السبت 23 نوفمبر 2024
القاهرة °C

محمد أرسلان يكتب : إشكالية الانسان في المنطقة؛ رعايا أم مواطنون

الحدث – القاهرة

ما نعيشه الآن من حالة فوضى مستشرية في كافة مفاصل الحياة الفردية والمجتمعية ما هو إلا نتيجة حتمية للحالة الفكرية وللنظم التي حكمت المنطقة منذ عقود من الزمن إن كان ما بعد الحرب العالمية الأولى أو الثانية وما سمي بمرحلة الاستقلال الوطني. منذ ذاك الحين وحتى الآن معظم تلك وهذه الأنظمة التي كانت وما زالت تردد أننا في معركة مصيرية مع العدو ونحن محاصرين وهناك مؤامرة كونية علينا للنيل من سيادتنا وأمننا القومي وكرامتنا. عقود وهذه الأنظمة تبتاع الأسلحة بمختلف أنواعها للتصدي لهذه المؤامرات والهجمات وكل ذلك كان على حساب الشعب والمجتمع ورفاهيته التي تنازل عنها لصالح السيادة والأمن والاستقرار.
لكن خلال العقد الأخير وما نعيشه من حالة الاقتتال والصراع والحروب في بلداننا وما وصلنا له من تشتت وتفكك للدولة القوموية والسيادة الوطنية “الهشّة”، لم تكن بسبب تلك الهجمات الخارجية بقدر ما كانت من عقلية الأنظمة المتحكمة بالدولة والتي كان ولا زال جلَّ هدفها الحفاظ على سلطتها ولو كان ذلك على حساب السيادة والشعب والمجتمع. لأننا نرى أن السيادة قد انتهكت والشعب قدّ تم تهجيره والمجتمع لم يعد له وجود بمعناه الذي عرفناه على أنه أساس التطور الإنساني.
سوريا والعراق واليمن كنموذجاً، وغيرها من البلدان التي أصابها ما أصابها من تفكك داخلي قبل الهجمة الخارجية كانت السبب الرئيس في حالة الانزلاق نحو الدولة الهشة التي نعيشها بكل تفاصيلها. وما الشعارات التي كنا نصدح بها ليلاً ونهاراً على أننا نعيش الدولة الوطنية، لم تكن إلا شعارات جوفاء خدعنا بها أنفسنا قبل أن نخدع الآخرين. حيث لم نكن نعيش في دولة وطنية بقدر ما كانت دولة استبداد تحول فيها الانسان من مواطن إلى رعية. الكاتب جورج أورويل الذي كتب رواية “مزرعة الحيوان” قبل 75 عامًا تقريبا وأثناء الحرب العالمية الثانية، كتبها لأنه كان قد قرأ التاريخ جيدًا وكتبها لجيل المستقبل كي تكون لهم درسًا وعبرة لنا بعد كل هذه السنوات. مزرعة الحيوان هي رواية توثيقية توصيفية للدوغمائية التي أصابت ثورات الشعوب في تلك الفترة ورفضت التجديد في قراءتها للواقع وراحت تتمسك أكثر بالماضي الذي تولى ولن يعود البتة.
هي نفس المرحلة التي نعيشها الان بكل تفاصيل تلك الرواية في دلونا ذات السيادة الوهمية الهشّة والتي حولتها الأنظمة إلى مزرعة الحيوان كما فعلها ستالين وهتلر. ما أشبه أحداث هذه الرواية ونحن نعيشها بكل تفاصيلها الدقيقة وكأننا نعيش عام ١٩٤٥ والسيد أورويل ينظر إلينا ويكتب الرواية وهو يضحك على حالنا.
وهذا هو الفرق الذي لم نكن نعيره أي اهتمام حينها. حيث في دولة الاستبداد يسعى الحكام لتحويل الشعب إلى مجرد رعاع وقطيع ينفذون ما يؤمرون به فقط بعيداً عن ممارسة دورهم في السياسة المجتمعية وبالتالي في المشاركة في بناء الدولة الوطنية. لم نكن مشاركين فيها بقدر ما كنا رعية كل ما هو مطلوب منا أن نحافظ على الدولة بالتضحية بالذات من أجل السيادة والاستقلال. أما النهوض والتنمية بالدولة فلم تكن وظيفتنا مطلقاً وغير مطلوبة مننا بنفس الوقت. لأن الزعيم والخالد هو من يفكر بمصلحتنا التي يعرفها أكثر مننا وهو المسؤول عن رعيته، وكأن ذلك قدرنا الذي قبلنا به طوعاً.
دولة المواطنة التي كانت غائبة عنّا بألف وسيلة ووسيلة، إن كان ذلك بالقهر القوموي الواحد مع اقصاء باقي الشعوب والقوميات أو بالاستبداد الديني المبني على الطقوس فقط مع غياب جوهر الدين الرحيم. فكنا أمام خيارين لا ثالث لهما؛ فإما أن تكون بعثياً عروبوياً قومجياً أو أن تكون من جماعة الاخوان المسلمين التي لا هم لها سوى الوصول للسلطة والتحكم بالبلاد والعباد، وفي كلتا الحالتين لم نكن بنظرهم سوى رعايا أو رعاع فقط لا غير. والانسان ليس سوى قربان يتم تقديمه في بازارات السياسة القبيحة للدول للجهات الإقليمية والدولية.
بكل تأكيد لا يمكن بناء دولة المواطنة بقرار يتخذه الزعيم أو الرئيس الخالد في غفلة من الزمن. إذ، أننا بحاجة إلى ثورة بكل معنى الكلمة على معظم الثقافة التي تم حقننا بها طيلة العقود المنصرمة والتي أدت إلى لما نحن عليه الآن. المواطنة هي حالة ثقافية وممارسة يومية أكثر ما هي قرار وقانون. كما الديمقراطية كيف أنها ليست فقط صناديق انتخاب بل هي تربية ثقافية وحالة توعوية ذهنية. تبدأ بالاعتراف بالآخر وقبول وجوده كما هو وبنفس الوقت ممارسة المجتمع والفرد السياسة التي تكفل حقه في عملية بناء الدولة والمجتمع. فبدون أن يشعر الفرد بأهمية وجوده وخاصة في بناء مجتمعه وممارسته السياسة، لا يمكن أن يحس بالانتماء والولاء للوطن والشعب والمجتمع وسيعيش حالة الاغتراب عن ذاته وشعبه ووطنه، وهو ما كنا نعيشه بكل معنى الكلمة.
ننتظر معجزة إلهية تنتشلنا مما نحن فيه أو مما وقعنا فيه من جب عميق بلا قاع، نحفر بأظافرنا قعر الجب علَّنا نخرج منه، متناسين أننا نغوص أكثر فأكثر نحو الأسفل والعتمة التي هي الجهل بحدِ ذاتها. “محكومون بالموت مع وقف التنفيذ”، قالها أمين معلوف في روايته (التائهون)، نعيش ما بين الحياة والموت، ما بين الحرب والسلام، المستقبل بقناع الماضي. نعيش كما ألفينا عليه آباءنا المتصارعين ما بين الشرق والغرب وما بين الدين والقوموية، حتى بتنا كخراف تنتظر جزارها لتكون ضحية لهذا التيار أو ذاك. المهم أننا ضحية أو قرباناً لهذا الفكر أو ذاك ولهذا الحلف أو ذاك.
وبين هذا وذاك ما زلنا نتصارع فيما بيننا على أن كل طرف يمثل الحقيقة والآخر هو الكافر والعميل والخائن. ثنائيات باتت جزءاً من شخصياتنا وتكويننا الفكري الهزيل المبني على علوم المستشرقين الخواجة الذين يسبقوننا بسنوات ضوئية في علومهم ومعارفهم، كما نحن نتخيلهم. مستشرقين كتبوا لنا تاريخنا وعلومنا ودساتيرنا وشكلوا أوطاننا ورسموا أعلامنا، وأوهموننا أنه لا بدّ من برلمان كي نكون ديموقراطيين. برلمان شبيه بحلبة المصارعة الاسبانية أو كما يسمونه بـ (كولوسيوم) يتصارع فيه العبيد لحساب الملوك ولتكون المصارعة (الانتخابات) احتفال سنوي لا جديد فيه سوى أن العبيد يتصارعون ليفوزوا بحياة وهمية حتى جولة أخرى لا أكثر.
اختزلوا الديمقراطية بانتخابات برلمان العبيد والذي يستمر حتى راهننا بنفس الجوهر والوظيفة ليسن لنا تشريعات وقوانين ليس لها علاقة بواقع الحياة للشعوب والمجتمعات. تناسوا أن الديمقراطية ثقافة واحترام الآخر وقبوله كما هو وليس كما أنا أريد، وهكذا وصلنا لمجتمع متنمل استهلاكي مخصي ينتظر العناية الإلهية لتخلصه مما هو فيه. من هنا كانت بدعة المخلص والمهدي المنتظر الذي سيأتي ليخلصنا من الظلم الذي نحن فيه. أي علينا فقط الانتظار. وهنا تكمن اللعبة الحقيقة التي وقعنا فيها كي لا نعمل ونجتهد ونتعلم لنخرج أنفسنا بأيدينا من الجهل الذي نحن فيه. بل علينا أن ننتظر الآخرين كي يخلصونا، ونقع في فخ الاتكالية والانتظار وقبول العبودية لأننا نؤمن بأن المخلص سيأتي يوماً ما. وبهذا نكون قد قتلنا عامل الوقت بأيدينا، في وقت قالها أجدادنا أن (الوقت كالسيف إن لم تقطعه، قطعك). تراجيديا كبيرة نعيشها مع الزمن والوقت والاستفادة منه، بل اغتربنا عن الزمن حتى صرنا لا نبدي اية أهمية له.
متى ما تخلصنا من هذه العقدة التي أصبحنا أسرى لها حينها سنتحرر من الكثير من الموروثات التي كانت تكبلنا وتمنعنا من مقاومة الجهل. بالعلم والمعرفة والإصرار وحده يمكننا القضاء على الجهل والاعتماد على الذات، التي هي القوة الجبارة التي لا تعرف المستحيل. حينها ففقط نعرف حقيقتنا وحقيقة العدو الذي نصارعه والذي يمكننا كشف حقيقته الزائفة التي يختفي وراءها.
ثنائيات مثلها كمثل الهويات القاتلة لأمين معلوف، لا يمكن الاعتماد عليها لبناء الانسان ولا حتى المجتمعات وكذلك الأوطان. البحث عن الهويات الجامعة هو السبيل الوحيد للخروج من مستنقع الاقتتال الطائفي والمذهبي والإثني الذي نغرق فيه يوماً بعد يوم. سوريا هي ضحية تلك الثنائيات والهويات القاتلة، كما العراق واليمن وليبيا ولبنان، وغداً لا نعرف أية دولة ستكون ضحية هذه الهويات الثنائية القاتلة.
ثنائية المشرق والمغرب ما بين أمريكا وروسيا والصين، الشيعي والسني، حزب الله والاخوان المسلمون، المسلم واليهودي، المطبع والمقاوم. وبين هذه الثنائيات الهوياتية القاتلة يختفي المنافقون السلطويون وراء أقنعتهم ليقنعوا السذج بالتضحية بذاتهم من أجل الوطن والدولة والسيادة، بينما هم يسرقون قوت الشعب والبلاد.
فراغ فكري نعيشه بشكل كبير أوصلنا لحالة من الضياع والبحث عن أية فكرة تنجينا من الموت الذي نحن فيه. والبحث عن أفكار في أماكن أخرى ربما لن تنجينا بقدر ما ستجعل مننا خانعين لتلك الثقافة ليس أكثر وكأننا نتمسك بقشة الموت وليست الحياة. ينبغي البحث في تاريخنا العميق ذي الحضارة الضاربة في جذور تاريخ الإنسانية. من جغرافيتنا وتاريخنا وثقافتنا يمكننا بناء حاضرنا والانطلاق به للمستقبل.
ربما تكون المعضلة الرئيسة التي نواجهها في تعاملنا مع ذاتنا والآخر تنبع في تجاهلنا للحقيقة التاريخية التي كانت يومًا ما أساس تطور كافة الثقافات المجتمعة مع بعضها البعض على هذه الجغرافيا. والانقطاع عن التاريخ بكل تأكيد سيولد معه المجتمعات المسخة التي لا تعي حاضرها وتسير في المجهول نحو مستقبلها، بالرغم من كافة ما تقوم به من طفرات صناعية وعمرانية.
الأساس في بناء المجتمعات البشرية المتقدمة يبدأ من النظر إلى الحالة الذهنية لها والعمل على تنقيتها من الشوائب وحقنها بالمقويات المعرفية والإدراكية لبناء مجتمع سياسي وأخلاقي الذي يُعتبر جوهر بناء الإنسان الحر. تطور البشرية يعتمد أساسًا على تطور الحالة الفكرية لديه وكل ذلك بدأ بأم العلوم الانسانية والتي هي الفلسفة والمرتبطة بشكل وثيق بالسوسيولوجيا المجتمعية. ولا يمكن انكار دور الفكر والبحث عن الحقيقة النسبية التي أمَّنت الطمأنينة للانسان ليفكر بمستقبله. وحينما ينقطع الإنسان عن هذه الثوابت نراه يتخبط يمنة ويسرة لا يستطيع تثبيت أقدامه خلال المسيرة التاريخية.
المشكلة الكبيرة هي أننا نبدأ تاريخنا من بعض الأرقام التي حفظناها وننسى بعدها أو ما قبلها، وكأن التاريخ بدأ من هذه اللحظة وكل شيء ما قبلها لا يعنينا مطلقًا أو نثرثر فيه وكأنه فانتازيا نخبوية لا فائدة منها. اللحظة التي نعيشها هي نفسها بعد ثوانٍ معدودة ستكون ماضٍ وتاريخ بحد ذاته والتي من خلالها سيتم رسم المستقبل الذي أمامنا في هذه اللحظة ولكن بعد برهة سيتحول هذا المستقبل أيضًا إلى تاريخ.
من هنا نرى أن عملية الفصل فيما بين اللحظة والتاريخ والحاضر والمستقبل لا يمكن أن يتم إلا بشكل نسبي، وهي علاقة مترابطة مع بعضها البعض ولا يمكن تجزأتها وتقسيمها، كذلك الكوني والجزئي أيضًا لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض. لأن الكوني والعام يتألف من الجزئي بحد ذاته ولا يمكن تواجد الكوني من غير الجزئي والعكس صحيح أيضًا.
حينما يتم تحليل الحالة التي نعيشها نُدرك جيدًا أن السبب الرئيس لما نعانيه من تشتت وتخبط هو عدم استيعابنا للتاريخ بشكل جيد وإن كنا نحفظه عن ظهر قلب. تلقين التاريخ لا يكفي للنهوض بالمجتمع نحو المستقبل، بل علينا أن نعيش التاريخ بروحه ونبني المستقبل وفق التطورات الحديثة لنبعث من جديد.
تاريخ منطقتنا يمتد لآلاف السنين من الحضارة والمدنيات التي كانت معمرة يومًا ما، إلا أننا نبدأ التاريخ من بداية تشكل الدول وبالتحديد من القرن العشرين ونعتبره أساسًا في علومنا ومنهج تفكيرنا ونتناسى ما قبله وكأنه صفحات من كتاب التاريخ نتذكره حدث في مثل هذا اليوم من الماضي.
بداية القرن العشرين وحتى الآن لم يكن سوى انحدار أكثر نحو الهاوية التي نعيشها الآن. وما نراه ورأيناه لم يكن سوى قرنًا كاملًا من الصراعات والحروب والنكسات والنكبات والتقسيم والتهجير والدمار والخراب والانقلابات، مع بعض الفترات الزمنية القصيرة التي كانت فترة استراحة لم يحدث فيها سوى بعض التطورات الشكلية التي لا تغني عن الواقع الأليم الذي ما زلنا نستمر فيه.
مع العلم أن آلاف السنين قبل القرن العشرين كانت المجتمعات والشعوب وكل الثقافات تعيش مع بعضها البعض من دون أن يفني أحدهما الآخر. هذا التاريخ الذي علينا الارتباط به وليكن الأساس في بناء المستقبل.
الأنانية الفجَّة هي المتحكمة في انفعالاتنا وأهوائنا أكثر من الروح الجماعية التي هي اساس التطور المجتمعي عبر التاريخ. وكل شخص لا يفكر إلا بنفسه ويسعى لأن يوصلها لأفضل معيشة ولو كانت على حساب أقرب المقربين إليه، كذلك العائلات والجماعات حتى نصل إلى الدول.
الكل يفكر بنفسه ولا يهتم بما يجري من حوله وكأن الأمر لا يعنيه بتاتًا. وأن الحدود السياسية للدول التي جعلت منها ملكيات خاصة للنظم المسيطرة عليها، باتت من المقدسات التي لا يمكن لأي كائن أن يتقرب منها فكريًا كي ينتقدها، إنها من المحظورات والتي ستؤدي بكل من يفكر عبور هذه الحدود فكريا على أنه من الروافض أو زنديقًا أو خائنًا وعميلًا، وإقامة الحد هو الفاصل لإنهاء أية حالة فكرية يمكن أن تكون عنوانًا والتي من خلالها يتم بناء المجتمعي النمطي المخصي فكريًا وذهنيًا.
الهويات القاتلة هي نفسها الحدود القاتلة التي تم رسموها لنا خلال الحروب المقدسة في بدايات القرن العشرين ولا زلنا مؤمنين بها وكأنها منزلة من السماء. وحتى أصبحت هذه الحدود والهويات وبالًا على الشعوب والمجتمعات بدلًا من أن تكون عوامل قوة وتطور.
التحرر من التاريخ النمطي هو الأساس في تغيير منظومة تفكيرنا وكذلك الاعتراف بأنه لا يمكن أن أكون موجودًا إلا بوجود الآخر. وهذا يلزمه تغيير الخطاب الفكري من الأساس والذي يبدأ من تنقيته من كافة الشوائب والطفيليات العالقة به والنهوض بالفكر نحو الفضاء الأوسع، الذي يخفي بين جنباته الحقيقة والحرية.
وهنا يأتي دورنا لتعريف المثقف والثورة التي تم تناولها من قبل الكثير من الكتاب والمثقفين في الفترة الأخيرة. وإذا عملنا على إعادة تعريف الثورة بمفهومها وتعريفاتها البسيطة فلربما تكون “هي العمل المكثف” من أجل إحداث التغيير الاجتماعي والثقافي في مجتمع ما والذي منه يكون العمل بشكل منسق مع وبنفس الوقت لإحداث التغيير الاقتصادي والسياسي نحو الأفضل وكل ذلك يهدف لأمر واحد ألا وهو بناء المجتمع السياسي والأخلاقي الحر وكذلك الانسان الحر. وكذلك المثقف يمكن تعريفه بشكله المبسط وبعيداً عن التعقيدات على أنه الشخص الذي يمتلك ذاك الحس والإرادة المتوافقة مع متطلبات التغيير التي تسعى لها الثورة.
الذي يحدد هنا أجندات المجتمع والتغييرات التي ينبغي أن تحصل كي يتم الوصول إلى الهدف من هذه الثورة هو بكل تأكيد المثقف المعني بشكل مباشر به والذي يعتبر أحد العوامل المهمة والرافعة والدافعة لعملية التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي وكذلك الاقتصادي.
إعادة النظر في مهام ووظيفة المثقف هي حالة جماعية تقع على الجميع وليس فقط على المثقفين لوحدهم. حيث أن للمجتمع أيضاً دوراً مهماً في ذلك في تحديد مكانة كل من يدعي على أنه مثقف. حيث أن المجتمع هو في النهاية الوعاء الذي سيتم صب الأفكار والمفاهيم الجديدة فيه وتوجيهه نحو المستقبل المنشود الذي يعمل عليه الكل وليس فئة معينة فقط. فكيف أنه للمثقف دوره الذي سينغي عليه أن يقوم به كذلك على المجتمع أن يكون هو الميزان والمقياس السليم والوجداني في مساعدة المثقف في القيام بمهامه المنوطة به. لأنه في النهاية نجاح المثقف بوظائفه يعني في نفس الوقت نجاح المجتمع في إعادة بناء ذاته والعكس صحيح بنفس الوقت، وإلا تحولت الثورة إلى بطة عرجاء لا يمكن لها الطيران ولا حتى السير على الأرض المنبسطة.
نحتاج إلى ثورة ذهنية تقضي على كافة الموروثات والمصطلحات القومجية والدينية المتطرفة التي تُعلي من طرف على حساب طرف آخر، لنصل لحالة من التساو بين الجميع. وأول سؤال سيتبادر إلى ذهننا في عملية البناء هذه هو؛ هل ما نحن مقبلين عليه من عملية بناء المستقبل سنكون فيه رعايا أم مواطنون؟ إن كان الجواب هو أننا سنبقى كما كنا كما يحاول النظام والمعارضة تعويمه فبئس النظام والمعارضة ولن نقبل أن نكون ضحايا لهذه الذهنية الانكارية والاقصائية التي تختزل الفرد والشعب والمجتمع في شخص الزعيم. لكن إن كان الجواب هو مواطنون؛ حينها ثمة آليات وقرارات كثيرة علينا اتخاذها بدءاً من تغيير الذهنية الاستبدادية واستبدالها بذهنية ديمقراطية التي هي السبيل الوحيد فقط لبناء نظام لا مركزي يكون فيه الانسان هو الهدف من الحياة.
الأمة الديمقراطية ربما تملأ الفراغ الذي نعيشه فكرياً في وقت ما زال الآخرين متمسكين بالماضي. فلسفة اعتمد عليها أوجلان لإخراج المنطقة من حالة الفراغ والموت التي تعيشها نحو الانطلاقة القوية لبناء المجتمع الحر المعتمد على أخوة الشعوب والتعايش السلمي. بعيداً عن المناطحات الطائفية والمذهبية والاثنية التي كانت ولا تزال أكبر أداة حفارة قبور الشعوب. الأمة الديمقراطية التي تحتضن كل القوميات والأديان والطوائف لتتعايش فيما بينها على أساس الاحترام المتبادل، هي على العكس تماماً من الأمة الدينية والأمة القومجية اللتين تعتمدا على الدين الواحد والقومية الواحدة والعلم الواحد. التنوع هو مصدر القوة لأي مجتمع يتطلع نحو بناء المستقبل، بعكس المجتمع المتجانس الواحدوي الذي لن يكتب له النجاح ولنا في التاريخ عبرة.

to top