الحدث – القاهرة
بعد مرور خمسةٍ وعشرين عامًا على اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، ما زال الرجل يقبع في زنزانته الانفرادية في جزيرة إمرالي التركية، رغم مرور الزمن، وتبدّل الحكومات، وتغيّر موازين القوى في المنطقة. وفي يوليو 2025، فاجأ أوجلان العالم برسالة مصوّرة أعلن فيها “نهاية الكفاح المسلح” ودعا حزبه إلى حلّ نفسه وإلقاء السلاح، في مبادرة غير مسبوقة تهدف إلى فتح صفحة جديدة تقوم على النضال السياسي السلمي ضمن القانون التركي.
لكن رغم هذه الدعوة التاريخية، قابلت السلطات التركية المبادرة بصمتٍ وتعنتٍ واضحين، مما أعاد طرح سؤالٍ قديم جديد: لماذا تصرّ أنقرة على إبقاء أوجلان خلف القضبان، رغم تحوّله إلى رمزٍ للسلام أكثر من كونه قائدًا عسكريًا؟
أوجلان: من “العدو الأول” إلى رمزٍ للمصالحة
منذ اعتقاله في كينيا عام 1999 وتسليمه إلى تركيا، وُصف أوجلان بأنه “إرهابي” و“مجرم حرب”. غير أن السنوات الطويلة التي قضاها في السجن، ومراجعته الفكرية العميقة، جعلت منه مفكرًا سياسيًا أكثر من كونه زعيمًا عسكريًا.
في كتاباته من السجن، دعا أوجلان إلى حلّ ديمقراطي للقضية الكردية عبر منح الأكراد حقوقهم الثقافية والسياسية ضمن دولة تركية موحدة، مستلهمة من مفاهيم “الأمة الديمقراطية” و“الإدارة الذاتية المحلية”.
تجاهل المبادرات السلمية: سياسة قائمة على الإقصاء
بدلًا من التعامل الإيجابي مع مبادرة أوجلان الأخيرة، استمرت الحكومة التركية في سياسة العزل والتجاهل.
لم يُسمح لمحامي أوجلان بزيارته بشكلٍ منتظم منذ سنوات، كما تُمنع أي تواصلات إنسانية أو إعلامية معه. وتبرّر السلطات هذا العزل بذريعة “الأمن القومي”، رغم أن رسالته في يوليو 2025 كانت دعوة صريحة للسلام ونبذ العنف.
هذا التعنّت التركي يعكس خوفًا عميقًا من أي تحول سياسي كردي قد يعيد طرح مسألة الهوية والحقوق القومية داخل تركيا، وهي قضية طالما سعت أنقرة إلى طمسها تحت شعار “الوحدة الوطنية”.
الأكراد في تركيا: هويةٌ مضطهدة وحقوقٌ مسلوبة
يشكّل الأكراد ما بين 15% إلى 20% من سكان تركيا، لكنهم ما زالوا يعانون من تهميشٍ منهجيّ في مجالات اللغة، التعليم، والتمثيل السياسي.
هذه السياسات ليست سوى امتدادٍ لنهج الدولة التركية منذ تأسيسها، حيث ارتبطت الهوية الوطنية حصريًا بالقومية التركية، في تجاهلٍ تام للتنوع العرقي والثقافي.
بين التعنت والفرصة الضائعة
إن رفض تركيا الإفراج عن أوجلان، أو حتى السماح له بلعب دورٍ في عملية سلام محتملة، يعني استمرار النزيف الداخلي وتأجيل المصالحة التاريخية مع الشعب الكردي.
لقد قدّم أوجلان، رغم معاناته الطويلة، خريطة طريق نحو سلامٍ عادل، تُبنى على أساس الديمقراطية والمواطنة المتساوية، لا على القوة والقمع.
لكن تجاهل هذه الرسالة يُظهر أن الدولة التركية تخشى من الاعتراف بوجود قضية كردية سياسية وإنسانية حقيقية، وتفضل الإبقاء على الوضع القائم الذي يكرّس الانقسام والاحتقان.
ختاما يبقي عبدالله أوجلان اليوم رمزًا للمقاومة الفكرية والسعي نحو السلامٍ من داخل السجن.
ورغم مرور ربع قرن على اعتقاله، لم تفلح تركيا في إسكات صوته أو طمس قضيته.
إن تعنّت أنقرة في الإفراج عنه لا يعكس فقط انتقامًا سياسيًا من رجلٍ واحد، بل يعكس سياسة دولة بأكملها تجاه ملايين الأكراد الذين ما زالوا يطالبون بحقوقهم المشروعة في المواطنة والكرامة.
وإذا كانت تركيا تطمح إلى أن تكون ديمقراطية حديثة بحق، فإن أول اختبار حقيقي لذلك هو الاعتراف بحقوق الأكراد والإفراج عن أوجلان كخطوة نحو مصالحة وطنية طال انتظارها