الثلاثاء 24 يونيو 2025
القاهرة °C

محمد جمعة آلا يكتب : من هو حزب العمال الكردستاني  من ثقافة المقاومة إلى ثقافة النجاح أو من حق تقرير المصير إلى حق تقرير الحياة

الحدث – وكالات

بعد دخول “أوجلان” السجن في شباط 1999، وبعد فترة سيقوم حزب العمال الكردستاني بتحضير تقرير حول أعمال الحزب، وهي من الأمور الروتينية التي يقوم بها الحزب بشكل دوري، ودائماً ما يتضمن التقرير مقترحات. كان من ضمن المقترحات المرسلة إلى “أوجلان” جعل أعضاء الحزب يحملون الهوية، وبعبارة دقيقة “خلق هوية لحزب العمال الكردستاني”. وبدوره سيطالع أوجلان على جميع البنود ليقف ملياً أمام مقترح صناعة هوية للحزب. ومن ثم سيعلن عن طريق الرد الكتابي رفضه البات لهذا المقترح وينتقد أصحاب هذا الاقتراح. لينتهي به القول في جملة واحدة تختزل معنى الحزب: “إن حزب العمال الكردستاني ليس بهوية إنه نمط عيش”. إن مبنى هذا البحث يدور حول هذا الموضوع أي الصراع ضد الهوية.

إن ميزة هذا الحزب “حزب العمال الكردستاني ” أنه يملك تقليداً غائراً في رفض الهوية، وهذا التقليد لم يأتي بسبب النزعة الماركسية المفكر به  حول هذا الحزب بل بسبب النزعة الوجودية، فمقاومة السجون هي بالأصل ضد الهوية المعطاة من قبل الدولة، هؤلاء أرادوا أن يحددوا وجودهم في العالم بطريقتهم، وليس كما حددته الجماعة الهووية فصيرورة الحزب إنما وقعت تحت بند إنشاء نمط معين من الانتماء الوجودي، إنهم بشكل أو بآخر يضعون التاريخ الأخلاقي للدول الهووية أمام مشكل أخلاقي، ومن ثم فإن فهم نضال السجون من زاوية ثورية فقط هو نقص في المعرفة، إننا لا ندرك حقيقة ما جرى إلا باعتباره نضالاً أنطولوجياً يستهدف هشاشة الهوية كما طرحتها أفق الحداثة. إن الصراع ليس بهذه البساطة المعلنة من قبل الدولة الهووية ونقصد هنا “تركيا”، أي بين حزب ثوري خارج عن القانون ودولة تحافظ على مؤسساتها، إن الصراع هو بين نمط من الوجود-من-أجل-ذاته تطرح مشروعاً زمنياً، وبين دولة تريد تأبيدهم داخل قبليات، أي تريد إرجاعهم إلى الهوية الخالصة بحيث يتطابقون مع أنفسهم المعدة سلفاً من قبل الدولة. ودعنا نبدأ بإحدى التفصيلات الصغيرة التي تميز هذا الحزب، فمثلاً إذا أراد شخص ما الانضمام إلى الحزب يجب عليه كما هو معلوم أن يؤمن بمبادئ الحزب ويعتقد به ……الخ، ولكن المثير في إحدى اشتراطاته، أن يتخلى المنضم عن “هويته الشخصية”، أي أن يصبح من دون “ماهية”، وبالمعنى الدقيق أن يقدّم نفسه من غير أي قبليات، ليكوّنوا لأنفسهم أفقاً مفتوحة “للوجود-في-العالم” إنهم ينسفون وبضربةٍ واحدةٍ كل التقليد الفلسفي الذي يدور حول الهوية، ويضعون التاريخ الأخلاقي للهويات المتصارعة داخل جغرافية الشرق الأوسط أمام حرج ميتافيزيقي. إن جمالية هذا الحزب إنما بدأ حتى في إعلان حله أن قام أحد أعمدته ” دوران كلكان – نيتشه الحزب  ” بهذه الصرخة وليقول لنا أن هذا الحزب قد تحول إلى ميراث معنوي لعموم الشرق الأوسط، وكأنه يقول لنا أن التاريخ السياسي قد بدأ ألان. تكلم الفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر” وقبله الفيلسوف الألماني “مارتن هايدغر” عن مسائل الهوية والوجود وصراعهم الفلسفي ضد النمط المُعد سلفاً من الماهية “الوجود الكامل” الذي يميز البهيمة في مقابل “الوجود الناقص” الذي يميز البشر. وتكلما عن القلق والمسؤولية، لكن لم يكونوا متأكدين أنه سيأتي يوم تتمثل جماعة ما هذا النمط من الحرية “الحرية في أن نكون”. وهذا هو تاريخ حزب العمال الكردستاني أنه يمنحنا القدرة في أن نكون.

ينقسم تاريخ حزب العمال الكردستاني إلى ثلاث مراحل:

الأولى: ويمكن تسميته مرحلة اثبات الهوية والتي قال فيها أوجلان أن حزب العمال الكردستاني إنما نهض لينقذ هذه الهوية من الضياع.

الثانية: النداء الأوجلاني من الدولة القومية العفنة إلى مشروع الأمة الديمقراطية والتي يعد بمثابة إنقاذ لشعوب التي أفلست عن طرح مشاريع بديلة عن القومية والاسلامية.

الثالث: وهو إعلان الحل، وإنتاج أنماط أخرى من المقاومة.

دائما ما كان أوجلان ينقذنا في اللحظة الحرجة مما نحن فيه، وذلك على الشكل التالي :

أدرك أوجلان في نص رسالته أن زمن المقاومة بالطريقة التقليدية قد ولى أي تلك المقاومات التي تنطوي على الجرثومة اليسارية وأنه آن الأوان لكي يخاض الكرد طرائق أخرى وهي المقاومة من خلال النجاح. أي بمعنى ما يفرق أوجلان بين الانتصار ذلك المعنى التقليدي اليساري والنجاح ذلك الذي يعدّه بمثابة طرح أنطولوجي فثقافتنا لم تتعلم بعدُ معنى النجاح إلا باعتباره انتصاراً في مواجهة الآخر، فالانتصار هو دائماً مصطلح هووي استُخدم لتعبئة الجماهير لمواجهة الآخر المختلف عنا. إن أوجلان يخبرنا أو يلزمنا أن عهد الانتصارات ولّى وأنه لزامٌ علينا أن نفتح أفقنا لمفهوم آخر من النضال نسميه نجاح، هذا النجاح الذي لا يرتبط بأي هاجس هوياتي فهو مشروع زمني يرى في الحاضر أكبر تحدٍ لها ينقلنا أوجلان من ثقافة الهوية والتاريخ إلى ثقافة الزمان والحاضر فهو يخطو خطوة جريئة نحو الهناك، أي يمثل نفسه ويدعو بشكل صريح إلى تنوير شرقي. كان الفيلسوف الألماني كانط وبشهادة فوكو أول الفلاسفة الذين طرحوا علينا سؤال الآنيّة أي سؤال الحاضر فكانط هو من نقل الغرب من طرح ٍ مجرد ينشد في أفق المتعالي إلى رؤية زمنية وذلك من خلال سؤال ما التنوير؟، هنا يحاكي أوجلان خطاب كانط بل نستطيع القول أن رسالة أوجلان هي في صميمها محاكة كانطية لشعوب الشرق الأوسط أي التنوير بثقافة شرقية، ما يميز أوجلان وكانط أن كلاهما يبدآن من نقطة مركزية وهي أن التنوير يتطلب الشجاعة والجرأة، وما يميز أوجلان أنه يتجاوز هذه المحاكاة ليطرح علينا ثقافة نجاح أي النجاح في أن نتجاوز أنفسنا، فالنصر دائماً ما كان يحمل معه بعده القومي الهوياتي، إن أوجلان يخلصنا من عبء أنفسنا وبكرّةٍ واحدة فإن أوجلان يحرر حزبه من تكراره، بأن ينقلنا من موجة نصر إلى موجة نجاح فالمقاومة هي جرعة هووية دائماً ما كانت تخزنها الدولة داخل معاجمها لتستنفر شعوبها تجاه الآخر، إن المقاومة ثقافة الشعوب الهووية والتي لم تعد تملك في مخزونها الأنطولوجي سوى وعد المقاومة ورغم وجاهة هذا الموقف المقاوم إلا إن أوجلان يرغمنا أن نتجاوز الضفة الأخرى، وإن كان هناك لعنة امتلكتها منظومة الدولة القومية فهي تعليم أبناءها ثقافة المقاومة تجاه الآخر يخبرنا الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني أن ثقافة الانتصار هي دائماً تعالي نرجسي يفرض نوعاً من الهوية تلك الهوية التي تفترض تصوراً ما لنفسها أي تريد أن تحتفظ بمرآة انتماء لا نريد تبديلها، كل الشعوب التي ما تزال تعوّل على فكرة المقاومة بالطريقة الكلاسيكية هي في صميمها شعوب هوياتية لا تزال في انتظار بحث مضني عن ذواتها ما يريده أوجلان هو أن يقذف بنا من هذا الضغط الهوياتي تحت مسمى المقاومة إلى حقل نجاح تحت مسمى الحرية. وهنا ينبهنا أوجلان في بداية كتاباته أن الكرد لم يتحولوا من صياغة الشعب إلى صياغة المجتمع أي لم يتحولوا من ثقافة المقاومة المحاربة والتي دائماً ما يتحول فيها الآخر إلى عدو إلى ثقافة النجاح التي يتحول فيها الآخر إلى مشارك. إن تاريخ النضال لأوجلان بدأ كما هو يقول من اللحظة التي أراد أن يحول الكرد من مجرد مندمجين إلى وجود أصيل من خلال المقاومة وأن النجاح الحقيقي الذي يبدأ به أوجلان الآن هو تحويل ذات المجتمع من ثقافة المقاومة لإثبات هويتهم إلى ثقافة النجاح لإثبات ذواتهم. يقول لنا ” جميل بايق ” أحد أهم مؤسسي هذا الحزب وقيادته أنه لو أعاد إنتاج نفسه لألتزم بالفكر الاوجلاني و بقيم هذا الحزب وكأنه يقول لنا أنه لو لم يخلق أوجلان لأضطر القرن العشرون على خلقه.

to top