الحدث – القاهرة
لضمان القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى الحفاظ على المكتسبات وديمومة تحكمها بالسياسة الإقليمية والعالمية ومصائر الشعوب ومقدراتها؛ والمزيد من إحكام قضبتها على المنطقة تسخيراً لأجنداتها ومصالحها؛ وذلك عبر وضع استراتيجية محكمة ومحنكة بفرض واقع سياسي واجتماعي واقتصادي جديد للمنطقة عبر تقسيمها وفق خرائط وتقسيمات وفرض حدود مصطنعة وأنظمة حكم سياسية، وتنصيب حكام وتشكيل دول وكيانات إقليمية تؤدي أدواراً وظيفية في ظل تغييب تام لإرادة ورغبات شعوب المنطقة؛ في مسعى من تلك القوى لخلق حالة من الاغتراب عن الذات والجوهر، وكذلك مجتمعات هشة ومنهكة تعج بالتناقضات والأزمات.
استراتيجية ما لم تكن تنجح وتحافظ على ديمومتها إلى وقتنا الراهن إن لم تنتهج قوى الهيمنة العالمية سياسة “فرق تسد”، ويمكننا الجزم بأن ما تعيشه المنطقة من فوضى وصراعات وأزمات حرب العالمية الثالثة هي امتداد وحصاد لتلك الاستراتيجية.
استراتيجية تستمد تفوقها من دهاء مهندسي تلك الاستراتيجية؛ باختيارهم للسياسات وأدوات لتنفيذ تلك الاستراتيجية، وقراءتهم لطبيعة وخصائص وثقافة وحضارة وتاريخ شعوب المنطقة ومكامن القوة والضعف التي تعتريها. أدوات عملت وتعمل على تسعير الصراعات بين الشعوب عبر اللعب على وتر القوميات والطائفية والعقائدية والجنسانية، مع تغييب واقصاء المرأة من دورها الطبيعي داخل المجتمعات. وتنصيب حكام ديكتاتوريين مستبدين ليكونوا حرّاس أمناء على تنفيذ تلك الاستراتيجية بكامل حذافيرها على شعوبهم؛ عبر ممارسة مختلف صنوف العنف والاقصاء والتغيير الديمغرافي والتطهير العرقي والثقافي وسياسة التفقير والتجويع؛ في مسعى لتعطيل قواهم الفكرية والابداعية وحصر اهتماماتهم بتأمين احتياجاتهم المادية الأساسية وقطع أوصالهم بالتراب والتاريخ والحضارة والثقافة وفرض وقائع ثقافية واجتماعية واقتصادية جديد أسهمت في تجذير الاغتراب عن المجتمع والهوية عبر غزو المنطقة بمختلف وسائل القوى الناعمة.
لم يتوقفوا عند هذا الحد بل أسهموا في خلق أزمات على صعيد الهوية والانتماء والوطنية وغيرها من الأزمات. وبعد مئوية تلك الاستراتيجية وفي ظل التطورات العلمية والتكنولوجية لم تعد الأنظمة والحكومات والسياسات تلبي تطلعات ومصالح وأجندات تلك القوى؛ لذا كانت هناك حاجة ملحة بإعادة النظر في تلك الاستراتيجية وتطويرها بما تتوافق مع المعيطات الجديدة مراعين الظروف الزمكانية.
حيث جاءت انتفاضات الشعوب المناهضة لحكامهم ومطالباتهم بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتحسين الأوضاع المعيشية فرصة مناسبة لاستغلالها تمريراً لأجنداتهم. لذا سرعان ما سعت تلك الدول الإقليمية الوظيفية للقيام بأدوارها عبر اللعب على الوتر القومي والطائفي والديني وفي مقدمتهم الدولة التركية والإيرانية. ففي سوريا على سبيل المثال بالرغم من مساعي النظام البعثي من فرض سياسة “فرق تسد” بين شعوب ومكونات المجتمع السوري التي تتميز بتنوعاته الأثنية والدينية والمذهبية والتي نجحت إلى حدٍ ما بالتأثير على نسبة من المجتمع السوري؛ إلا أنه لم يتمكن من القضاء على النسيج الاجتماعي والعيش المشترك بين المكونات السورية بفضل بعض النخب من الشعب السوري وعقلاءه؛ وبفضل تجذر وأصالة الحضارة الإنسانية والإرث الثقافي والتاريخي والقيم الحضارية والأخلاقية التي لطالما استجابت لمشاكل عصره، وكانت السبيل في تأمين حياة كريمة وترسيخ علاقات الأخوة والتعاضد والتلاحم بين الشعوب والمجتمع وعززت من الانتماءات الوطنية.
فمع انطلاقة الحراك الثوري السوري الساعي إلى دمقرطة الدولة وتغيير نظام الحكم وإيجاد دستوري يحمي ويحفظ حقوق الجميع، بغض النظر عن الهوية والعقيدة، وإحداث نقلة نوعية على صعيد العدالة الاجتماعية، ونهضة اقتصادية تؤمن حياة كريمة، سرعان ما تحولت تلك المساعي بفضل الدول الإقليمية الوظيفية بتحريفها عن مسارها السلمي؛ فتحولت من مطالب محقة وطبيعية إلى صراعات وحروب أهلية عبر اللعب على الوتر الديني والقومي والمذهبي؛ التي فتحت المجال لتحويل تلك المطالب الى ساحة للفوضى يتجمع فيها الإرهابيون من جميع اصقاع العالم.
إلا أن تلك المساعي لم تنجح في مناطق شمال وشرق سوريا بفضل القيادة الحكيمة لشعوب المنطقة واليقظة من تلك المخططات التي تسعى إلى النيل من مكوناتها وتحقيقاً لأجندات وأطماع إقليمية ودولية على حساب شعوب المنطقة؛ وذلك عبر طرح مشروع وطني يحقق ويضمن مشاركة الجميع وبنفس الوقت يعزز من الانتماء الوطني ويحافظ على الهوية المجتمعية والقومية لكل مكون من خلال فلسفة العيش المشترك وأخوة الشعوب، والحفاظ على طبيعة وحقيقة المجتمع التاريخية والحضارية ورفض ومناهضة كل الألاعيب والسياسات المناهضة لتطلعات الشعب السوري، وتصحيح بعض المفاهيم المغلوطة مثل الأقليات العرقية والدينية. حيث أن الكثير من تلك الأعراق والمعتقدات كانت الأكثرية في الماضي الذي ليس ببعيد، ولكنها ونتيجة تعرضها لعمليات التطهير العرقي والثقافي والتغيير الديمغرافي، باتت أقلية الآن مقارنة بالفئة الحاكمة منذ أكثر من خمسين سنة. لذا؛ كان من المنطقي والصحيح نعتهم بالشعوب الأصيلة، وتفريغ كل ما يحاك على المنطقة من سياسات وتعريتها أمام الرأي لعالم العالمي والمحلي وإظهار حقيقتها طالما سعت وتسعى الأنظمة الدخيلة الحفاظ على استمراريتها عبر استهدف الشعوب الأصيلة كما حصل في مجزرة إبادة السريان والأرمن والكرد وتفكر بتسيير نفس السياسة على بقية الشعوب.
انطلاقاً من ذلك يمكن اعتبار السبيل لمواجهة تلك الاستراتيجيات وإنقاذ ما تبقى من شعوب المنطقة وقيمهم الحضارية والتاريخية والإنسانية وتحقيق خطوات ملموسة نحو دمقرطة المنطقة؛ وركب الحضارة وإحداث نهضة اجتماعية واقتصادية وعلمية وغيرها من النهضات على كافة الأصعدة، عبر إعادة النظر في العلاقات بين الشعوب وإعادتها إلى نصابها الصحيح وترميم ما اعتراها من وهن وضعف، واستعادة المرأة لدورها الطبيعي؛ وقيادة وتغيير المجتمعات وتطويرها بإرادة شعوبها.
وتجربة قوات سوريا الديمقراطية كقوات وطنية تضم جميع مكونات الشعب السوري؛ والتي تمكنت بالقضاء على الإرهاب وتحقيق السلام والأمن والعيش المشترك والتآخي بين شعوب المنطقة كتجربة واقعية معاشة يمكن تعميمها على بقية المناطق.
تاريخياً وحتى في الحاضر ما يجمع الشعوب دوماً وابداً الحالة الإنسانية والقيم الأخلاقية والحضارية؛ وكل ما تعيشه الشعوب من صراعات ونزاعات مفروضة وصنيعة سياسات واستراتيجيات أنظمة وقوى ودول بعيدة كل البعد عن مصالح وتطلعات الشعوب.
لذا، ونحن نعيش أحداث الحرب العالمية الثالثة وما خلفته من حروب وصراعات وكوارث والكثير منها تحول في بعض المناطق إلى مستنقعات وعقد كداء يصعب الخروج منها؛ وحلها كونها بالأساس تنطلق من مقدمات وحلول بعيدة كل البعد عن خصائص وطبيعة المجتمعات وتطلعات شعوبها. لذا؛ حان الوقت لوقوف جميع شعوب المنطقة من كردها وعربها وسريانها وتركمها وفرسها وتركها وتركمانها وأرمنها وشركسها… إلخ، من مكونات المنطقة في محاربة جميع أشكال تلك السياسات والأنظمة الدخيلة والحدود المصطنعة التي لم تفرق بين الدول وحدها، بل شملت شعوبها أيضا وخلقت صراعات وكوارث فيما بينهم ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل فقط عليهم تحمل أعباء تداعياتها.