لغة الجسد من الرقص إلى الأدب والشعر
عبد الوهاب بيراني –
للجسد لغته التعبيرية وسحره وبصماته، وهو الأداة الأولى في خلق وصناعة الفن ومنها فن ممارسة الرقص تلك الحركة المفرطة، اللااعتيادية للجسد والتي حُرمت في بعض الأديان، وهكذا تم تحريم المرأة؛ ومنعها من ممارسة الألعاب الرياضية العادية أو البهلوانية والرقص وبكافة أشكاله رغم قِدم ممارسة هذا النمط من الفن، فلا زالت النقوش المرسومة داخل المغاور والكهوف والتي شهدت بدايات الفن البشري من رقصٍ ورسمٍ ونحتٍ؛ ومحاولته صناعة حرف أو أبجدية تدل عليه، فالرسوم والنقوش التي تصور النساء والرجال في حالات راقصة، يدل على العمق والارتباط الوثيق بحياة الإنسان القديم، فقد ارتبط الرقص بطقوسه الدينية.
التعبير عن حالات نفسية للإنسان
كما إنه يعبر عن نشوته وسروره، ويعبر عن حالات خاصة من المزاج عبر تشكيلات جسدية حركية تأخذ منحى جنوني مفرط أو جنسي متواري، وربما كان الرقص إحدى تعبيرات الايروتيكا الجنسية التي تحاكي عمليات الجنس الجماعي الموغلة في التاريخ حيث كانت الأسرة أو العائلة اموسية (نسبة للأم) التي كانت الأساس في النسب والتابعية قبل سيطرة الأب على مركز وزعامة العائلة من خلال عمله على إخضاع المرأة وقهرها وضمها إلى “ممتلكاته” الخاصة وإعلان نفسه سيداً أو “زوجاً” لـ “قطيع” من النساء ليعلن عهد العائلة البطريركية “الأبوية”، وليبدأ تاريخ إذلال المرأة واستعبادها، وليبدأ الرجل السيد بالتفرد والسيطرة وممارسة دوره الذكوري الديكتاتوري خاضعاً نساءه وأطفال نساءه لسيطرته، وباتت من إحدى مهام المرأة أن تؤدي لسيدها حركات تثير حواسه وتلهب مشاعره وتدخل الفرح لقلبه، حيث خضع الرجل الرقص له، وليس لغيره أو لجمهرة من المتفرجين، ومن ذاك التاريخ اكتسب الرقص وخاصة رقص المرأة منفردة بجسدها الرشيق والمثير، سمعته السيئة وحوربت المرأة الراقصة “الرقاصة” التي كتب عليها أن تبيع فنها ومواهبها وروحها العارية لنظرات اشتهاء دونما تقدير لقيمة الفن، ومن وجهة ثانية بات الرقص فرصة لعرض المرأة لجسدها ومفاتنه وإغراء الرجل عبر حركات هز الجسد التي تثير غريزة الرجل، ولا زال ذاك الخيط الرفيع الذي يفصل ما بين الرقص الشرقي كفنٍ راقيٍ وبين إحدى أنماط الدعارة موجودة، والتي تعتبر وفق التاريخ المهني للإنسان بأنها أقدم تجارة في العالم إزاء الخمر الذي يعد أقدم صناعة في التاريخ وحينما يلتقي الخمر مع العري فذاك كفيل بصناعة سوق تجارية لا زالت رائجة إلى أيامنا هذه.
وتنوعت أشكال وأنماط الرقص، فلكل شعبٍ أسلوبه في الرقص والغناء وموسيقاه، فمن الرقصات “الوثنية “الدينية الطقوسية، ومن رقصة المولوي الدرويش البسيطة في شكلها إلى تفاصيل مدهشة في عمقها، من رقصة السماح.. من رقصة ستي في أيام شامية إلى الرقص الشرقي في الراقصة والطبال، من رقصات الهنود في السينما الهندية إلى رقصة البريك دانس مع جاكسون فايف، مرورا برقصات السامباو اللامبادا، في الجنوب الأمريكي اللاتيني إلى حوض الكاريبي.
الرقص ثقافة عالمية مشتركة
ولعل أشهر رقصة هي رقصة زوربا التي أداها الممثل الأيطالي الراحل أنتوني كوين في فلم سينمائي حمل اسم زوربا اليوناني عن رواية اليوناني كازانتاكيس على شاطئ البحر إلى رقصات الأفارقة وطبولهم المدهشة وأجسادهم العارية في عمق الغابة الأفريقية الساحرة، إلى رقصة التحدي الشيشانية حيث الخناجر والقامات الحادة، إلى رقصة الكردي وكأنه يقفز من صخرة إلى أخرى في طريقه لصعود جبال كردستان الشاهقة، من الكوجري إلى الشيخاني، ترتفع إيقاعات الدفوف والزمر، وتقرع الطبول الضخمة فتهتز القلوب قبل الأجساد، تتحول حلقة الدبكة إلى حقل قمح ينساب تحت حركة الريح أو عواصفه، فتتماوج القامات عبر تشابك الايادي وترتص الأكتاف إلى بعضها ضمن مجتمع شرقي لا يبيح ذلك في مواقف أخرى، رقصة الجوبي والهالاليا والباگييه الآشورية، والدبكة العربية، ورقصات ساحلنا السوري الجميلة.
الرقص استهلال تحرير الجسد، حيث تتمايل الأجساد بهدوء أو عنف جميل كالأعشاب الندية في مهب الريح، تشهق الأنفاس، وتتلون الأمكنة بالصرخات والضحكات، يتلوى الخصر الأهيف ليخلق ايروتيكيا خاصة ضمن إطارات الفن، ليتطور الرقص لاحقاً ويعود ليتشرب من أصوله التاريخية وليمنحنا شكلاً فنياً جميلاً، فمن قبح الجمال إلى جمال الجمال إلى ملائكة بثياب بيضاء يتحركون بهدوء ضمن مكان بهي وأنيق… لنستمتع بفن الباليه الذي نشأ وازدهر خلال القرنيين الماضيين كما بدأ المسرح الراقص كفن مسرحي معاصر، وتطور الرقص ليكون فناً مسرحياً حركياً إبداعياً، ليكون الرقص نشوة وتعبير عميق يكتنفه الغموض ورغبة لتوليد مشاعر اللذة، وخرقاً للتابوت المحرم، وهدماً ثورياً أمام ورع وسكونية جسد المرأة الذي لم يتحرك فقط وإنما مارس الرقص أيضاً، وبجرأة تعلن عدم خضوع الحركة للسكون.
للرقص فلسفة وتاريخ، وأصول وأنماط، وللرقص مكانته في الرسم والنحت، كما في الشعر والأدب عموماً، فمن رقصة سالومي إلى حفلة الرقص الباذخة في باليه زواج فيگارو إلى رقصة البجع على سطح بحيرة جايكوفسكي مرورا برقصات الشعوب وفلكلورها الغنائي والموسيقي، في حياة مجتمعات لا يمكننا تخيلها دون رقص إلى رائعة نزار قباني التي غنتها الفنانة المبدعة ماجدة الرومي (يسمعيني حين يراقصني كلمات.. ليست كالكلمات).
فالرقص حركة تعبيرية انفعالية وجدانية عالية المزاج، ضاخة للطاقة الجسدية، وتفريغ لشحنات سلبية تصل لممارسة إيقاع هيستيري ضمن موسيقى صاخبة أو تثويرية تعمل على زيادة النشاط الهرموني وزيادة الادرانالين، ليمنح الجسد إرادة أقوى وفرح غامر… وختاماً يمكننا القول ربما كان الرقص “صناعة” للسعادة أو الفرح.