الأحد 24 نوفمبر 2024
القاهرة °C

ليلى موسي تكتب: الثابت المتغير في الاستراتيجية الأمريكية

الحدث – القاهرة

بعد الانسحاب الأمريكي المدروس والممنهج من أفغانستان – الذي لم يكن اعتباطياً ومفاجئاً كما تصوره أو روج له البعض؛ بدليل الاتفاق على تحديد جدول زمني للانسحاب- سارعت العديد من القوى والجهات والدول المعادية؛ أو تلك التي سعت إلى الاصطياد في معمعان الانسحاب خدمة لأجنداتها، بالإعلان عن فشل أمريكي وانتصار لطالبان، وإسقاط الحالة الأفغانية على البلدان التي تتواجد فيها القوات الأمريكية؛ متجاهلين طبيعية وخصوصية كل بلد وأهميته الجيوستراتيجية بالنسبة لأمريكا، والاستراتيجية الأمريكية وأساليبها وتكتيكاتها المتغيرة وسياساتها البراغماتية، مسخرة مختلف صنوف قواها الناعمة، و وسائلها عبر شن حرب خاصة على شعوب تلك البلدان لخلق حالة من اليأس والقلق والخوف من المستقبل المجهول وما تحمله من تداعيات كارثية على المنطقة. مستغلة ظروف الحرب وتبعاتها على شعوب تلك البلدان، وما خلفته من أوضاع معيشية متردية وغيرها من التداعيات في ظل غياب حلول على المدى المنظور.

ليأتي تصرح الرئيس الأمريكي جوبايدن مؤكداً على صوابية قرار الانسحاب، وأن أمريكا ماضية في استراتيجياتها في المنطقة، ومعلناً في الوقت ذاته بأن وقت عصر الدبلوماسيات قد حان، وليس التواجد العسكري. انطلاقاً من قراءتنا للاستراتيجية الأمريكية وسياساتها البراغماتية الساعية لتحقق مكاسب أكبر لها، وما حصل في افغانستان يعتبر نصراً للسياسة الأمريكية، وخاصة بعد إعلان طالبان عدم تهديدها للمصالح الأمريكية، أو استخدام أراضيها من قبل أية جماعة إرهابية تهدد المصالح والأمن الأمريكي من ناحية أخرى، لهو أكبر دليل على تنسيق عالِ المستوى بين الإدارة الأمريكية وطالبان.

ولكن إلى أي مدى يمكن الوثوق بحركة إرهابية راديكالية متطرفة مثل طالبان؛ وما مدى التزام الحركة بالوعود التي قدمتها للإدارة الأمريكية؟

ربما الإجابة على هذا السؤال ما زال مبكراً، ولكن من ناحية أخرى بخصوص تعهدات طالبان فيما يتعلق بتعديل سلوكها فيما يخص المرأة؛ والسماح للموظفين بمزاولة أعمالهم هي ما كانت متوقعة بعدم الالتزام بها لكون هذه التعهدات تخالف جوهر الايديولوجية التي تتبناها. أما فيما يخص الاحتمال الأول بخصوص في حال التزام طالبان بالتعهدات المتعلقة بعدم التعرض للأمريكان؛ سيكون مكسباً مضاعفاً لأمريكا ونصر لاستراتيجياتها الدبلوماسية التي أعلن عنها جو بايدن من جانب، ومن جانب أخر يكون وجود جماعة إرهابية لضرب وإفشال مشاريع كل من روسيا والصين وإيران.

أما فيما يخص الاحتمال الآخر في حال عدم التزام الحركة، فهي معروفة بارتكابها لجرائم حقوق الإنسان أو ربما لضرب داعش –جماعة خراسان- وبالتالي تكون وسيلة قوية لأمريكا بإعلان الحرب مرة أخرى ومن أوسع أبوابها تحت غطاء حماية الحقوق والحريات أو مكافحة الإرهاب؛ كما فعلتها أثناء حربها في العراق على داعش بعد انسحابها منها 2010م. يعني في الاحتمالين سيكون مكسباً أمريكياً.

بكل الأحوال يبدو أنه كانت هناك حاجة لإحداث تغييرات بما يتلاءم مع السياسات ورسم خرائط جديدة للمنطقة تكون البداية من أفغانستان.

بالعودة إلى استغلال القوى لهذا الانسحاب واسقاطها على الحالة السورية على سبيل المثال. فالدولة التركية كانت من الدول السباقة لاستغلال انشغال العالم بالتطورات التي تشهدها أفغانستان؛ وذلك بتكثيف قصفها بمساعدة ومساندة أذرعها من المرتزقة السوريين، على المناطق الآهلة بالسكان وبشكل خاص مناطق تل تمر وأرياف سري كانيه (رأس العين) وعين عيسى ومناطق الشهباء؛ بالإضافة إلى استهدافها باستخدام الطائرات من دون طيار لشخصيات وأماكن محددة؛ بالتزامن عبر نشر أخبار عن الانسحاب الأمريكي لخلق حالة من الرعب والخوف والقلق لدى الشعب ودفعهم للهجرة؛ وتفريغ المنطقة من سكانها الأصلين مما يسهل عليها احتلالها للمنطقة مستكملة مشروعها الاحتلالي التوسعي للمنطقة.

ليأتي الرد من الرئاسة الأمريكية بأن بقاءها في سوريا مستمراً؛ وأن الخطر قادم من سوريا واليمن والصومال وليس أفغانستان، وداعش مازال يشكل تهديداً جدياً.

وأن استراتيجياتها في سوريا مستمرة على ما هو عليه عبر الاحتفاظ بقواتها من غير تحديد جدول زمني لذلك؛ وبل والأكثر من ذلك بدأت توضح سياساتها وتوجهاتها في سوريا أكثر عبر تعيين مبعوثاً أمريكياً جديداً وهو ” إيثان غولدريتش” كنائب مساعد وزير الخارجية لشؤون بلاد الشام والانخراط في سوريا.

كما شهدت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ومجلس سوريا الديمقراطية انتصارات على الصعيد الدبلوماسي؛ سواء عبر فتح ممثليات جديدة لها – جنيف- أو إجراء لقاءات رسمية مع الرئاسة الفرنسية والخارجية الروسية والأمريكية، بالإضافة إلى زيارة العديد من الوفود الرسمية لمناطق شمال وشرق سوريا واللقاء مع مسؤوليها، وتأكيد غالبية هذه الدول على ضرورة اشراك الإدارة في جميع الفعاليات السياسية بخصوص مستقبل سوريا، وأن الإدارة باتت رقماً في المعادلة السورية والتي من الصعب تجاهله.

بالرغم من المكاسب الدبلوماسية للإدارة والمجلس تسعى الدولة التركية والعديد من القوى الأخرى إلى تحريفها وتفريغها من مضمونها، عبر نشر أكاذيب واتهامات لا أساس لها من الصحة، على سبيل المثال بأن ذهاب وفد الإدارة والمجلس إلى موسكو هي لتسليم المنطقة للنظام السوري والروسي كخطوة استباقية قبل الانسحاب الأمريكي؛ ليأتي الرد الروسي على العكس من ذلك بأن التواجد التركي في سوريا مؤقتاً، ومبدياً دعمه للإدارة والمجلس عبر اشراكهما في المباحثات السياسية فيما يخص الأزمة السورية؛ ولعب دور الضامن بين المجلس والنظام السوري.

ففي الوقت الذي تحقق فيه الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا قفزات نحو نيل الشرعية والاعتراف بالمشاركة في العملية السياسية وقيادة سوريا المستقبل مع بقية أطياف ومكونات الشعب السوري؛ تتلقى تركيا ضربات موجعة وانحساراً على صعيد تدخلاتها الخارجية عبر استبعاد وتحجيم شركاءها المحليين ذوي الخلفية الإخوانية؛ وكانت الضربة الكبرى والبداية من مصر، لتليها تونس، وفشل الحزب الإخواني الموالي لأردوغان من النجاح في الانتخابات البرلمانية في المغرب، وليبيا مؤخراً عبر حجب البرلمان الليبي الثقة من عبدالحميد الدبيبة، وفشل الانقلاب في السودان من قبل انصار عمر البشير حليف أردوغان.

فالتواجد الأمريكي في سوريا بكل بد سيكون له فترة زمنية؛ ولكن انسحابها على المدى المنظور مستبعد إلى حدٍ ما لعدة أسباب منها لن تسحب قواتها دفعة واحدة من مناطق تواجدها، فهي بحاجة إلى وقت لمتابعة ما ستؤول إليه الأوضاع في أفغانستان، الأمر الآخر الأزمة السورية مازالت مستمرة، وهي لن تنسحب ما لم تضمن أمن إسرائيل، ومصالحها الحيوية في المنطقة، وترك الساحة للروس والصينين والدول الإقليمية، بالإضافة إلى طبيعة وواقع الإدارة وقوات سوريا الديمقراطية كقوة منظمة ومشروع وطني أثبت نجاحات ومكتسبات مختلفة على عكس ما كانت عليه حكومة الأفغانية بتسليمها البلاد لطالبان بمجرد انسحاب القوات الأمريكية؛ بالإضافة إلى أن الأمريكان كانوا يتواجدون في أفغانستان كدولة بينما في سوريا كأحد دول التحالف الدولي؛ لذا من الممكن أن تملئ الفراغ الذي تتركه الأمريكان فرنسا كإحدى دول التحالف. كما أن الوضع في سوريا مختلف عمّا هو عليه من ناحية القوى العديدة المتدخلة بشكل مباشر في الأزمة السورية.

والأهم من كل ذلك الإدارة الذاتية تأسست قبل دخول الأمريكان إلى المنطقة على عكس الحكومة الأفغانية التي تأسست بعد دخول الأمريكان إليها؛ ومن جانب آخر بعد الانسحاب الأمريكي الجزئي من المنطقة كتجربة للإدارة استطاعت الصمود والبقاء والحفاظ على تماسكها، بالإضافة إلى خيارات وأوراق قوة تمتلكها الإدارة، كلها عوامل قوية تزيد من احتمالية بقاء أمريكا في المنطقة؛ وربما يندرج تصريح بايدن في هذا المنحى بأن أمريكا ليس من مهامها بناء دول ديمقراطية.

to top