الحدث – القاهرة
داء ابتلينا به منذ زمن طويل ولم نكن نعيره أي اهتمام ونقول بداخلنا بأن الزمن كفيل بأن يقضي عليه كما بقية الأمراض المجتمعية والثقافية التي نعاني منها ولا زلنا ننظر إليها بسطحية. تجاهلنا هذا أوصلنا لحالة من الارتباك النفسي ولم نعد نعرف كيف لنا أن تواجه ما يحيط بنا من شخوص لا تحمل بين جنباتها إلا السوء. مقولة نرددها دائما وتعلمناها من آباءنا وأجدادنا أن “ابتعد عن الشر وغني له” وبالبلدي نقول “واحنا مالنا”، هذه المقولات التي حفظناها ظهراً عن قلب ربما كانت السبب الرئيسي لمجمل الحالات التي نواجهها يومياً ولا نعرف كي نتقي شرها.
أول هذه الأمراض هي التعامل مع الجهلة الذين يرون أنفسهم يعلمون كل شيء في أي شيء مع العلم أنهم لا يدركون أنهم لا يعلمون شيئاً. ولكن كمية الجهل التي يعانون منها جعلتهم يشعرون بأنهم اذكياء جداً ويمكنهم التحدث وإعطاء الرأي في أي موضوع يُطرح أمامهم أو عليهم. الجهل حالة أو هي ظاهرة تعاني منها مجتمعاتنا منذ قترة طويلة وكل الوسائل التي نستخدمها للتخلص منها لم تجدِ نفعاً حتى الآن. حتى الابتعاد عن الجاهل بحدِ ذاته يعتبر فتح المجال أمامه كي يتمادى أكثر في جهله وغيّه.
بكل تأكيد الجهل ليس له أية علاقة بالتعليم بل هو حالة نفسية يعيشها الجاهل ويعتبر نفسه يعلم مالا يعلمه الآخرون، أو أن على الآخرين أن ينصتوا له فقط ويهزوا برؤوسهم دلالة على كل ما يقوله صحيحاً ونافذ المفعول لكل زمان ومكان. والهم الأكبر لهذا الجاهل هو الوصول إلى السلطة التي من خلالها يمكنه التعبير عنها بأي شكل كانت. سلاح الجاهل الوحيد هو السلطة وحالما يستحوذ عليها نراه يتحول إلى مستبد ودكتاتوري وشوفيني بكل معنى الكلمة. مستبد برأيه على أنه هو الصحيح فقط وكل ما عداه يعتبر هراء ودكتاتوري لا يترك لأحد بأن يعتبر عن رأي آخر غير ما يقوله هو وشوفيني لا يرى إلا نفسه وكل من هو حوله ما هم سوى طيف مؤقت سيزولون حالما يأمر بذلك .
ليس الجاهل بذاك الانسان الذي لم يذهب للمدرسة وتعلم، بل الجاهل ذاك الانسان الذي لا يرى إلا ذاته ونفسه ويعيش حالة من الانفصام النفسي مع من حوله بغض النظر عمن يكونوا. لذا، نرى بعض الذين لم يذهبوا إلى المدارس يحملون ثقافة أعلى بكثير من الذين درسوا وأنهو المرحلة الجامعية أو حتى أنهم أهنوا الدراسات العليا. لطالما نرى من حولنا كثيراً من الجهلاء الذين يحملون شهادات دراسية متوسطة وعليا لكنهم لا يفقهون شيئاً من الحياة سوى اللهث وراء السلطة والماديات والشهرة والتسلق للمناصب ولم يسمعوا بعمرهم عن أمور مثل العطاء والمحبة والاحترام والثقافة والتواضع والاستماع، لأنهم يعتبرون هذه الأمور تحط من قدرهم ومقدارهم واعتبارهم.
لذلك علينا الحرص كثيراً حينما نرى الجاهل يتبوأ مركزاً أو سلطة لأنه سيكون وحشاً لن يسلم أحد من لسانه وغروره وتكبره، لأنه مستعد أن يخسر كل شيء إلا غروره الذي أعمى بصره وبصيرته. فلا يهمه بقاء أحد من حوله وحتى أنه مستعد لبيع أغلى ما عنده مرضاة لجشعه وتكبره الذي لا حدود له.
ولنا بالأنظمة المستبدة التي نعيش تحت كنفها أسوة في ذلك. ورغم التدخلات الدولية والإقليمية في شؤون بعض الدول والأوطان وفق أجنداتها الخاصة وأطماعها، إلا أنه يبقى الزعيم والرئيس الجاهل أخطر كثيراً من أية تدخلات خارجية تسعى للنيل من هذه الدولة أو تلك. لننظر إلى سوريا أين كانت وإلى أين وصلت جراء الجهل الذي أصاب من يدير دفتها والحاشية التي حوله. وكذلك العراق وليبيا واليمن والآن أفغانستان وما يُحاك فيها من ألاعيب أكبر من استطاعت الشعوب في أن تدركها أو تتجاوزها. ثلة من الأشخاص الذين استولوا على السلطة في غفلة من الزمن والمجتمع، تحولوا إلى جهلة في كيفية التعامل مع شعوبهم بعدما حولوهم إلى مجرد قطيع ينساق حول من يدفع له أو يقدم له كسرة خبز أو قليلاً من الكرامة ولو على حساب الابتعاد عن وطنه الذي كان يتغنى به يوماً ما.
بكل تأكيد ينبغي علينا عدم تصديق أو مصاحبة الجاهل مهما بدّل من ثيابه وخطاباته الجوفاء. لأن ذلك لن يغير من حقيقة الجاهل قيد أنملة ولن يعطيه صكوك الغفران عن الذنوب التي اقترفها ولا زال تحت حجة محاربة المؤامرات الكونية التي تُحاك ضده. لا الانتخابات ولا الحكومات التي سيتم تشكيلها سوف تغير من معادلة أنه جاهل شيئاً. لأنه سيبقى جاهلاً في معرفة كيفية تصريف أمور شعبه بعيداً عن النظر إلى ذاته على أنها راعٍ وللشعب على أنهم رعية ينبغي أن تسير خلف المرياع. لذا، نقولها وبأعلى صوتنا بأنه علينا ألا نصاحب الجاهل مهما بدّل من ثيابه. لأنه سيبقى ذاك الثعلب المكار والمراوغ للنيل من فريسته. وبكل تأكيد بعد كل ما عشناه وعايشناه لن نكون تلك الفريسة السهلة المنال، بل أننا تعلمنا من الفوضى التي ضربت أوطاننا مالم نتعلمه في أكبر الأكاديميات والجامعات التي لا تمنح سوى شهادات ثبوتية للجهلاء.