كافة محاولات الجولاني خلال الثلاث أشهر الأخيرة من توليه سدة الحكم والسلطة في سوريا واستيلائه على دمشق من دون معارك ودخوله كفاتح بعدما طرد الخوارج منها، وفق تصوراتهم طبعاً. كل تلك المحاولات في تغيير جلده وخطاباته وحتى ابتسامته، من خلال الحوارات الإعلامية التي كان يجريها مع بعض وسائل الاعلام الإقليمية والدولية، وكذلك استقباله للوفود الإقليمية والدولية التي جاءت لدمشق مهنئة له على الفتح المبين، وأيضاً زياراته المحدودة لبعض الدول الإقليمية، كل ذلك لم يشفع له ولم يحسّن من صورته ويجعل منه ذاك الرئيس الكيوت والوسيم الذي يعمل على إضفاء الشرعية على نفسه وحكمه.
ما حدث في الساحل السوري خلال يومين فقط، عرَّت وأسقطت ورقة التوت (الشرعية) التي كان يختفي وراءها الجولاني، والتي من خلالها أراد أن يثبت للآخرين بأنه لم يعد ذاك الذي تعرفونه، بل غُسل بالتراب الأحمر والماء سبع مرات وانه بات طاهراً طهورا، ولم يعد له أية علاقة مع ماضيه (الجولاني الجهادي والتكفيري)، وأنه ابن اليوم (الشرع الكيوت والنعجة البريئة).
أرادت بعض الجهات الإقليمية والدولية والتي كانت القوة الدافعة التي أوصلت الجولاني للعاصمة دمشق وإظهاره بأنه الفاتح وهو الذي طرد الخوارج منها، ويحق له ولجماعته القصاص من كل من لم يكن معه مسبقاً وراهنناً. طلبت منه تلك الجهات بأن يكون الرافعة أو الجسر الذي من خلاله سيتم العبور نحو سوريا المقسمة إلى جزيئيات طائفية وأثنية ومذهبية، يكون فيها الكل ينحر الكل. يمكن اعتبار الجولاني أداة وظيفية فقط للوصول لهذه المرحلة التي يُراد منها تقسيم سوريا وانهاكها واستنزاف طاقاتها ومن بعدها تقسيم الكعكة بين من سيبقى منتصراً.
بكل تأكيد علينا ألا نتغافل عن دور تركيا في كل ما حصل وسيحصل في قادم الأيام في سوريا عموماً أو الساحل على وجه الخصوص. تركيا التي أرسلت الفصائل التركمانية الى منطقة الساحل منذ الشهر وتمركزهم هناك، وكذلك ارسالها للمرتزقة والإرهابيين من شتى القوميات والجنسيات الآسيوية لنفس المنطقة، والذين كانوا رأس حربة في نحر وجز رؤوس العلويين هذه الأيام. وبعد ذلك سيظهر أردوغان على خشبة المسرح الملطخة بالدماء ويعلن أنه المهدي المنتظر للعلويين والذي جاء ليخلصهم مما هم فيه. وكأن التاريخ يعيد نفسه منذ قرون عدة. المجازر والقتل وحرق الأخضر واليابس والسبي الذي يحصل، يذكرنا بدخول تيمورلنك إلى الشام وكيف سمح لجنوده باستباحة أهل الشام لأيام عديدة من دون أن يحاسبهم أحد. بل كانت مكافأة لهم على ما بذلوه من أجل اسقاط الشام.
الآن ما تفعله الفصائل الاجرامية الإرهابية في الشام والساحل والمدعومة من تركيا، لا يقل فظاعة وإرهاب عمّا فعله التيمورلنكيين. هو فقط عملية استعادة للتاريخ يقوم به أردوغان ليثبت مرة أخرى بأنه لا يريد فقط استرجاع العقلية العثمانية، بل أنه يعمل ويسعى لتذكير الشعوب بالإرهاب التيمورلنكي والمغولي والعثماني وصولاً للاردوغاني. هي السلالة نفسها تحمل نفس العقلية الطورانية التي لا تقبل أحد ولا الآخر. تقبله فقط إن هو أراد طوعاً أن يخضع ويكون عبيداً لهم، أو أن يكون مقتولاً. ولا خيار آخر أمام كل الشعوب في مواجهة العقلية الطورانية التيمورلنكية. وبكل تأكيد ما فعلته الفصائل الإرهابية والاجرامية المدعومة من تركيا من قتل وترهيب وسبي وحرق وتهجير في الساحل السوري، أسقط شرعية الشرع التي كان يعمل عليها شهوراً ثلاث. دماء العلويين أسقطت ورقت التوت التي أراد الجولاني من خلفها أن يخفي ماضيه الإرهابي. لكن ما تكشفه الدماء، لن تخفيه الخطابات الرنانة ولا المباركات الدبلوماسية.
وكي لا يستمر التاريخ في أن يكرر نفسه مثلما حصل في هندسة الجغرافيا ديموغرافياً في بداية القرن العشرين، والمجازر التي تمت بحق الأرمن والسريان والآشور والكرد والعرب والمسيحيين والمسلمين بكل طوائفهم، كي لا يتكرر نفس الخطأ، على شعوب الشام أن يشكلوا جبهة موحدة أمام الاحتلال والغزو التيمورلنكي الاردوغاني وأذنابهم من الفرق الحميدية المعاصرة التي تعتاش على الطائفية. والابتعاد عن الخطابات الطائفية والعمل على بناء الشام على أساس التعايش بين الشعوب بشكل سلمي ويكون فيه الكل مع الكل. لأن الشام معروفة تاريخياً بحضارتها وثقافتها التي كانت تحتضن كل من كان يعيش على جغرافيتها. فكيفما أنه ليس كل العلويين من مناصري عائلة “الأسد”، بكل تأكيد ليس كل السنة مناصرين لعصابات “الجولاني”. ثمة ما يجمع شعوب وثقافات الشام مع بعضهم البعض أكثر مما يفرقهم. ولن يتم ذلك سوى بالابتعاد عن الخطابات الطائفية والقومجية والتي لن يستفيد منها سوى من يعمل على قضم الكعكعة السورية من الشمال والجنوب.