الحدث – بغداد
بعد مرور ستة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع (المعروف سابقاً بأبو محمد الجولاني) إلى السلطة في دمشق وتسلمه مقاليد الحكم من رئاسة الجمهورية والقائد العام للجيش بالاضافة لرئاسة الوزراء ورئيس لجنة الأمن القومي وغير ذلك من مهام. تشهد سوريا تحولات عميقة تلقي بظلالها على المنطقة بأكملها، تركيا ولبنان واسرائيل وفلسطين وخاصة على الجارتين العراق والأردن. ففي ظل حالة الفوضى الداخلية التي تعيشها الفصائل المسلحة، وما يصاحبها من ترهيب للشعب ووعيد بالقصاص، كما حصل في الساحل السوري ومع الدروز وكذلك تهديدهم للكرد. يبقى الشك والتخوف الإقليمي من السلطة المؤقتة في دمشق هو سيد الموقف. حيث أن تداعيات صعود أحمد الشرع وتوليه السلطة على الاستقرار الإقليمي كبير جدا، مع التركيز على طبيعة الشكوك الإقليمية في ظل المتغيرات التي تطرأ على العراق والاردن.
الوضع الداخلي السوري وتداعياته الإقليمية. يمكن القول أن الحالة الداخلية في سوريا بعد صعود أحمد الشرع تتسم بعدم الاستقرار. فبينما تسعى السلطة الجديدة إلى فرض سيطرتها وإعادة هيكلة الدولة، لا تزال هناك فصائل مسلحة سابقة تعيش حالة من الفساد والفلتان، ما يؤدي إلى ترهيب السكان وتأجيج المخاوف من الفوضى. هذه الفوضى الداخلية، وإن كانت محصورة نسبياً في مناطق معينة، إلا أنها تحمل في طياتها بذور عدم الاستقرار الإقليمي. فاحتمال تدفق السلاح والمقاتلين والكبتاغون عبر الحدود، وعودة نشاط الجماعات المتطرفة أو ظهور أخرى جديدة، يشكل تهديداً مباشراً لدول الجوار.
ولربما نتفهم تخوف العراق من السلطة الجديدة في دمشق، وذلك لأن العراق يمتلك تاريخاً معقداً من التدخلات والتأثر بالأوضاع في سوريا، وقد عانى كثيراً من تداعيات الأزمة السورية السابقة، خاصة مع صعود تنظيم داعش الذي استغل الفراغ الأمني على الحدود. لذلك، فإن صعود أحمد الشرع، الذي له تاريخ مع تنظيم القاعدة في العراق، يثير قلقاً عميقاً في بغداد. على الرغم من محاولات الشرع التخلي عن صورته المتطرفة السابقة (الجولاني)، وتقديم نفسه كزعيم براغماتي يسعى للاستقرار، إلا أن الشكوك حول خلفيته الأيديولوجية وقدرته على السيطرة الكاملة على كافة الفصائل المسلحة تبقى قائمة. حيث أن كل ما يخشاه العراق يتمثل في تجدد نشاط الجماعات المتطرفة، رغم قيام سلطة الجولاني بفكفكة بعض الفصائل المسلحة السابقة، إلا أنه ثمة قلق من إمكانية إعادة تنظيم عناصر متطرفة تحت مسميات جديدة، أو استغلال حالة الفوضى للقيام بعمليات عبر الحدود العراقية السورية. وهذا ما سيفتح الباب على مصراعيه لتدفق اللاجئين والنازحين، وقد تؤدي أي موجة جديدة من عدم الاستقرار أو العنف إلى تدفق أعداد إضافية من اللاجئين إلى العراق، ما يشكل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً إضافياً على بلد يعاني أصلاً من تحديات داخلية. وكذلك سيكون هناك تأثير كبير على الأمن الحدودي، حيث أن الحدود العراقية السورية الطويلة والمسامية تجعلها عرضة للتهريب وتسلل المقاتلين، ما يتطلب جهوداً أمنية مكثفة من الجانب العراقي.
والنقطة الهامة الأخرى هو نفوذ إيران المتغير، في ظل التغير في المشهد السوري، قد تسعى إيران إلى إعادة تموضع نفوذها أو الحفاظ عليه بطرق جديدة، ما قد يؤثر على المصالح العراقية. ورغم تواجد أعداد لا يستهان بها من مقاتلين عراقيين سنّة حصرا في سوريا، كما يروجون لأنفسهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي وشعاراتهم التي يطلقونها لتحرير العراق، يبقى التخوف والشك من النوايا في سوريا حيال كل ما يحدث في العراق. ورغم ان العراق قدم المساعدات العينية لسوريا في بادرة حسن النوايا، إلا أن التهديدات التي وجهت للشرع لعدم حضوره القمة العربية، زادت من حدة الجدار الجليدي بين البلدين رغم حرارة الحدود الصحراوية التي أذابت كل عوامل الثقة التي سعى العراق لتوطيدها.
أما الاردن الذي يُعتبر أحد أكثر الدول تأثراً بالأزمة السورية، فقد استقبل أعداداً هائلة من اللاجئين وتحمل أعباء اقتصادية وأمنية كبيرة. الشك من السلطة المؤقتة في دمشق لدى الأردن نابع من عدة عوامل. حيث يخشى الأردن من استمرار تهريب المخدرات والسلاح عبر الحدود، وهي مشكلة تفاقمت بشكل كبير خلال الأزمة السورية السابقة.
وكذلك التهديدات الأمنية، حيث أن أي فوضى أمنية في سوريا قد تؤدي إلى تسلل إرهابيين أو عناصر مسلحة إلى الأردن.
وفي وقت يرغب الأردن في عودة اللاجئين السوريين طواعية وآمنة، لكن استقرار السلطة الجديدة في دمشق وقدرتها على توفير بيئة آمنة للعودة هو محل شك.
أما فيما يتعلق بحل الاردن لحزب الإخوان المسلمين وتأثيره على العلاقات بين الطرفين، فأنه يمثل نقطة تحول ذات تداعيات معقدة على الأردن. فحزب الإخوان المسلمين في الأردن، لا يزال يعتبر الامتداد الفكري لحركة الإخوان المسلمين الأم. قد تستفيد قيادات أو أفراد من الإخوان المسلمين في الأردن من هذا الحل لعدة أسباب منها إعادة التموضع والبحث عن ملاذات آمنة أو قواعد دعم جديدة في دول مجاورة، وقد تكون سوريا أحد الخيارات، خاصة مع وجود امتدادات فكرية واجتماعية. وهو ما قد يستغله الإخوان المسلمون في الأردن لإعادة تنشيط قاعدتهم الشعبية أو إثارة قضايا مرتبطة بالحريات السياسية أو التوجهات الإسلامية في المنطقة، بهدف الضغط على الحكومة الأردنية أو كسب تعاطف شعبي.
وقد يدعم ذلك أي حراك معارض في الأردن، خاصة إذا ما تم ربط قمع الإخوان المسلمين في الأردن بقضايا أوسع تتعلق بالحكم والعدالة.
قد تدفع هذه الخطوة الأردن إلى مراجعة علاقاتها مع السلطة الجديدة في دمشق، خاصة إذا ما اعتبرت أن حل الإخوان المسلمين يخدم أجندات أمنية معينة أو يفتح الباب أمام نفوذ جماعات أخرى.
ورغم التفاهمات والاجتماعات الأمنية التي تتم بين بغداد وعمان وانقرة ودمشق، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، إلا أن مستوى عدم الثقة بين هذه العواصم كبير جدا ولا يمكن ردمه باجتماعات هنا او هناك. الكل يعرف مدى الارتباط بين الجولاني وأنقرة التي تعتبر الداعم الرئيس لكل الفصائل المتطرفة في سوريا، وأن انقرة لن تنقلب عليهم كرمى لعيون عمان أو بغداد. بل ثمة أطماع لدى تركيا أكبر بكثير من محاربة الإرهاب كما تدعي.
حيث لتركيا دور منوط بها لحماية أمن إسرائيل في الدرجة الأولى وكذلك حماية السلطة المؤقتة في دمشق وزعيمها الجولاني سابقا والشرع في الوقت الحالي. فحماية الشرع مهم جدا حتى ينفذ ما هو مطلوب منه في تمرير الاتفاقات الابراهيمية مع إسرائيل وشرعنتها وكذلك التزام الصمت من التوغل الإسرائيلي في الجنوب السوري، والأهم هو استقبال الغزاويين الذين سيتم تهجيرهم من فلسطين وتوطينهم في سوريا وبعض دول الجوار، مثلما يشاع. وبعدها يمكن التخلص من الشرع والمجيء بشخص وطرف آخر ليحكم سوريا ويلتزم بكل الاتفاقيات التي وقعها الشرع أثناء حكمه. تركيا تعمل من خلال الاجتماعات الأمنية مع بغداد وعمان صدهم عن التدخل في سوريا في الوقت الحالي على الاقل حتى يتمم الشرع وظيفته تحت الوصاية والحماية التركية. في العراق والتي تعمل تركيا على تدريب وتمويل السنّة، وكذلك لها تأثير لا يستهان به على الاخوان المسلمين في عمان، الذين ينظرون لأردوغان على أنه الأب الروحي بالنسبة لهم. لكنها المصالح بين الدول التي لا تعرف الأخلاق، وكل يحفر تحت أقدام الآخر وفق مصالحه واطماعه في المنطقة.
استتباب الأمن في سوريا والعراق والأردن، بكل تأكيد لن يكون عبر تركيا، بل على عمان وبغداد الاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية التي أثبتت نفسها في أنها القوة الوحيدة التي حاربت الإرهاب في سوريا ولا تزال. فهل ستتفتح بصيرة الحكومات والمسؤولين في عمان وبغداد على هذه الحقيقة، أم أن استرضاء تركيا وأردوغان أهم من الاستقرار بالنسبة لهم. بكل تأكيد هذا لا يعني القطيعة مع تركيا، بقدر ما ينبغي جعل العلاقة معها تكتيكي ومع قوات سوريا الديمقراطية تحويلها إلى علاقات استراتيجية.
إن صعود أحمد الشرع إلى السلطة في سوريا يمثل نقطة تحول حاسمة في المنطقة، لكنها محفوفة بالشكوك والتحديات. فبينما يسعى الشرع لتقديم صورة جديدة لنفسه كساعٍ للاستقرار، تبقى خلفيته المتطرفة وتحديات الفوضى الداخلية في سوريا مصدر قلق عميق للعراق والأردن. يواجه العراق تهديداً بتجدد نشاط الجماعات المتطرفة وعدم الاستقرار على الحدود، بينما يواجه الأردن استمرار التحديات الأمنية والاقتصادية المتعلقة باللاجئين، بالإضافة إلى تداعيات حل حزب الإخوان المسلمين على الحراك السياسي الداخلي. إن قدرة السلطة الجديدة في دمشق على فرض سيطرتها الكاملة وتوفير الأمن والاستقرار، والتزامها بعلاقات حسن الجوار، ستكون هي المحك الرئيسي لتحديد مدى تأثيرها على الاستقرار الإقليمي في المستقبل القريب. وحتى ذلك الحين، سيبقى الحذر والترقب سيد الموقف في بغداد وعمان.
ساعة واحدة مضت