانب استخدام البغال والثيران في الحراثة ونقل الأمتعة والبضائع.
أما ترويض وتدريب الخيل فتلك مهنة ووظيفة هامة وأساسية في تاريخ الشرق وإن كان الكرد الآريون الميتانيون والكيشيون أول من أدخلوا الخيول والبغال والحمير إلى بلاد النهرين في نهاية الألف الثالث ق.م، والكرد الهوريون شاركوا الميتاميين في تأسيس الدويلات ودولة الهفسوس – هكسوس في مصر والإمبراطورية الميتانية في منتصف الألف الثاني ق.م في ميزوبوتاميا.
الكاتب والباحث في الآثار رستم عبدو يتحدث في هذا المضمار عن أهمية تدريب الخيول وأهم مدربيها في الشرق القديم في دراسة منشورة في مجلة الحوار بعنوان “كيكولي الحوريُّ الميتانيّ أحد أعظم مدربي الخيول في الشرق القديم”: “كيكولي حوري ميتاني عاش حوالي 1350 ق.م في إحدى المدن أو المقاطعات الحورية – الميتانية في عهد ملكها توشرتا الذي كان يتخذ من واشو كاني عاصمة له, انتقل كيكولي إلى الأناضول ليعمل في البلاط الملكي الحثي في عهد الملك شوبيليوليوما الأول ملك خاتي، كخبير لتدريب الخيول التي تقود العربات الحربية. ويعتقد أن قدومه للعمل في البلاط الملكي الحثي جاء بعد صفقة عمل كبيرة شملت الأمور المالية والمنصب البارز الذي تقلده في القصر”.
الكاتب يشير كذلك إلى أن كيكولي كان “أحد أعظم مربي الخيول في الشرق القديم خلال فترة الألف الثاني ق.م ومدون أولى الكراسات الاحترافية التي تسلط الضوء على العناية بتربية الخيول وتدريبها والتعامل معها وفق الأسس العلمية والمنهجية”.
ويظهر جلياً أن مكانة مربي ومدربي الخيول وقتذاك كانت جليلة فقد كانت له وظيفته البارزة في القصر، كما أن عمله في التدريب و انتقاله احتاج إلى الكثير من النقاشات والتفاوض إلى أن قبل بتلك الوظيفة مما يدل على مكانة المربي وأهمية الخيل في تلك الفترة، لا بل إن كيكولي وضع أول كتيب في التدريب والترويض وبشكل علمي مدروس وعن خبرة طويلة وكان له اسمه الاحترافي الذي عرف به assu ussa anni – ومعناه العارف بالخيول. وقريبة من عبارة Asva-sana السنسكريتية التي تعني مدرب الخيول، كما يقول الكاتب.
أما فيما يخص الكراسة أو الكتيب الخاص بالتدريب والمعروف كأقدم كتيب بهذا الشأن فيقول: “دوّن النص من قبل أربعة كتاب ذوو أصول حورية ممن كانوا على دراية باللغة الحثية مع وجود اختلاف في مستوياتهم ودرجة إتقانهم للغة والكتابة الحثية. أما النص فبدا كالتالي: هكذا تكلم كيكولي مدرب الخيول من أرض ميتاني” وفي ذلك مدلول على العديد من المعاني والمدلولات التي تدل على أهمية اسمه الذي ربما كان قد اشتهر في تلك الفترة وكذلك على أهمية موطنه الأصلي, حيث يبدأ باسمه (كيكولي) وهو ما يفسر أنه أحد أعظم مدربي الخيول على الإطلاق في عصره”.
ومن خلال قُرّاء الكتاب وعودة للعديد من المراجع التاريخية, وفي تعليقه على ما جاء في بداية الكتيب يتضح أن كيكولي كان فارساً في البداية يعشق الخيول، إلى جانب أنه ترعرع في بيئة كانت على معرفة ودراية واسعة برعاية وتربية الخيول, وهو ما صقل معارفه وخبراته.
ثم يدلنا الكاتب إلى نقطة هامة في مدلول الإشارة إلى “ميتاني”: “يشير إلى أنه من أرض ميتاني وهو ما يدل على قوة الدولة وهيبتها آنذاك, الدولة التي شكلت أول إمبراطورية شعبية سياسية توسعية خلال الألف الثاني قبل الميلاد، وامتدت حدودها من زاغروس شرقاً حتى البحر المتوسط غرباً، وكان مركز حكمها مناطق حوض الخابور العلوي وعاصمتها واشو كاني”.
النص اكتشف عام 1906- 1907م في العاصمة الحثية خاتوشا (بوكازكوي الحالية) خلال تنقيبات البعثة الألمانية بإدارة هوغو فينكلر مدون على أربعة رقيمات (رقم طينية) وأجزاء مهشمة من رقيم خامس بلغة حثية مسمارية, يعود تاريخ تدوينها إلى ما بعد عام 1350 ق.م وتحوي 1080 سطراً.
قواعد وأصول في تأهيل وتدريب الخيول
في تفاصيل الكتيب التدريبي يتابع الكاتب رستم عبدو: “تحدث كيكولي في تلك الكراسة مطولًا عن أصول قواعد تدريب الخيول وتأثيرها فيا لثقافة الحثية, وكيف أن الحثيين استعانوا بالخبرات الميتانية، وكذلك تحدث عن تدريب وتأهيل الخيول الفتية من الناحيتين الجسدية والنفسية ضمن برنامج عمل يستغرق سبعة أشهر يبدأ مع فصل الخريف.. وكان التركيز بشكل أساسي على تقوية الهيكل العظمي للخيول وكذلك تقوية عضلات القدم والساق والقلب والأوعية الدموية.
تناولت الكراسة عدد أيام التدريبات التي كانت تبدأ في فصل الخريف خلال الفترتين الصباحية والمسائية, والمدة الزمنية لها والتي كانت تستغرق 184 يوماً، وفواصل الراحة وتقنية المعالجة الطبية الرياضية التي كان مارسها على تلك الخيول كالتدليك, كما تناولت طرق التدريب كالركض البطيء أو السريع والهرولة والمشي لمسافات مختلفة تصل في بعض الأحيان لـ 150كم, كذلك تناولت الكراسة الطرق المعينة لتهيئة الخيول على تحمل الأوزان من خلال التركيز على تقوية البنية الجسمانية والعصبية والعضلية لهم, وعلى وجه الخصوص عضلات القدمين. كما تطرقت الكراسة إلى عملية إخضاعهم لجلسات السباحة بماء النهر (من 3 – 5 جلسات) ومن ثم غسلهم بالمياه الساخنة ثم الباردة بعد كل جلسة سباحة، وأيضاً تطرقت إلى نظام التغذية عندهم وعدد الوجبات (3 وجبات في اليوم على الأقل) ونوعية الأكل (الشوفان والشعير والتبن) ناهيك عن الإرشادات التي كانت تخص حصص الأطعمة وكميات المياه اللازمة للشرب والتي كانت تشمل المياه المالحة – التي كانت تقدم للحصان بعد المجهود الكبير الذي كان يبذله خلال التدريبات والتعرق – وأيضاً المياه العادية أو ماء الشعير. كانت التدريبات التي تتلقاها الخيول الضعيفة من الناحية البنيوية تختلف عن تلك التي تتلقاها الخيول القوية, إلى جانب أن الخيول كانت تخضع خلال الحصص التدريبية لتمارين بدون عربة كمرحلة أولى ثم مع العربات كمرحلة ثانية والتي كانت تشمل القيادة والمناورة والسرعة والوقوف والالتفاف السريع.
العربة الميتانية
يذكر أن الخيول كان تستخدم مع العربات الحربية خلال المعارك في تلك الفترة وقبلها والتي تميز بها الميتانيون عن غيرهم إلى جانب تفوقهم في تربية الخيول واستخدام القوس, حيث أن العربة الميتانية كانت أكثر خفة وديناميكية من سابقتها السومرية, تجرها خيول (غالباً حصانان) ومكونة من عجلتين خشبيتين من النوع الصلب، يغطي إطارها حوالي 12 جلدة من جلود الماعز, وتعقد تلك العجلات إلى محور متحرك يؤمِّن سهولة الحركة والالتفاف والكبح، وينتهي بمنصة أو مؤخرة تستعمل كأرضية لرفع أو حمل الجنود وتساهم في قدرة المناورة حيث أن أرضية المنصة أيضاً كانت مفروشة بحوالي 9 أو 10 جلود لكن من جلود الغنم.
كان يقود تلك العربة طاقم مؤلف من عدة أشخاص, السائق أو قائد العربة وكان يحمل لقب الماريانو (الفتى الشاب أو الفارس) ويمثل طبقة النبلاء أو الأشراف وهم النخبة العسكرية في الإمبراطورية الميتانية إلى جانب رامييَن للسهام وحامليَن للرماح, وغالباً ما كان يقتصر الطاقم على السائق ورامي السهام.
تدريب وتأهيل الجنود والخيول أساسيات في المعركة
كان طاقم العربة يرتدي لباساً طويلاً مدرّعاً من البرونز ويضع الخوذ, ويشمل الدرع أيضاً الخيول التي كانت تقل العربة حيث كان يغطي أجزاءً من جسمها وكذلك رقبتها وكان يعلق بوساطة وتد ثم يشد إلى جدار العربة.
كان المقاتلون يتلقون تدريبات مكثفة لاكتساب الخبرات والمهارات القتالية واللياقة البدنية والقوة قبل الزَّج بهم في أتون المعارك وكذلك كانت الخيول.
في حين بدت القوة العسكرية المصرية التي تعتمد على سلاح العربات الحربية بعد انهيار الدولة الميتانية تشكل المنافس الرئيس للقوة الحثية بعد انهيار الدولة الحورية – الميتانية, حيث بدت عرباتهم أكثر ديناميكية وأكثر قدرة على المناورة بسبب الخفة والرشاقة والسرعة وصغر الحجم على عكس العربة الحربية الحثية التي بقيت ثقيلة وكبيرة وبطيئة.
وفي ختام البحث يعود الكاتب إلى أهمية ودور كيكولي الرائد في تلك الحقبة: “بالعودة إلى كيكولي نجد أن المعلومات الواردة في كراسته وكذلك طريقة تعامله مع الخيول تدل بشكل قاطع على عبقريته وإلمامه بالعلوم الطبية والعسكرية, كما أن معظم المصادر تشير إلى أن أقدم الكراسات أو الفهارس المتعلقة بتدريب الخيول في العالم حتى هذه اللحظة هي التي أوجدها كيكولي, وأن البرنامج الذي أوجده كيكولي لتدريب الخيول وما يحمله من معاني كانت جديرة بالإدراج في الأرشيف الملكي الحثي حينذاك, وأن الخيول المدربة وفق تلك المنهجية التي وضعها كيكولي بنفسه هي المفتاح الذي ساهم في تعاظم القوة الحثية في الشرق الأدنى خلال فترات البرونز المتأخر”.
سبق الكثيرين “كيكولي” في استخدام الخيول وتربيتها في شتى مجالات الحياة في الحرب والسلم على حد سواء، فالكرد الآريون والميتانيون والكيشيون أول من أدخلوا الخيول والبغال والحمير إلى بلاد النهرين في نهاية الألف الثالث ق.م ، لكن كيكولي يبقى الاسم والحدث الأبرز الذي ترك أثراً كبيراً يخص جانباً من أهم جوانب الحياة فيما يخص تربية الخيول التي كانت العمود الفقري في تفاصيل الحياة اليومية أوقات الحرب والسلم على حد سواء.