الحدث – القاهرة
شهدت الساحة اللبنانية تطورات متسارعة تمثّلت في خسائر كبيرة مُني بها حزب الله من قياداته في الصف الأول، مع تدمير واسع للبنية التحتية وما رافقها من عمليات هجرة ونزوح جماعي سواء إلى الداخل اللبناني أو الخارج، وخاصة إلى سوريا والعراق. واللافت في هذه التطورات استخدام تقنيات عسكرية وتكنولوجيا متطورة، بالإضافة إلى الحرب السيبرانية التي اخترقت صفوف قيادات حزب الله ووجّهت ضربة موجعة لهم، بعدما كانوا أهدافاً مرصودة ومراقبة بدقة، مما أدى إلى شلّ قدرات الحزب بشكل كبير خلال فترة زمنية قصيرة مقارنة بالحرب الإسرائيلية على غزة.
ويعود ذلك إلى انشغال الرأي العام العالمي بالانتخابات الأمريكية، وأهمية توجيه ضربات موجعة للحزب لشلّ قدراته على التصدي، نظراً لما يشكّله من قوة تنظيمية وقدرات عسكرية مقارنة بباقي أذرع إيران في المنطقة.
لعبت هذه المستجدات دوراً كبيراً في تغيير موازين القوى، وخاصة مع فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية المعروف بدعمه اللامحدود لإسرائيل. دفعت أولوية المصالح الأمريكية بعض القوى والدول إلى إعادة النظر في حساباتها تجنباً لمصير مشابه لما حدث للسنوار وهنية ونصر الله، خاصة أن ترامب عُرف بقراراته الثورية خلال فترة رئاسته الأولى. وقد شدد في برنامجه الانتخابي على إنهاء الحرب، مما مكّنه من استقطاب الجالية العربية والمسلمة المؤيدة للقضية الفلسطينية، لكن السؤال يبقى: لمصلحة من ينهي الحرب وكيف؟
سوريا لم تكن بمنأى من الحرب الإسرائيلية على غزة، ومؤخراً على حزب الله. بالرغم من أن سلطات دمشق اختارت سياسة النأي بالنفس وعدم الانخراط في هذه الحرب على خلاف الأطراف الأخرى من محور المقاومة. بل في بعض الأحيان توجيه أصابع الاتهام إليها بالتورط في إعطاء الإحداثيات للإسرائيليين، خاصة بعد استهداف القنصلية الإيرانية بدمشق، وبحسب مصدر في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، أن الأجهزة الأمنية الإيرانية رفعت تقريراً للمجلس بشأن احتمال ضلوع السلطات السورية في اغتيالات كبار قادة الحرس الثوري في سوريا.
ربما لم يعد بمقدور سلطات دمشق الاستمرار في اتخاذ وضعية الحياد التي كانت في حرب غزة، الآن في الحرب اللبنانية والمفروضة عليها يفوق قدراتها وإمكانياتها، حيث السيطرة والقبضة الحديدية للحزب داخل سوريا. بالرغم من شل إسرائيل لعمل المعابر بين سوريا ولبنان وقطع الطريق أمام عناصر الحزب بنقل السلاح إلى الداخل اللبناني، إلا أنها لم تنجح في تقليل نفوذ الحزب وسيطرته على الأرض.
لذا، صعدت إسرائيل من لهجتها ضد الأسد، وحذرته بأن عليه منع الحزب من نقل السلاح. ولكن السؤال هل بمقدور الأسد الاستجابة لذلك الطلب؟ أم أنه سيستمر في نهجه التزام الحياد؟ ولربما يختار الأسد أن يترك سوريا ساحة مفتوحة أمام الضربات الإسرائيلية، أفضل خيار له يتخذه للبقاء في الحكم مع مزيد من استنزاف سوريا، التي تعاني أساساً من نزيف على مدار سنوات الأزمة. ربما الخيار الأفضل من التخلي عن حليف استراتيجي وبنفس الوقت لحماية نفسه من التعرض لنفس مصير قادة محور المقاومة.
أما إسرائيل هل ستبقى في حال توجيه الرسائل وممارسة الضغوط عن طريق روسيا بإخراج دمشق من العباءة الإيرانية، وعدم التورط في فتح جبهة ثالثة. يبدو أنه هناك أولوية الضفة الغربية لدى إسرائيل باستكمال السيطرة عليها بعد غزة، واضعاف حزب الله على توجيه الضربات وضمان تأمين حدودها الجنوبية إلى حدٍ بعيد. ونوايا اسرائيل كانت واضحة في هذه الخصوص، ففي اليوم الذي عقدت فيه القمة العربية والاسلامية في الرياض للتباحث في الحرب الدائرة، خرج وزير المالية الاسرائيلي اليميني، بتسلئيل سموتريش، مصرحاً الاستعداد لضم المستوطنات في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل. وقال إنه أصدر تعليمات لوزارته بـ “إعداد البنية التحتية اللازمة لفرض السيادة.
يبدو أن أذرع المقاومة العراقية بالرغم من الضربات التي توجهها بين الفينة والأخرى لقوات التحالف في سوريا والعراق، انتقاماً لدعمها لإسرائيل وكذلك توجيه الضربات للداخل الإسرائيلي، مستمرة على موقفها وعدم حياديتها وأنها اختارت طريق المقاومة المباشرة. خاصة فصائل المقاومة الإسلامية (حزب الله العراقي والنجباء).
ويبقى الهدف القادم لإسرائيل في المرحلة المقبلة الحوثيون، وما يشكلونه من تهديد على أمن الملاحة في البحر الأحمر اقتصادياً والأمن القومي لدول الخليج عموماً مما دفعهم للانخراط لضرب مواقعهم.
مجيء ترامب مصلحة أمريكية –عربية وتحديداً خليجية وهناك تكامل ومصالح وعلاقات جديدة. أمريكا تؤمن الحماية، والخليج المال، وترامب كان واضحاً في سياساته بهذا الخصوص. السؤال الذي يطرح نفسه هل سنكون شهود عيان على إعلان صفقة التطبيع السعودي –الاسرائيل؟ وهل اتفاقيات إبراهام وصلت إلى ذروتها؟ وخاصة القفزة الأولى في مسار التطبيع التي حصلت في أثناء ولاية ترامب الأولى. وهل نضج الظروف لمصلحة مشروع الشرق الأوسط الكبير/الجديد، وهو الذي دفع أردوغان مراراً وتكراراً إلى الإعلان عن الخطر الاسرائيلي ومحاولات أسرائيل السيطرة على سوريا ومن ثم الأناضول.
ربما هذه الهواجس والمخاوف تتأتى من تهيئة الظروف لمصلحة الاتفاقيات الإبراهيمية بالدرجة الأولى وبالتالي تشكل خطراً على أمن ووجود الإسلام السياسي بشقيه السني بقيادة أردوغان والشيعي بقيادة خامنئي.
وربما كانت إيران أكثر برغماتية وحنكة بخطوات ومدركة بأن تغييراً ما قادم في المنطقة، ولقطع الطريق أمام التدخلات الخارجية، تعمل على إجراء تعديلات ولو شكلية بعد الانتخابات الرئاسية. وما وصول رئيسي الاصلاحي للحكم وتعيين نائب كردي وتبوؤ سيدات لأول مرة مناصب قيادية، إلا مؤشرات على براغماتية إيران شكلاً، لكنها لم تتغير شيئاً من الداخل، لكون الصلاحيات المطلقة ظلت بيد المرشد الأعلى. أما تركيا يبدو أنها تعيش حالة التخبط الواضحة، تارة يخاطب السيد أردوغان مشاعر القومية والدينية بالحديث عن خطر اسرائيل ودعمها لإقامة كردستان الكبرى، وتارة الحديث عن حل القضية الكردية وانطلاق مرحلة السلام مع السيد اوجلان على لسان حليفه بهجشلي. وبنفس الوقت يحارب الديمقراطية التي تحققت عبر صناديق الاقتراع وذلك بإقالة رؤساء البلديات التي فاز بها الكرد في آخر انتخابات بلدية في تركيا.
والمساعي لم تتوقف عند هذا الحد، إنما هناك مساع بإجراء انتخابات مبكرة في تركيا، وحديث عن إجراء تعديلات دستورية لضمان نجاح أردوغان بالترشح لولاية ثالثة.
أمام هذا المشهد المعقد يبقى لدينا تساؤلات ربما في قادم الأيام تتوضح إجاباتها. نحن أمام شرق أوسط جديد يستلزم تطبيقه خرائط ونظم حكم جديدة. وبالتالي الدول التي تشكلت بموجب اتفاقيات سايكس بيكو وخاصة تركيا وإيران، هل بمقدورهما الصمود ومواجهة المستجدات وتحقيق قفزات لصالح الهلال الشيعي أو العثمانية الجديدة وديمومة وسيطرة أذرعهما في المنطقة؟ أم أننا سنكون أمام شرق أوسط جديد وقيادة عربية للمنطقة، وإسرائيل موسعة، ونظم حكم لامركزية بما فيهم إيران وتركيا؟