الجمعة 31 أكتوبر 2025
القاهرة °C

محمد أرسلان علي يكتب : المتحف غداً.. هو توبة العالم في حضرة الكبار

الحدث – القاهرة

إن تدشين المتحف المصري الكبير، هذا الصرح المعماري والثقافي المهيب على بُعد خطوات من أهرامات الجيزة الخالدة، ليس مجرد حدث سياحي أو إنجاز هندسي؛ بل هو في جوهره فعل سياسي وثقافي واجتماعي بامتياز، يرسل رسائل قوية للعالم ويؤكد على مكانة مصر كـ “أم الدنيا” ومهد الحضارة الإنسانية. وعلى الجميع أن يخلع نعليه ويتوبّ لأنه في المتحف المقدس”، فالمتحف هو بالفعل بمثابة معبد جديد للتاريخ والذاكرة الإنسانية.

ويأتي افتتاح المتحف الكبير في توقيت بالغ الدلالة، ليؤدي دور “الرد المناسب” على كل محاولات التلاعب بالتاريخ وتشويه الهوية. في زمن تتصاعد فيه الأصوات المتطرفة التي تحاول اختزال مسيرة الإنسانية في سياقات ضيقة أو مزورة، تقف مصر شامخة لتقول: “هنا بدأ التاريخ، فلتصمت الأصوات التي تدعي خلاف ذلك”. المتحف، بضخامته واحتوائه على كنوز الحضارة المصرية القديمة، بما في ذلك المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون، يمثل وثيقة إدانة صارخة لكل من يحاولون محو الإرث الإنساني أو تزويره. إنه يضع مقياساً جديداً لما تعنيه “الحضارة”، مؤكداً أنها عمل جماعي تراكمي ينتج الفن واللغة والتقاليد والأعراف.

فقيمة مصر السياسية هنا تتجلى في القوة الناعمة العالمية، والمتحف هو استثمار هائل في القوة الناعمة المصرية، التي تتفوق على أي قوة عسكرية أو اقتصادية مؤقتة. فمصر تملك ذاكرة العالم، وهذه الذاكرة هي عملة لا تفنى. وغداً سيكون رسالة صمود وتنمية والإصرار على إنجاز هذا المشروع العملاق رغم التحديات الإقليمية والدولية هو دليل على إرادة الدولة المصرية في التنمية والاحتفاء بهويتها، وهو ما يعكس استقراراً يُعتبر عملة نادرة في محيط مضطرب.

أما من الناحية السوسيولوجية، فإن المتحف يقدم درساً عميقاً في “أنسنة الإنسان”، وهي القيمة التي ينبغي أن نشدد عليها. فالحضارة، كما تؤكد مصر والعراق، هي نقطة الانطلاق نحو الارتقاء بالإنسان من حالة البدائية إلى حالة الوعي والفن والعدالة. المتحف الكبير، بما يحويه، يجسد، أن القطع الأثرية تتحدث عن أمة عملت لآلاف السنين على البناء، التنظيم، والفن الرفيع. إنه نقيض لمنطق الهدم والدمار الذي تروج له التيارات المتطرفة. والمتحف المتحف هو أداة فعّالة للتوعية الوطنية وتعزيز الانتماء لدى الأجيال الجديدة. فمشاهدة عظمة الأجداد بشكل مباشر يزرع الفخر ويدحض محاولات طمس الهوية. وكذلك المتحف هو مساحة للسلام والتفاهم، حيث يلتقي فيه الزوار من كافة الثقافات والخلفيات ليقفوا بخشوع أمام تاريخ مشترك. إنه يؤكد أن جوهر الإنسانية واحد، وأن الحضارة ولدت من “عمل جماعي” لا يخص أحداً بعينه بل هو ملك للجميع.

غداً، حين “ينطق الحجر ليُسمع الصمّ معنى الأدب”، سيكون العالم في صف مرصوص، لا ليصلي، بل لينصت ويعترف بفضل تلك الأرض التي علّمت البشرية كيف تصنع من اللاشيء حضارة. هذا التجمّع البشري أمام عظمة مصر هو دليل اجتماعي على أن مصر “ستبقى أم الدنيا التي ستعلم الوضيعين معنى التاريخ والحضارة والأنسنة”.

في الختام، إن المتحف المصري الكبير هو البيان الدائم لمصر، وكيف أن للفراعنة “كتاب الموتى”، بات لهم اعتباراً من يوم غد “كتاب الحياة”. إنه يمثل نقطة تحول تعيد تعريف العلاقة بين الدولة وتاريخها، وبين الشعب وإرثه. إنه يضع مصر كمعيار أبدي للحضارة، ويُذكّر كل من يحاول التلاعب بأوراق التاريخ بأن أوراق مصر مكتوبة بالجرانيت والذهب، وأنها أقوى من أن تُطوى أو تُزوّر. غداً.. مصر من عدالة “كتاب الموتى” وصولاً لإرادة “كتاب الحياة”.

المتحف غداً هو توبة العالم في حضرة الكبار.

to top