الإثنين 25 نوفمبر 2024
القاهرة °C

“نبعُ السلام” يفيضُ ظَمأً وظَلاماً وظُلماً على السورييّن

بدرخان علي

أكثر من نصف مليون إنسان في مدينة الحسكة والبلدات التابعة لها وريفها، شمال شرق سوريا، بما فيها مخيمات بائسة تأوي عشرات آلاف المُهجّرين من منطقة راس العين وتل أبيض، بلا ماء شرب منذ ما يقارب الشهر. هذه هي المرة الثامنة، الأطول التي يُحرم فيها سكّان المنطقة من مياه صالح للشرب، منذ الغزو التركي لمدينَتَي راس العين (سري كانيه) وتل أبيض وما بينهما في تشرين الأول/أكتوبر 2019. حين تضرّرت محطة “علوك ” للمياه المغذية للمنطقة المذكورة جرّاء الهجوم العسكري التركي منذ الأيام الأولى للغزو. ثم تكرر قطع المياه من محطة “علوك ” بعد وقوعها تحت سيطرة الاحتلال التركي المباشر. والحال هذه، لسنا أمام لعنة أو كارثة طبيعية حلّت بهذه المنطقة وسكّانها أدّت إلى هذه الأزمة الإنسانية الخطيرة المتفاقمة منذ شهر بسبب الانقطاع الكامل لمياه الشرب من محطة” علوك” شرق راس العين، الواقعة تحت سيطرة الاحتلال التركي، والمغذّية لمدينة الحسكة وبلداتها.

مَنْ المسؤول عن أزمة المياه والكهرباء في الحسكة وراس العين (سري كانيه) وتل أبيض؟ من المتسبب بتعطيش أكثر من نصف مليون إنسان في مدينة الحسكة وأريافها، وحرمانهم من مياه نظيفة للشرب؟

لن نتحدث عن خارج سوريا وعن كيفية تعطيش العراق من قبل تركيا، ولن نتحدث كثيراً عن دور الاحتلال التركي وعصاباته من حَمَلَة الجنسية السورية في تدمير سوريا وبنيتها التحتية ومجتمعها، والأمثلة أكثر من أن تذكر وتُحصى، ونبقى في هذه المنطقة المنكوبة التي تسميها تركيا وعصاباتها السورية، ويا للمفارقة، بمنطقة” نبع السلام”:

– مَنْ قصف، أكثر من مرّة، محطةَ “علوك ” التي تغذّي تلك المنطقة المشارة أعلاه، بالمياه ، سوى تركيا و العصابات الارهابية المسلّحة ، التي تسميها تركيا وقطر وشبكة الاخوان المسلمين ب” الجيش الوطني السوري”؟! ومن سرق مولّدات الطاقة الكهربائية في المحطة لتغذيتها بالكهرباء في حال انقطاع الكهرباء عنها؟

– مَنْ خرّب محطة” المبروكة” الكهربائية التي تغذي تلك المناطق بالكهرباء، ومن سرق محتوياتها ، ومَنْ فكّك محولّات كهرباء تقدر بمئات آلاف الدولارات، من أجل الحصول على بضعة كيلوغرامات من “النحاس” بداخلها وبيعها ، وذلك قبل أن تطرد تلك العصابات من تلك المحطة؟

-مَن سرق كابلات الكهرباء من محطة ” علوك” و” المبروكة” ومن عواميد الكهرباء في تلك المنطقة بأسرها، سوى العصابات الارهابية المسلّحة، التي تسميها تركيا وقطر وشبكة الاخوان المسلمين بـ “الجيش الوطني السوري” في سلوك إجراميّ مستمرّ بحق البنية التحتية للبلد وأهل البلد وحياتهم، مارسته هذه العصابات في كل بقعة سورية سيطرت عليها بقوة الجيش التركيّ المحتلّ؟

– مَن رفض إصلاح محطة “علوك “للمياه من قبل خبراء سورييّن من موظّفي المحطة، بعد وساطة تركية روسية واتفاق على إصلاحها. ومن اعتقل هؤلاء الخبراء، بعد ذهابهم مع وفد روسي عسكري وباتفاق مع الاحتلال التركي، ثم أفرجوا عنهم بعد ضغوط روسيا على راعي تلك العصابات، أي الدولة التركية وفق التفاهمات بين تركيا وروسيا؟

– مَنْ يتحكّم بمياه نهر الفرات ويخفّض نسبة سوريا من هذا النهر الدولي (العابر لأكثر من دولة، وتركيا ترفض الإقرار الصريح بأن نهر الفرات نهرٌ دولي ، حتى وهي تعقد اتفاقيات مع سوريا والعراق بخصوص نسبتها من مياه نهر الفرات، وهي نسب غير عادلة على أي حال) ؟ ويضغط على السوريين والإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وقبلها على الدولة السورية، بورقة مياه الشرب وتعطيش السكان. التقارير متوفرة بكثيرة عن جفاف نهر الفرات بسبب الإجراءات التركية الأنانية المعادية لسوريا والسوريين، ما أدى إلى تدهور الزراعة وأحوال الفلاحين في حوض نهر الفرات، وكذلك انخفاض نسبة المياه في السدود المقامة على نهر الفرات في الأراضي السورية، كبحيرة سد تشرين، في الآونة الأخيرة خصوصاً، ذلك السدّ الذي يخدم توليد الكهرباء لمناطق شاسعة في سوريا.

– مَنْ نهب محتويات صوامع الحبوب (القمح والشعير) في تلك المنطقة بعد الاحتلال، وكانت تحتوي على كميات كبيرة مخزّنة من قبل الإدارة الذاتية، كاحتياطي كبير لاستعمالها كبذار لموسم الزراعة القادم واحتياجات الأفران ، من سرقها ونهبها وأخذها إلى تركيا؟

– تتهم أوساط إعلامية موالية للاحتلال التركي و الميليشيات الإرهابية، الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا و قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بالتسبب بأزمة المياه في الحسكة ،وتتجاهل كل هذه الوقائع والمعطيات الموثقة والتي حدثت فقط إثر الغزو التركي لتلك المنطقة وبسببه.

وبعد الاحتلال تم التوصل لاتفاق على أن يتم تزويد محطة علوك (الواقعة تحت سيطرة الاحتلال التركي وعصاباته) بالكهرباء من مناطق الإدارة الذاتية، بوساطة روسية، إلا أنّ الاحتلال التركي يصرّ على استخدام المياه كـ”سلاح” وأداة ضغط وابتزاز ضد المدنيين و الإدارة الذاتية، ولا يفي بالتزاماته، ويزيد شروطه التعجيزية، ويطالب بحصة كهرباء تزداد ارتفاعاً لكافة المنطقة التي تحتلّها تركيا ( منطقة نبع الإرهاب التي تسميها ” نبع السلام”) ، وهذه هي المرة الثامنة التي تقطع فيها تركيا المياه عن مدينة الحسكة وريفها ، كأداة حرب ضد المدنيين والإدارة الذاتية، منذ الغزو التركي للمنطقة في تشرين الأول/أكتوبر 2019.

أهالي راس العين/سري كانيه وتل أبيض يستحقون كهرباء وماء نظيفة مثلهم مثل أي منطقة أخرى. وقد عانوا الأمرّين في الشهور السابقة، بعد الاحتلال التركي لتلك المنطقة، لكن يجري تصوير الأمر – حتى من قبل نشطاء وإعلاميين- وكأنّ مناطق الإدارة الذاتية تعيش في نور دائم ليلاً نهاراً نتيجة وفرة الكهرباء، بينما مدينة راس العين وتل أبيض تعيش في ظلام دامس دائم، بسبب قطع الكهرباء عليها من مناطق الإدارة الذاتية كما تقول الرواية التركية وأعوانها! هذا مع العلم أن تركيا تستطيع توفير الكهرباء بكميات كافية للمناطق التي تحتلها وهي عملياً تحت إدارة تركية صرفة (جيش تركي واستخبارات تركية، وتحت تصرف والي تركي ونوابه إدارياً وبشكل معلن بالإضافة للوحدة الجغرافية) فلا شيء ولا أحد يمنع تركيا من توفير الخدمات الأساسية اللازمة لأبسط وسائل العيش من داخل الأراضي التركية إلى المناطق السورية المحتلّة على تخومها مباشرة نظراً لغياب أيّة حواجز أو موانع جغرافية أو سياسية أو عسكرية- أمنية تحول دون ذلك.

بإمكان أي شخص- إن لم يكن من سكّان هذه المنطقة- أن يسأل عن الحال البائسة للكهرباء ” العامة” في مدن قامشلي وعامودا ودرباسية والحسكة… فخلال هذا الصيف الحار جداً مرّت أيام كاملة دون كهرباء على أهالي تلك المناطق، والأهالي يعتمدون على المولّدات الخاصة التي تدفع أجرتها من مالها الخاص وفق الاستهلاك. أي أن ” الحال من بعضه” في معظم المناطق في شمال شرق سوريا (وفي كامل سوريا الجريحة) وخصوصاً بعد عملية نبع الإرهاب. أما محطة “علوك ” فتحصل على الكهرباء اللازمة لتشغيلها وضخّ المياه في كلّ الأحوال وفق التفاهمات التي جرت عبر الوساطة الروسية، رغم أن السبب الأول والأساسي في أزمة المياه والكهرباء في المنطقة (وجميع الكوارث الأخرى في شمال شرق سوريا) هو الاحتلال التركي وعصاباته من حَمَلَة الجنسية السورية.

صحيحٌ أن المنطقة الواقعة تحت الاحتلال التركي وعصاباته أسوأ من ناحية كل شيء (الأمان، الخدمات..) حتى من منظور المصلحة الخاصة بعوائل المسلحين الذين استوطنهم الاحتلال التركي في منازل سكان المنطقة الأصليين المُهجّرين قسراً ، وهذا يتحمل مسؤوليته كاملة من يحكم تلك المنطقة المبتلية بشتى صنوف الميليشيات الإرهابية من إخوان مسلمين وقاعدة ودواعش(بمسميات جديدة) و العصابات المستولية هناك بقوّة الاحتلال التركي مشغولة بالنزاع والتقاتل اليومي على غنائم السكان الأصليين وعلى واردات الحواجز والمعابر ، ولا أحد يفكر بمصلحة السكان وعيشهم أو يعمل من أجلهم ، ولا يكاد يمرّ يوم دون اقتتال بين تلك العصابات ويذهب ضحيتها مدنيّون أبرياء أحياناً، بينما الاحتلال التركي منهمك بافتتاح معاهد تحفيظ قرآن ( في منازل السكان الأصليين المُهجّرين قسراً) وبناء شبكة من العملاء المرتزقة من المسلحين وغيرهم و”أخْوَنَة” السوريين وتتريكهم ، لفرط محبته للسوريين ، التي فاضت لحدّ إرسال أكثر من 15 ألف مقاتل سوريّ إلى ليبيا، ليموتوا هناك أو يعودوا معاقين من أجل مصالح تركيا وأطماعها.

حين سُئِلَ الرئيس التركي والقائد العام للتمرّد الطائفي المسلّح المشؤوم في سوريا، أردوغان، في مقابلة تلفزيونية عن سبب إطلاق تسمية “نبع السلام” على الغزو التركي لمنطقة راس العين- تل أبيض، ردّ التسمية إلى شهرة المنطقة بينابيع المياه.

لن يقول أردوغان وأتباعه أننا حوّلنا هذه المنطقة المحرّرة من إرهاب داعش حديثاً وبتضحيات بشرية باهظة وكانت تسير نحو تضميد الجراح تدريجياً وإعادة بناء البنية التحتية، إلى نبعٍ للإرهاب وفصائل الجريمة المنظمة: أشرار الشرقية (اسمها الحركي” أحرار الشرقية”) وسليمان شاه والسلطان مراد وفرقة الحمزة وجيش الإسلام وأحرار الشام، وداعش بتسميات جديدة.

وكما أدّت عملية احتلال عفرين تحت مسمّى” غصن الزيتون” إلى إبادة أشجار الزيتون وتهجير أصحابها، فعلى المنوال ذاته، أفضت عملية احتلال راس العين- تل أبيض تحت مسمّى” نبع السلام” إلى طمر ينابيع المياه وحرمان سكان المنطقة من مياه الشرب والكهرباء حتى الذين فرّوا من حمم الطائرات والدبابات التركية والفوسفور الأبيض الحارق للنجاة بأرواحهم إلى مخيمات النزوح والتهجير القسري في الحسكة وريفها!

“نبعُ السلام ” الأردوغاني المزعوم: نبعٌ للإرهاب، نبعٌ للظلام ، ” نبعٌ” لمنع الماء ، ” نبعٌ” للظمأ!

to top