الأحد 24 نوفمبر 2024
القاهرة °C

منبج؛ بين نافذة التاريخ وأرض الواقع

تقرير/ آزاد كردي

تعد منبج لؤلؤاً مكنوناً، بمخزونها الأثري العريق الذي يظهر عراقة الأجداد وأصالة التراث، بما خلفوه من آثار متنوعة، تتوزع على كافة أماكنها، وفي عصور وحقب تاريخية مختلفة، ولمعرفة المزيد عن تاريخ منبج وأبرز المواقع الأثرية ووضع حالة آثارها في الوقت الراهن، التقت صحيفتنا “روناهي” بالخبير الأثري في مديرية الآثار؛ التابعة للجنة الثقافة والفن في مدينة منبج وريفها؛ عبد الوهاب شيخو.

بداية، وحول إحداثيات موقع منبج وطبيعتها، حدثنا الخبير الأثري، بمديرية الآثار في مدينة منبج وريفها؛ عبد الوهاب شيخو عن ذلك قائلاً: “تقع مدينة منبج (هيرا بوليس) إلى الشمال الشرقي من مدينة حلب الحالية على بعد 80 كم بالقرب من نهر الفرات، وتتميز بمنشآت دينية وجنائزية، بما فيها؛ المعبد والأكروبول والسور، والحي البيزنطي”، وعن الفترة التي يعود إليها الموقع الأثري، قال: “هو موقع بيزنطي بحت، وحتى الآن هناك سويات أثرية مختلفة تعود لعصور ما قبل العصر البيزنطي، كما ظهر خلال العمل أساسات واضحة لبيوت سكن ضخمة لكن اللقى الأثرية التي تم العثور عليها لم يكشف عنها نهائياً كون العمل لا زال في طور البداية”.

معبد منبج، كما وصفه لوسيانوس

أردف شيخو: “يمكننا الاستدلال على موقع المعبد والأكروبول، وبعض أجزاء السور المتأخر التي لا تزال ظاهرة، والحي البيزنطي، ومنطقة المدافن. أما المعبد: فيحتل مكانه حالياً ملعب منبج وقسم من الحديقة العامة، وحتى الوقت الحاضر لا نملك أية وثائق أثرية عن هذا المعبد؛ باستثناء الوصف الذي أتى على ذكره لوسيانوس في كتابه -الآلهة السورية- إذ يذكر قصة بناء المعبد والطقوس التي كانت تجري ضمنه”.

استكمل الخبير الأثري عبد الوهاب شيخو حديثه عن المعبد وما ورد من نصوص حوله: “ومن المناسب هنا أن نأتي على موجز لوصف لوسيانوس لهذا المعبد الذي كان بنظره من أعظم المعابد قداسة وإجلالاً ومن أغنى المعابد التي عرفها، كما ويسرد قصة بناء المعبد على أن الصرح القائم اليوم، ليس هو نفسه الذي بني في الأصل، أي؛ إن المعبد هو من بناء ستراتونيس زوجة أحد الملوك الآشوريين. وطلب كومبابوس من الملك أن يسمح له بالعودة لإكمال بناء المعبد حيث أكمله”.

طقوس خاصة بالمعبد

وتابع شيخو في حديثه عن المعبد، فقال: “حدثنا لوسيانوس أنه أقيم على تلة، وهو محاط بسور مزدوج، ويتجه نحو الشمس ويتم الولوج إليه عن طريق مصطبة حجرية، يليها مدخل الهيكل المزدان بأبواب ذهبية. كذلك الأمر بالنسبة لداخل المعبد الذي يحتوي على مصلى مخصص للكهنة فقط، وقد وضع فيه تمثال من الذهب لهيرا بوليس وآخر لزيوس. وبالقرب من المعبد توجد بحيرة كانت تحتوي على أنواع مختلفة من الأسماك وفي وسطها يرتفع مذبح حجري تحرق فوقه العطور باستمرار. وكان الكثير من الناس يأتونه يومياً سباحة ويحملون معهم القرابين؛ إيفاء لنذرٍ ما. وعلى شاطئ هذه البحيرة كانت تقام احتفالات كبرى تدعى النزول إلى البحيرة حيث كانت تنزل كافة تماثيل الآلهة، وفي مقدمتها تمثال هيرا. ويذكر لوسيانوس العديد من الأعياد التي كانت تجري ضمن المعبد، وأهمها؛ عيد بداية الربيع، كما يتحدث عن الطقوس التي تجري ضمن هذا المعبد
أيضاً”.

وأردف “للأسف لا توجد بين أيدينا أية وثائق عن مخطط المعبد ومنشأه إلا أن ما تجدر الإشارة إليه أن سكان مدينة منبج وقبل أن يبنى الملعب كانوا يستذكرون وجود بحرة كانت تتجمع فيها المياه وكانوا يسبحون ضمنها، وأنها كانت تحتوي على سمك. أما في عام 2010 أجريت بعض الأسبار الأثرية داخل الملعب بعد العثور على بقايا جدران أثرية مؤرخة على العصر البيزنطي، كما كشف عن حدود البحرة المقدسة. ونأمل في السنوات القادمة متابعة أعمال التنقيب ضمن الحديقة المجاورة للملعب البلدي حيث تقع بقايا معبد هير بوليس”.

سور منبج والأكروبول

وأشار شيخو في حديثه إلى سور منبج بالقول: “بالطبع، لقد وصف فرانز كومون الذي زار سور المدينة في عام 1907م حيث تطلب ذلك أكثر من ساعتين للدوران حوله، وهو بحالة جيدة مع الخندق الذي يسبقه، وأن حجم الخرائب الذي تحتويه المدينة عظيم بامتداده، إذ يشكل مقلعاً واسعاً يستغله السكان لبناء منازلهم. أما الأكروبول؛ فيتوضع ضمن الحي القديم في المنطقة العليا من منبج، بما يعرف باسم منطقة القلعة من قبل الأهالي، وضمن هذه المنطقة نجد جداراً مبنياً بقطع حجرية كبيرة؛ نتيجة الأعمال الحديثة من قبل الأهالي، ويتألف؛ الأكروبول من حجارة كلسية طرية مبنية بشكل متناوب بأحجار طولية، ومن ثم عرضية، ومن الأرجح أنه يعود للعصر الروماني”.

الحي البيزنطي وماهيته

وذكر شيخو: “إن الحي البيزنطي كشف النقاب عنه بالصدفة في تاريخ 25 تشرين 2008م أثناء قيام آليات مجلس المدينة بشق طريق. ويتألف من لوحة فسيفساء تم تأريخها على العصر البيزنطي، وتضم رسومات حيوانية ونباتية. كما وعثر على بقايا لوحة أخرى في نفس المنطقة، إضافة إلى بقايا جدران ومنشآت أثرية، وذلك في الجزء الشمالي الشرقي من مدينة منبج، وقد تم الكشف عن منطقة المدافن المؤرخة على نفس العصر وذلك في الجزء الشمالي من منبج، وهذه المدافن محفوظة بحالة جيدة، خصوصاً رسوماتها الجدارية ذات المواضيع الهندسية والنباتية باعتبارها تقدم معلومات هامة عن العمارة والطقوس والعادات الجنائزية في المنطقة خلال العصر البيزنطي”.

القيمة التاريخية لمنبج

وحول القيمة التاريخية لمنبج، أكد الخبير الأثري في مديرية الآثار؛ في مدينة منبج وريفها؛ عبد الوهاب شيخو ذلك بالقول: يعود ذكر مدينة منبج إلى الألف الثاني قبل الميلاد، تتمثل بذكر بسيط جداً خلال الحكم الآشوري، وكذلك الأمر بالنسبة للعصر الآرامي حيث كانت ضمن مملكة بيت عديني الآرامية؛ الواقعة بين البليخ شرقاً وضفتي نهر الفرات الأوسط غرباً، وكانت عاصمتها برسيب تل أحمر؛ الواقعة إلى الجنوب من مدينة جرابلس. وقبيل سيطرة الإسكندر المقدوني على المنطقة كانت منبج تحت حكم أسرة “عبد حدد”، وهي أسرة آرامية، وأصبحت منبج في ظلها مركزاً لعبادة الإلهة آتار غتيس. وبعد سيطرة الإسكندر المقدوني على المنطقة أعادت زوجة سلوقس الأول خليفة الإسكندر بناء معبدها للتدليل على مدى احترام السلوقيين لهذه الآلهة.

أهمية منبج في العصور القديمة

وبيّن شيخو أهمية منبج ودورها عبر التاريخ في الحضارات المتعاقبة: “تأتي أهمية منبج في أنها أصبحت خط الدفاع الأول في مواجهة الفرس في العصر الهلنستي واستمرت في لعب هذا الدور في العصرين الروماني والبيزنطي فيما بعد. وقد كانت المدينة محصنة بسور منيع تعرض للتخريب والتهدم بعد هجرها في عهد الإمبراطور جوستنيان، اتخذها قاعدة له بعد أن أمر بترميم أسوراها وأخذت الجيوش تنطلق منها للإغارة على بلاد الفرس. وفي العصور المتأخرة أخذت حجارة السور وأبنية المدينة لاستعمالها من قبل الأهالي في بناء منازلهم، إضافة إلى حجارة أبنية المدينة الأخرى، وحتى وقت الحاضر لا تزال هذه القطع الحجرية موجودة داخل المنازل التي تمثل أجزاء من أعمدة وقواعد أعمدة وسواكف”.

حالة المواقع أثرياً

وأما عن حالة وضع آثار منبج في الوقت الراهن، أضاف شيخو: “إن المشكلة التي تعترض الآثاريين والمهتمين بتاريخ هيرا بوليس، تتمثل باندثار أغلب المباني التي تعود للعصور الكلاسيكية وما بعدها، ومن جهة أخرى إن التوسع العمراني الذي شهدته المدينة خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين أضاع فرصة إجراء أعمال تنقيب داخل المدينة، كما هو الحال في المدن المأهولة، وبالتالي تلعب الصدفة بين الحين والآخر؛ الدور الأساسي في الكشف عن بعض البقايا الأثرية التي لم تتعرض للتخريب، أما خرائب هيرا بوليس فلم ينقب عنها بعد ولا يوجد أي وصف مفصل للمدينة ولا حتى أي مخطط دقيق لها”.

بريق خفي؛ بانتظار أعمال التنقيب

وواصل حديثه فقال: “لا شك أن أغلب أجزاء السور قد حلت مكانه الأبنية السكنية إلا أنه يمكننا أن نشاهد بعض الأجزاء، حيث يتطلب هذا الأمر مزيداً من البحث والدقة لا سيما أنها تقع داخل المنازل أو أسفلها، وهذه الأجزاء تعود لعصر جوستنيان فيما أمر بأعمال الترميم أثناء استقراره في منبج، وتتوضع هذه الأجزاء في الجهة الشمالية والشرقية، أما أجزاء السور في الجهة الجنوبية والغربية فهي مخربة بالكامل ولم يتبق منها ما هو ظاهر”.

واختتم الخبير الأثري في مديرية الآثار في مدينة منبج وريفها؛ عبد الوهاب شيخو عن ذلك بالقول: عملت البعثة الأثرية السورية – الفرنسية في الموقع الأثري المكتشف عام 2008م الموجود شرق المنطقة الصناعية، واكتشف حينها حصيرة من الفسيفساء تعود للعصر البيزنطي. وجاءت أعمال التنقيب هذه بعد اكتشاف الموقع الأثري المذكور مصادفة عند شق طريق لمصلحة مجلس المدينة. أما الآن فتجرى أعمال التنقيب بشكل مخطط ومنظم بغية التعرف على السويات الأثرية في الموقع الذي أرجعته البعثة إلى العهد البيزنطي.

الجدير ذكره، أنه حتى الوقت الحاضر لا توجد معلومات كافية عن تاريخ منبج لا سيما وأنها لم تأخذ نصيباً كافياً من الأعمال التنقيبية والدراسات الأثرية، خصوصاً وأنها كانت تتمتع بأهمية دينية واقتصادية وعسكرية كبيرة خلال العصرين الهلنستي والروماني، فضلاً عن الأهمية الفنية التي تتجلى بوضوح في الأعمال النحتية المعروضة في الحديقة العامة.

-روناهي

to top