حنّان مامد
يظهر جليّاً مدى استخدام إدارة البيت الأبيض السياسة البرغماتية الآنية في العديد من قضايا الشرق الاوسط وتبتعد رويداً رويداً عن رسم استراتيجية واضحة لأغلب مشاكل وازمات المنطقة كما عهدناها فيما سبق من تنفيذ سياسات بعيدة المدى تخص الأمن الاقليمي والعالمي، فبعد استلام ترامب سدة السلطة في أمريكا تراجعت السياسة الخارجية للولايات المتحدة الامريكية على أساس شعار الذي استخدمه ترامب في حملته الانتخابية والذي كان ‘ أمريكا أولاً ‘ أي أنه كل الاجندات والاعمال الدولية الخارجية والداخلية يجب أن تتم ضمن خانة المصالح الامريكية العليا، قد يقول البعض هذا الكلام يعرفه القاصي والداني وهو معروف بالنسبة لدولة تمثل أعلى سلطات الحداثة الرأسمالية.
لكن ما هو غريب ومستجد هو التناقض الامريكي في تطبيق الاستراتيجية في ساحات الشرق الاوسط بالتباين مع ظهور استراتيجية واضحة لروسيا الاتحادية التي تعمل بكل اجنداتها واساليبها القويمة والملتوية في وضع موطئ قدم على مجمل ساحات الشرق الاوسط من خلال موقفها المساند والمستميت بالدفاع عن الدولة السورية وأيضاً بعقد العلاقات القوية مع الدول العربية خاصة الدول الخليجية وهيمنتها السياسية والعسكرية في محاولة التأثير على دول الشرق الاوسط، واللعب على توازنات متعددة مع تركيا من خلال استخدام سياسة الترهيب والترغيب لفصل تركيا عن الحاضنة الغربية وفكّ ارتباطها السياسي والعسكري والايديولوجي والاقتصادي عن هيمنة الحلف الاطلسي.
روسيا تحاول جاهدة البحث عن مواقع جيوسياسية لتكون صاحبة الكلمة العليا في ساحات السياسة والعسكرة وبالتالي الاقتصاد الذي يتتالى بعد تحقيق الهدف الاعظمي الجيواستراتيجي، بينما أمريكا أو بالأحرى الإدارة الحالية تبحث عن اهداف ربحية في مجملها خاصة في الآونة الأخيرة في سوريا والعراق.
وأخر التناقضات الامريكية هو دعم الدولة التركية في ادلب بمواجهة روسيا، حيث تدّعي امريكا بأن سيطرة الروس على ادلب ستكون بالتالي زيادة نفوذها في سوريا وبالتالي صنع الحل الذي يلائمها وبيد بوتين !
إذا ما كانت امريكا حريصة على تحجيم وتقليص دور روسيا في سوريا فلماذا انسحبت جزئياً من شرق الفرات، واخلت قواعدها العسكرية في العديد من مناطق شمال وشرق سوريا وبدورها قامت روسيا بوضع أعلامها على تلك القواعد العسكرية في مشاهد نادرة لم تحصل في تاريخ العلاقات بين الدولتين العظمتين، واهانة واضحة للسياسة الامريكية مثلما قال بعض نواب الكونغرس : “لقد شعرنا بالخجل عندما رأينا العلم الروسي يرفرف على القواعد الامريكية السابقة” !.
وأيضاً فقدت الكثير من نفوذها الجيوسياسي في سوريا وأغلب الطرق المهمة التي كانت لها التأثير السلبي على النظام السوري، وعندما شعرت بالخطأ الجسيم قامت بحلول “إسعافيه” منها ايقاف الانسحاب والعودة جزئياً الى مناطق النفط والغاز وقالت بصراحة مطلقة إنها موجودة من أجل النفط فقط .
طبعاً من المهم أن تستخرج الموارد والثروات الباطنية لكن تكمن المعضلة والاهمية في تسويقها وتصديرها عبر طرق جيوستراتيجية يكون لها الأثر الاعظمي في سياسات الدول فعلى سبيل المثال طريق الحرير البري الذي تحاول الصين تفعيله وانشائه ستوصل كل البلدان والدول الأسيوية والافريقية ببعضها وستحاصر الهيمنة الامريكية في النصف الشرقي للكرة الأرضية من خلال ربط كل الطرق البرية التجارية والسياسية عبر البلدان وبالتالي سيكون للصين أهمية كبرى في صنع القرارات على مجمل ساحات العالم، وأيضا على سبيل المثال طريق طهران _ بيروت الذي تحاول إيران انشائه سيكون لها موطئ قدم في المياه الدافئة وتربط العراق بسوريا ولبنان ببعضها لتزيد من هيمنتها الايدولوجية الشيعية على هذا الخط، كذلك المشروع القطري التركي الذي يحاول من خلاله إيجاد طرق دولية تمر عبر سوريا لنقل وتمديد خطوط الغاز والنفط من قطر إلى أوروبا ويكون عرابها اردوغان ومن معه من الحركات السلفية والجهادية.
إذاً هذا يدل على مدى أهمية المكامن الجيوسياسية وأثرها البالغ في رسم السياسات الدولية وليس فقط اكتساب المنافع الربحية الآنية التي تحاول الإدارة الامريكية تحقيقها بسذاجة وقلة تبصير وعدم تحليل المستقبل بنظرة استراتيجية معمقة.
احدى الجوانب للبرغماتية الأمريكية يتمثل في دعم الإدارة الامريكية للدولة التركية في ادلب بالرغم من إنها مقتصرة على الدعم الدبلوماسي والسياسي فهي بذلك تدعم الحركات الجهادية الراديكالية في نفس الوقت الإدارة الأمريكية تعلم بإن هذه الحركات والمجموعات الإرهابية انتجتها تركيا وقطر لتحقيق سياساتهم الإرهابية في الشرق الأوسط والتي تقوم امريكا اساساً في محاربتها وتضييق الخناق عليها في العالم فجبهة النصرة والجيش المسمى بـ”الجيش الوطني” المدعوم تركياً ليسوا أفضل من تنظيم داعش الإرهابي وهي موجودة تحت العين التركية وتتلقى دعمها السياسي والعسكري من تركيا.
وكنتيجة لماذا لا تحارب الولايات المتحدة الامريكية تلك المجموعات في ادلب وتكتفي فقط بمحاربة داعش..؟، هذا هو التناقض بصلب جوهره ويمثل الوجه الحقيقي للبرغماتية التي تتغير يومياً وفق التغييرات والتطورات المتسارعة في الشرق الاوسط والتي ليست لها أي ثابت استراتيجي بعيد المدى.
أما فيما يتعلق بخطاب ترامب الذي يحث على سحب جنود الامريكيين من الشرق الاوسط واتباع نهج سياسة النئي بالنفس عن الصراعات الاثنية والاقليمية والطائفية في الشرق الاوسط على حسب قوله وتجلى ذلك بانسحاباته المتكررة من أفغانستان والعراق وسوريا فالعكس تماماً مما قاله فسرعان ما أرسل الآلاف من الجنود إلى الشرق الأوسط لحماية المصالح المشتركة مع الدول الخليجية أمام المدّ الإيراني الأيديولوجي والعسكري .
إن بقيت السياسة الخارجية الأمريكية على هذا النهج البراغماتي الآنيِ القصير النظر غير الاستراتيجي فيما يخص الشرق الاوسط، فأنها ستدفع اثمان باهظة ما لم تقم بإدراك الموقف وحيثياته المهمة على السياسة الامريكية في الشرق الاوسط وسيكون العّراب المستقبلي لها الروس والصينيين في رسم الاستراتيجية الاقليمية مع الأوربيين ومن ثم الدولية إن نجحت وتعاظمت الهيمنة الروسية الصينية أمام المارد الأمريكي.
أسبوعين مضت
4 أسابيع مضت