الحدث – القاهرة
المتتبع لمسيرة الاخوان المسلمين في الآونة الأخيرة، سيدرك جيداً أن هذه الجماعة منذ تشكيلها وحتى وقتنا الراهن، كانت ولا زالت تسعى للاستحواذ على السلطة بأي طريقة كانت وحتى لو كان هذا الطريق يمر عبر التحالف مع الشيطان. وهذا ما رأيناه مسبقاً وفي يومنا هذا بشكل فاضح وخاصة ما تقوم به هذه الجماعات في سوريا. جماعة الإخوان المسلمين بوصفها نموذجاً كلاسيكياً لـ “الوكيل القابل للاستغناء” الذي استخدمته القوى الخارجية، ولا سيما الغربية، لتحقيق أهداف جيوسياسية سلبية، مثل تفكيك الأنظمة المعادية أو احتواء الخصوم الأيديولوجيين. لقد وفر الهيكل التنظيمي للجماعة وجمودها الأيديولوجي قدرة فريدة على التعبئة السريعة، مما جعلها مفيدة للغاية لأغراض زعزعة الاستقرار الإقليمي. إلا أن هذا التكوين ذاته جعلها غير قادرة بطبيعتها على تحقيق حكم مستقر وتعددي في مرحلة ما بعد الثورة. لقد أدى هذا الفشل المنهجي، الذي تجسد في استراتيجية الاستحواذ والإقصاء (التمسكن حتى التمكن)، إلى إنهاء فائدتها الاستراتيجية، مما أسفر عن التضحية بها وتسريع وتيرة التفتيت الإقليمي.
يكشف المسار التاريخي للجماعة، من حربها الباردة ضد الناصرية وحتى محاولاتها الفاشلة للسيطرة على ثورات الربيع العربي، عن نمط متكرر: تُستَغل الجماعة كأداة هدم، وعندما تشرع في بناء دولة قائمة على أيديولوجيتها الشمولية، سرعان ما تتحول إلى مصدر عدم استقرار يفوق في خطورته التهديد الذي كان يُراد منها مواجهته، مما يؤدي إلى نبذها وتفككها. وبذلك، لم تكن الجماعة أداة استقرار أو ديمقراطية، بل كانت “حصان طروادة” الذي يسهل دخول الفوضى إلى قلب المنطقة.
يتطلب فهم دور الإخوان المسلمين كأداة جيوسياسية، تجاوز السرديات البسيطة التي تدعي التأسيس المباشر من قبل الغرب، إلى تحليل أكثر دقة للآلية التي جعلت الجماعة أصلاً استراتيجياً يمكن استغلاله بفعالية من قبل القوى الخارجية.
حيث تأسست جماعة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية بمصر على يد حسن البنا في 22 مارس 1928. حافظت الجماعة منذ نشأتها على هوية أيديولوجية مركبة. فقد تبنت مبادئ إسلامية سنية، وتشدداً دينياً واجتماعياً، ونهجاً قومياً إسلامياً (Pan-Islamism). وبنفس الوقت كانت تتحالف مع الأنظمة في محاربة الشيوعيين، كما حدث في مصر وسوريا والأردن والعراق وغيرها من الدول.
يُعدّ هذا التناقض الأيديولوجي هو النقطة المفتاحية في تحليل استغلالها لاحقاً. فبينما كان للجماعة توجه معادٍ للإمبريالية وللصهيونية، كانت في الوقت ذاته معادية بشدة للشيوعية. هذه المعادلة سمحت للقوى الغربية بإعادة توجيه الجماعة من كونها قوة مناهضة للاحتلال (عدو في مرحلة ما) إلى حليف محتمل في الحرب الباردة، بناءً على ترتيب الأولويات الجيوسياسية للمنطقة.
بعد عقود من العمل السري والتكيف، كان اندلاع ثورات الربيع العربي هو اللحظة التي تحول فيها الإخوان من وكيل مضطهد إلى “حصان طروادة” يسعى للاستيلاء على السلطة. وقد اعتمدت الجماعة في ذلك على استراتيجية التمسكن حتى التمكن، التي تعني إظهار الاعتدال والقبول بالتعددية في المرحلة الانتقالية (التمسكن)، ثم السعي للسيطرة الكاملة على الدولة والمجتمع (التمكن).
أجبرت عقود من العمل تحت الأنظمة الاستبدادية الجماعة على تبني نوع من التخفي والتنظيم الهرمي الحذر. واستفادت الجماعة من سياسات تلك الأنظمة التي سمحت بنمو التنظيم الديني على حساب المجتمع السياسي المدني. أدى تدمير الحياة السياسية المدنية، بالتوازي مع هزيمة المشاريع القومية واليسارية، إلى دفع الجماهير نحو التدين، وهي بيئة تعبئة جاهزة للإخوان. وعندما انهارت الأنظمة في 2011، استغلت الجماعة قدرتها التنظيمية الهائلة، التي كانت ثمرة عقود من العمل المجتمعي، لملء الفراغ السياسي بسرعة.
إن المنطق الجيوسياسي يشير إلى أن فائدة الإخوان بالنسبة للقوى الخارجية تتلاشى تماماً لحظة وصولهم إلى الحكم. إن أيديولوجيتهم تتطلب الاحتكار، وهذا الاحتكار يدمر فوراً التعددية التي كان يفترض أن يتبناها حصان طروادة. وعندما تقدم الجماعة الاستقطاب بدلاً من الاستقرار، يصبح الانقلاب العسكري هو آلية “التضحية” الإقليمية التي تزيل هذا الوكيل الفاشل.
في سوريا، ولاغم أنه نجح “حصان طروادة” في الاستيلاء على السلطة، وهو الآن يعمل كفاعل مهم يعمل على تفكيك الجغرافيا السورية، بسبب عقليتهم الاقصائية وما حدث من مجازر في الساحل السوري بحق الاخوة العلويين وكذلك في السويداء بحق الإخوة الدروز، ولا يمكن نسيان ما حلَّ بالمسيحيين من قتل وتفجير للكنائس. يستمرون في دورهم في تفتيت سوريا كما عملوا على تفتيت وتفكيك المعارضة وتصعيد الصراع إلى حرب أهلية لا يمكن السيطرة عليها، مما أسهم بشكل مباشر في صعود القوى الجهادية التي تفوق الإخوان تطرفاً.
أدى فشل الإخوان في السيطرة على الأرض إلى خلق فراغ استغلته الجماعات المتطرفة لترسيخ وجودها. صعدت بسرعة كل من جبهة النصرة (المرتبطة بتنظيم القاعدة) ولاحقاً تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). لقد عمل الإخوان في سوريا كعامل انتقالي. لقد نجحوا في حقن الأيديولوجية والفوضى التنظيمية في المعارضة (تشغيل حصان طروادة). إن محاولاتهم للاحتكار وفرت غطاءً سياسياً سرعان ما تجاوزته قوى أكثر عنفاً ولامركزية. وبهذا، لم تكن الجماعة سوى وسيلة لتمهيد الطريق لأسوأ أشكال التفتيت الإقليمي، رغم وصولهم الى سدة الحكم في سوريا.
في أعقاب حملة القمع العسكرية في عام 2013، فر آلاف من أعضاء الإخوان وشبابها إلى تركيا. أصبحت تركيا، تحت حكم حزب العدالة والتنمية (AKP) بقيادة رجب طيب أردوغان، بمثابة الملاذ الآمن الحيوي، مدعوماً بتقارب أيديولوجي ومواءمة جيوسياسية ضد المنافسين الإقليميين. يقدر عدد المصريين المرتبطين بالجماعة في تركيا بنحو 20,000 شخص.
لقد أثبت تحليل الدور التاريخي والحديث لجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة صحة الأطروحة القائلة بأن الجماعة عملت كأداة هدم فعالة و”حصان طروادة” لتفتيت المنطقة، وتم التضحية بها بشكل متكرر عند فشلها في تحقيق الاستقرار أو عند انتهاء منفعتها الجيوسياسية المحددة. عندما أتيحت الفرصة للإخوان لتولي السلطة بعد الربيع العربي، أدت استراتيجيتهم التي تهدف إلى الاحتكار الكامل للسلطة (التمكن) وإقصاء التيارات المدنية إلى تفجير حالة الاستقطاب المجتمعي، ما أدى إلى نسف مشروع الانتقال الديمقراطي. إن جمود الإخوان الأيديولوجي يضمن أنهم سيولدون عدم الاستقرار في أي بيئة تعددية، مما يجعلهم غير مرغوب فيهم استراتيجياً. وهذا ما يظهر واضحاً من تقرب السلطة المؤقتة الاخوانية السلفية من المكونات في سوريا. حيث عملت على تشتيت المكونات وحاربتهم بكل ما استطاعت من قوة وبطش وتنكيل وترهيب وحرق، ولا زالوا كذلك. ورغم ان الكرد الذين ينادون بوحدة سوريا ويعملون على تكريس وجودهم وهويتهم، إلا أن الجولاني ومن يلف حوله، أعمى الله بصيرتهم وباتوا لا يرون إلا الإشارة التي تأتيهم من مربيهم السيد أردوغان وينفذون ما يطلبه منهم. اللامركزية التي ينادي بها الكرد، هي عامل حاسم في الحفاظ على وحدة سوريا أرضاً وشعباً، بينما ما يردد أبواق النظام من تضليل وأكاذيب على ان اللامركزية هي انفصال، ما هو إلا رياء يقولون ما يفهمونه ولكنهم تحولوا إلى مجرد ببغاوات يقولون مالا يفقهون.
لقد أصبح إرث الإخوان يتمثل في تسريع الاستقطاب والتفتيت الإقليمي، سواء كان سياسياً (في مصر وتونس) أو عسكرياً (في سوريا). وحتى في منفاهم الأخير في تركيا، فإن التضحية تتخذ شكل التفكك الأيديولوجي الداخلي، حيث تتآكل مبادئهم المحافظة بفعل الانجراف الجيلي في البيئة الحاضنة. لم يعد الإخوان قادرين على الاستمرار كحركة محافظة موحدة أو كقوة سياسية قابلة للحياة، مما يؤكد أن فائدتهم الجيوسياسية انتهت، ولم يتبقَ سوى التهديدات الأمنية التي ساعدوا في إطلاقها.