الحدث – القاهرة
بداية القضية الكردية والإنسانية:
إن مسببات بروز القضية الكردية الراهنة ضمن الهلال الخصيب، الذي تشارك الشعب الكردي والعديد من المجتمعات والشعوب العيش فيه، يرجع إلى ظهور الهرمية والمدينة والطبقة والدولة المتنامية ضمن أحشاء المجتمع.
فقد أنجزت المدنية السومرية في ميزوبوتاميا السفلى (ما بين أعوام 3000–2000 ق.م) بأحد معانيها كحلّ للقضايا الاجتماعية التي تمخض عنها المجتمع النيوليتيّ (Neolithic) البارز في ميزوبوتاميا العليا وبالمركز منها كردستان(موطن الكرد التاريخي) منذ حوالي 10 ألف سنة قبل الميلاد والتنقيبات الاثرية في منطقة كوبكلي تبة(خرابي رشكي) القريبة من مدينة رها(أورفا) وغيرها على الحدود التركية السورية الحالية تؤكد ذلك .
أما تلك القضايا، فكانت تأتي من :
1- التزايد السكانيّ.
2- ضيق مساحة الأراضي .
3- ازدياد النزاعات.
4-الاحتياجات الجديدة البارزة للمشهد.
5- التراكم والتكاثف والتطور التدريجي للحياة والإنسان ومداركه.
لقد قام الكهنة السومريون في ميزوبوتاميا السفلى بالبحث عن أجوبة تاريخية لتلك القضايا، من خلال إيجادهم الطبقة والدولة المتمحورة حول المعبد؛ وكانت الزقورات السومرية بمثابة الأرحام البدائية الولادة للدولة، وذلك اعتماداً على حكمائهم النابغين، وبالاستفادة من جميع العناصر المادية والمعنوية للثقافة النيوليتية التي اقتاتوا منها والتي أنجزها شعوب ميزوبوتاميا العليا وعلى رأسهم أسلاف الشعب الكردي والمجتمعات التي عاشت مع الكرد. وقد تبدّى للعيان بدايةً أن الكهنة لم يكونوا على خطأ. فكأنّ العصر الجديد المستند إلى ثالوث المدينة والطبقة والدولة، كان بمثابة حلّ خارق للقضايا العالقة آنذاك.
وميثولوجيا ذاك العصر لم تكن تعبّر عبثاً عن نظام إلهيّ جديد ربما كان بدايةً جديدةً لجميع الأحداث اللاحقة في التاريخ البشريّ. فقد تحوّلت معجزة الثورة النيوليتية (neolithic revolution)إلى معجزة المدنية وفق تحور ولوازم المكان والزمان والهدف الجديد.
والنظام المبني حينذاك ربما كان الأطول زمناً و المتين بنياناً طيلة التاريخ. لكنه، ومع نضوج وتجذّر التناقضات التي بداخله، لم يتخلف هذه المرة عن أداء دور المولّدة الأولى لقضايا اجتماعية جديدة وأزمات ستتراكم مع السنوات والقرون.
هذا وتنصّ أولى الوثائق المدوّنة أيضاً على أنّ القضايا الاجتماعية برزت بأنقى أشكالها في التاريخ ضمن المجتمع السومريّ. فما حالات سوء التفاهم المتجلية بين الآلهة أنفسهم من جهة، وبين الآلهة والعبيد من جهة أخرى في حقيقة الأمر سوى انعكاسٌ للقضايا الاجتماعية وللتناقضات بين أصحاب السلطة من جانب، وللصراع بين أصحاب السلطة والناس الذين يستخدمونهم عبيداً من الجانب الثاني.
من هنا، يمثل المجتمع السومريّ، الذي ترك بصماته على الكثير من البدايات في التاريخ، بدايةً لا نظير لها من حيث القضايا التي أسفر عنها أيضاً.
بالإمكان إرجاع أولى القضايا الاجتماعية الجادة التي عانت منها أسلاف الكرد أو المجموعات الكردية الأصيلة إلى المدنية السومرية. وبالأصل، فقد حبكت ملحمة كلكامش تأسيساً على هذه القضايا. فقد كانت ثقافة آل عبيد الهرمية (بين أعوام 4500–3500 ق.م) وثقافة أوروك المدينية (بين أعوام 3500–3000 ق.م) مرغمتين على توسيع ذاتيهما باستمرار باتجاه الشرق والشمال. وباعتبارهما أول كيانين ثقافيّين متمحورين حول المدينة والطبقة والدولة، فقد كانتا مضطرتين إلى التغذي من المجتمع النيوليتيّ الموجود على كلا الاتجاهين كي تتمكن من الحياة. وقد جلبت هذه الضرورة الاشتباك والنزاع معها وبالتالي الصدمات والحروب أحياناً.
ملحمة كلكامش:
أما العلاقة بين ثنائيّ كلكامش وأنكيدو في الملحمة التاريخية، فتعكس وتشير إلى الإشكالية الكامنة في أول علاقة نموذجية للاستعمار الإمبرياليّ في التاريخ. فالمجموعات الكردية العريقة تفيد بالمقاومة متمثلةً في شخص هومبابا ضد العلاقة الاستعمارية الإمبريالية. ويتستر في أساس القضية موضوع الحفاظ على الحياة الحرة الناضجة بالمساواة ضمن المجتمع النيوليتيّ في وجه الحياة المدينية والطبقية والدولتية. إذ يأتى بأنكيدو أسيراً إلى مدينة أوروك، ويروّض، ويستخدم ضمن مجتمع المدينة كمتواطئ عميل ضد المجموعات التي ينحدر منها من جبال كردستان أي ميزوبوتاميا العليا.
الهوريين والكوتيين:
قاومت وثابرت القبائل الهورية(أحد أسلاف الكرد) ضد صعود حضارة المدينة. وتدلّ هذه المقاومات المرتكزة إلى سلسلة جبال زاغروس على مدى استفحال ودوام القضايا الاجتماعية. أما الكوتيون(أحد اسلاف الكرد)، فيعبّرون عن البنية الكونفدرالية لأولى القبائل التي تنحدر أصولها من جبال زاغروس، والتي سجّلت اسمها على صفحات التاريخ بانتصارها على الحكّام السومريين.
الإنصهار:
كما ونرصد عن كثب في تلك الحقبة أول مثال لحالات انصهار الغالبين في بوتقة ثقافة المغلوبين المسيطرة، والتي ستنتصب أمامنا لاحقاً على مدار تاريخ المدنية. في حين قام المهيمنون الذين أظهرهم فنّ القتال بتعزيز النظام الحاكم دون انقطاع. فبينما دارت المساعي لحلّ القضايا، فقد أدت إلى استشرائها وتعاظمها ضمن مفارقة واضحة. ذلك أنّ السلطة تمهد السبيل إلى مزيد من السلطة، وأنّ الدولة تفسح المجال أمام مزيد من الدولة، لتتضخم القضايا بدورها وتتضاعف.
الهيمنة البابلية والأشورية:
شهدت الهيمنتان البابلية والآشورية، اللتان ورثتا تقاليد السلطة من السومريين فيما بين أعوام 1950 ق.م و600 ق.م، وضعاً مشابهاً لدى توسيعها النظام أفقياً وعامودياً. فنظراً لتفاقم القضايا الناجمة من المدينة والطبقة والدولة والسلطة اتساعاً وعمقاً، فإنّ البحث عن الحلّ أيضاً قد جرى ضمن نفس الدوامة العقيمة وبمنوال أوسع وأعمق.
الاستعمار الخارجي والنفوذ الطبقي:
لكن، وبينما أفضى الاتساع إلى الإمبريالية والاستعمار، فقد أفسح التعمق أمام مزيد من التحول الطبقيّ والاستغلال. ومن ثمّ كانت آلية ذلك النظام، الذي تعاظم مكرّراً ذاته حتى يومنا الراهن، ستظلّ كما هي: تطوير البنية الإمبريالية الاستعمارية خارجياً، وتأسيس النفوذ الطبقيّ داخلياً. هكذا، فقد بات الغالب والمغلوب على السواء ضحية النظام عينه.
المقاومة الكردية:
ومقابل ذلك، كانت دوامة أسلاف الكرد في المقاومة ضد المدنية استناداً إلى سلسلة جبال طوروس–زاغروس ستطوّر آليتها الحرة، التي ستتعاظم وتتكرر إلى يومنا بنحو متواصل. وكان سيتنامى وعي العشائر والقبائل على خلفية آلية المقاومة لأجل الحرية، وسيتّسع نطاق تنظيمهم، وبالتالي سيسعى المزيد من العشائر والقبائل للبقاء أحراراً. أي أنّ دياليكتيك النشوء ينشط في كلتا الآليتين، ويعظّم كلا النشاطين الجدليّين من نفسيهما على الدوام.
الجواب الزرادشتيّ الكردي:
إنّ ردّ أسلاف الكرد على قضايا المدنية المحتدمة مع الهيمنتين البابلية والآشورية النابعتين من التوسع الثقافيّ السومريّ، قد عكس ذاته في تقاليد مازدا–ميترا والشريعة الزرادشتية. الأساس في جوهر هذه التقاليد ليس تبنّي الثقافة السومرية كما هي. بل إطراء التحويل عليها وسرد خلاقيتها الخاصة بها. إنّ التحول هنا تاريخيّ. فهذه التقاليد هي التي مكّنت لظهور التقاليد الإغريقية–الرومانية الثقافية. ورغم أنها لم تتمكن من تقويض دوغمائية المجتمع العبوديّ ضمن سياق التاريخ البشريّ، إلا إنها تتسم بتفوقها الذي يؤهّلها لتطويعها وكسر شوكتها، ولتقديم بدائل جديدة بين الحين والآخر. حيث قفزت بالإنسان والأخلاق، وبالتالي بالإرادة إلى مستوى أرفع، وعقدت عرى حرية الإنسان مع الأخلاق والإرادة. هكذا، فالبشرية التي كانت سابقاً مجرد حشد من العبيد البسطاء وبمثابة العدم في عين الآلهة والآلهة–الملوك، قد اكتسبت مزايا مفعمةً بالحرية المنتفضة للتعبير عن إرادتها ولإعادة هيكلة أخلاقها. من هنا، فالثقافة البارزة على حوافّ جبال زاغروس، والجواب الزرادشتيّ بصورة خاصة يتّصفان بأهمية مصيرية من جهة إدراك القضايا الأساسية في ذاك العصر ورسم ملامح طريق الحرية والإرادة الحرة والمساواة.
جواب الديانات الإبراهيمية:
يمكن تحليل الجواب الإسلاميّ المعطى رداً على القضايا الناجمة من المدنية عن كثب أكثر. حيث يمكن تفسير الإسلام بأنه أساساً جوابٌ ثوريٌّ للقضايا الاجتماعية، التي تكاثفت طردياً مع تفاقم تأثير المدنيات البيزنطية والساسانية والحبشية (التي تمثل بؤراً ثلاثاً لقوى الهيمنة في ذاك العصر)، ومع إحاطتها بالحياة القبليّة في شبه الجزيرة العربية من الجهات الأربع. فدعك من كون تلك المدنيات (التي تعدّ آخر ممثلي ثقافة العصور القديمة) جواباً للقضايا المستشرية للغاية على مدار العصور الأولى، بل إنّ دورها لم يكن يتعدّى مضاعفة نشر وتجذير القضايا في مساحات أوسع وعلى شعوب أكثر.
من هنا، بالوسع النظر إلى تقاليد الجواب الدينيّ الإبراهيميّ على أنه أساساً طراز حلّ خاصّ بذاته للقضايا الناجمة من ثقافة الإله–الملك في العصور الأولى. هذا وبالمستطاع تفسير الفترة الممتدة من سيدنا إبراهيم إلى موسى بأنها مرحلة البحوث والردود النّبويّة للقضايا المتمخضة من المجتمع المحصور بين فكّي فراعنة مصر (الملوك الذين يزعمون أنّهم آلهة) ونماردة بابل وآشور ذوي الأصول السومرية (الآلهة–الملوك في ذاك العصر). مع ملاحظة أن نمرود أحكم وحاول حرق إبراهيم بينما الفرعون ترك موسى يمضي في سبيله.
وبالرغم من كلّ خصوصيات الجواب الموسويّ، إلا إنه لم يذهب أبعد من التحول إلى مملكة إسرائيلية صغيرة رداً على قضايا القبيلة العبرية. فهذه المملكة التي تعكس ذاتها عبر رمزي داوود وسليمان خصيصاً، ما هي إلا جميعةٌ فظةٌ من الثقافتين البابلية والمصرية، وتعبيرٌ عن حكاية مملكة الشريحة العليا.
تعدّ الشريعة العيسوية بالنسبة إلى الفقراء المقهورين والعبيد وشرائح العاطلين عن العمل والمتسكعين، تعدّ جواباً على قضايا التقاليد القديمة السائدة في المجتمع العبوديّ، والتي استشرت وتثاقلت بأبعاد عملاقة في عصر الإمبراطورية الرومانية. حيث تميّز تنافر وخلاف المسيحية مع الموسوية بالطابع الطبقيّ في بداياته. فقد عكس التصدّع، الذي فتحته روما داخل القبائل العبرية وضمن ثقافات القبائل المجاورة الأخرى، نفسه على شاكلة انقطاع دينيّ جديد. ونشوء التقاليد العيسوية في المجال الذي تجذرت فيه تقاليد التمرد وتكاثفت فيه القضايا الاجتماعية للعصور الأولى بالأكثر، إنما كان بمثابة القفز على العصر في تاريخ البشرية، ولو ليس بالقدر الذي كانت عليه التقاليد الزرادشتية. ذلك أنّ المسيحية قدّمت ذاتها جواباً للقضايا المعاشة في جميع الثقافات القبليّة.
وهكذا، تكوّنت مجتمعات الجماعات الدينية التي تتعدى لأول مرة نطاق المجتمعات القبليّة بمنوال شامل وبدرجة يستحيل محوها. إذ يعتبر الناس من جميع القبائل والأثنيات أعضاءً مبجّلين في الدين الجديد. وهذه مرحلةٌ مهمةٌ على صعيد المجتمعية. فما يجري هنا هو قيام المجموعات الشعبية بعكس ذاتها على مسرح التاريخ بنحو أكثر رسوخاً وعلانية. وقد عرض الأرمن والسريان والإغريق واللاتينيون أنفسهم على المسرح من خلال المسيحية أكثر من غيرها.
إنّ الدين المحمديّ جوابٌ تاريخيٌّ للقبائل العربية المحصورة دوماً من الجهات الأربع من قبل ممثلي استبدادية العصور القديمة العاجزة عن حلّ قضايا نفس التقاليد، والمفرّغة من مضمونها منذ أمد بعيد. وما يعكس هذه الحقيقة هو إعلان سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أنّ عمر الموسوية والمسيحية، اللتين اعتبرهما على حقّ، قد انتهى؛ وكذلك مناشدته بالتمرد على أباطرة الحبشة والساسانيين والبيزنطة.
فلا اليهودية ولا المسيحية تمكنتا من صياغة جواب لقضايا المجموعات العربية القبليّة، والتي بلغت ذروتها داخلياً وطفحت خارجياً. حيث كانت اليهودية والمسيحية في تلك الفترة قد أضاعتا مضمونهما الثوريّ منذ زمن طويل، لتتحولا إلى قوموية قبليّة وقومية متزمتة. فالمشاكل والنزاعات التي شهدتها الممالك الحبشية والبيزنطية والساسانية بين صفوفها وفيما بينها بوصفها آخر ممثل لاستبدادية الإله–الملك التقليدية، قد أخارت قواها وجعلتها لا لزوم لها.
بناءً عليه، من المفهوم قيام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بصياغة شريعة دينية جديدة لتلبية مطلب الاستيلاء على ديار الجنة والطمع في الفتح والغزو، والذي تطلعت إليه الشرائح العليا من قبائل الصحراء المفعمة بنسيم الحرية.
تتسم الشريعة الإسلامية بخاصية إنشاء ذاتها بعد أخذها:
1- حقيقة القبيلة العربية.
2- حقيقة المدنية أثناء ظهورها بعين الاعتبار.
إذ أبدت مهارتها أيديولوجياً وسياسياً في جمع الخيارين الثقافيّين، أي خيار ثقافة القبيلة المقهورة وخيار ثقافة المدينة والطبقة والدولة لدى الشرائح الفوقية، في تركيبة جديدة واحدة.
وأما مدينة مكة الكائنة على طرق الانتقال والعبور آنذاك، التي كانت تتسم بملاءمتها وتفوقها كونها مكاناً تواجهت فيه الثقافتان واندمجتا ضمنه أكثر من غيره. وتتأتى الأهمية التاريخية لسيدنا محمد من صياغته لهذه الجميعة أو التركيبة بنجاح موفق ومن طبعها بمهره.
إنّ أهمّ نتيجة تمخضت عنها الثورة الإسلامية على الصعيد الاجتماعيّ، هي تأمينها الانتقال من المجتمع القبليّ المتصلب صوب مجتمع أمة مغاير. فالانتقال من المجتمع ذي التقاليد القبليّة المعمّرة آلاف السنين في منطقة معزولة كشبه الجزيرة العربية صوب مجتمع الأمة، هو ثورةٌ مجتمعيةٌ كبرى يحسب لسيدنا محمد وللدين الإسلامي. والطبقة الاجتماعية الجديدة كانت تحتضن ميولاً ثنائيةً بين ثناياها منذ البداية وظلتا على صراع دائم:
1- ميول الشريحة العليا الموروثة من الأرستقراطية القبليّة في التحول إلى طبقة دولتية.
2- ميول الشريحة المقهورة وطموحها في المساواة والديمقراطية والحرية.
لقد كانت ملامح القضية الاجتماعية ترسم مجدّداً وعلى نطاق أعمّ. وهذه الإشكاليات والصّدامات الجديدة المبتدئة منذ كان سيدنا محمدٌ على قيد الحياة، كانت ستستمرّ بتداعياتها إلى يومنا الراهن ولو بأشكال والوان ومسميات مختلفة.
المجتمع الكردي في العصور الوسطى:
كشفت هذه الثورة المجتمعية العظمى في العصور الوسطى عن تأثيراتها فوراً داخل المجموعات الكردية الأصيلة أيضاً. فميول الغزو لدى الأرستقراطية العربية من جهة، وتطلع الشريحة الكردية الفوقية إلى الدولة والسلطة من جهة أخرى، قد طوّر مجتمع الأمة بين الكرد أيضاً ضمن فترة طويلة كانت مشحونةً بالتجاذبات والتناقضات.
لقد كان مجتمع الأمة الجديد إشكالياً على غرار الحالة العامة. فعكست ميول المدينة والطبقة والدولة وميول المساواة والديمقراطية نفسها في هيئة مذاهب وطرائق متباينة. وكلما طبع ممثلو هيمنة السلطة الإسلاموية مجتمع الأمة بطابعهم، كلما لجأت من الأسفل الطرائق الصوفية والكرد العلويون واليارسانيون والزرادشتيون المتشبثون بتقاليدهم القديمة كذريعة للوجود والبقاء، إلى الإصرار على تطوير جماعاتها المقاومة الخاصة بها.
وإلى جانب تشكّل ظاهرة بالإمكان تسميتها بالمجتمع الكرديّ، فقد ثابرت على مواصلة وجودها على شكل طبقات ومستويّات منقسمة ومغتربة عن بعضها البعض إلى أبعد حدّ. وغالباً ما كانت القضايا الاجتماعية تعكس ذاتها في هيئة طرائق مختلفة. وكانت الصراعات القائمة بين المدينة والريف تتصاعد بالتداخل مع الانقسامات الطبقية.
وهكذا بات كلّ شيء في العصور الوسطى أكثر انقساماً وإشكاليةً مما كان عليه في العصور الأولى. وبالإضافة إلى مشاكل الاستقرار–الترحال التي كانت تعاني منها القبائل والعشائر، زادت عليها القضايا النابعة من الانقسام الطبقيّ في المدينة، والتي ترتكز إلى صراع المدينة والقرية. فبينما كانت الشرائح العليا في القبائل تتمركز على شكل دولة، كانت أجزاء القبائل المقهورة المزدادة صغراً تتحول إلى قبائل بائسة جديدة. وأضحت ثقافة الحياة المستندة إلى القرية تضمحلّ وتنحسر في وجه ثقافة الحياة المستندة إلى المدينة. وكانت الشروخ والصراعات الاجتماعية تتفاقم ضمن مجتمع المدينة.
وفي المحصلة كان يبحث عن حلّ لكلّ هذه النزاعات ضمن جهاز الدولة المترسخ أكثر. أما الدولة، فكانت تعني بدورها مزيداً من السلالات المتطفلة والقضايا المتكاثرة. بالتالي، فقد
حكم على مجتمع العصور الوسطى بالدوران في دوامة هكذا قضايا اجتماعية.
لم يكن المجتمع الكرديّ في العصور الوسطى قد شكّل بعد نخبته السلطوية الراسخة، على خلاف النخب السلطوية العربية والفارسية والتركية. إذ لم يكن قادراً على إيجاد الحلّ لقضاياه الأساسية من خلال مملكة مركزية متحدة، ولا قادراً على العيش ضمن المجتمع القبليّ التقليديّ الجامد والمنغلق. لذا، غالباً ما كان يسعى إلى إيجاد حلّ للقضايا المتولدة من هذا التناقض عبر مجتمعات الجماعات المذهبية والطرائقية. فبينما كانت الزرادشتية تتشتت وتضعف رويداً رويداً، كانت العلوية تحافظ على وجودها في المناطق الجبلية العسيرة على الفتح دون غيرها من المناطق. أما الإسلاموية السلطوية المسيطرة على شعب المدينة والسهل، فكانت استغلاليةً إلى أبعد حدّ. فممثلو السلاطين والإمارات المحلية كانوا قد أغرقوا المجتمع في قضايا يصعب النفاذ منها. والحال هذه، فما كان قائماً لم يكن حلاً للقضايا بقدر ما كان هروباً منها.
بالتالي، فنزعة الأمة والطريقة الدينية التي عمل بها على أنها الحلّ، سرعان ما كانت تتحول إلى وسيلة للاغتراب عن النفس والهروب من الحقيقة الذاتية. بإمكاننا القول أنّ دياليكتيك العصور الوسطى كان يعكس نفسه بفاعلية وبمنوال كهذا بالخطّ العريض.
دور حداثة نظام الهيمنة العالمي الرأسمالية في تعميق القضايا الأساسية للمجتمع الكردي:
لقد تجذّرت القضايا الأساسية للمجتمع الكرديّ وتعاظمت تأسيساً على الحداثة الرأسمالية. فالحداثة بحدّ ذاتها كنظام، تعمل على حبس المجتمع في قفص، بكلّ ميادينه ومن جميع الجهات. والحبس في القفص يعني تصيير المجتمع برمته إشكالياً. إذ لا بد من تأسيس نظام قمعيّ واستغلاليّ شامل، ومن بسطه على المجتمع، بغية التمكن من تفعيل قانون الربح الأعظم. إلا إنّ نظام القمع والاستغلال ذاك يختلف عمقاً واتساعاً عما كان عليه في العصور الأولى والوسطى. فالفرق بين فائض القيمة اللازم لتغذية سلالة ملكيّة في العصور القديمة وبين فائض القيمة اللازم لآلاف الاحتكارات الصناعية في العصر الرأسماليّ، ليس فارقاً بسيطاً، بل هوّةٌ شاسعة.
وكافة التدابير الاحتياطية المتّخذة أيديولوجياً وسياسياً واقتصادياً طيلة التاريخ بهدف عدم تحول الرأسمالية إلى نظام مسيطر، كانت بدافع الخوف من عدم القدرة على التحكم بهكذا نمط من الاستغلال. إذ لم يكن المجتمع في تلك الحقبة قادراً على تحمّل الرأسمالية كنظام سائد، ولا على الصمود في وجهها. والمؤثر الأوليّ في ذلك يعود إلى افتقار طراز الاستغلال الرأسماليّ إلى رديف يخوّله للاستمرار بنفسه ضمن الطبيعة الاجتماعية والبيئة.
الدولة القومية كسلاح فتاك وأداة موفقة:
أما السلاح الفتاك الذي تستحوذ عليه الرأسمالية لتحقيق ذاتها كنظام حاكم، فهو تحويلها سلطة الدولة إلى سلطة دولة قومية. والدولة القومية بذات نفسها غير ممكنة، إلا بتغلغل السلطة حتى أدقّ الأوعية الشّعرية للمجتمع. فمجتمعٌ تسللت فيه السلطة حتى أدقّ أوعيته الشعرية، لا يقتصر أمره على الاختناق بالقضايا الإشكالية حتى النخاع، بل ويغدو محكوماً عليه بالتمزق إرباً إرباً ثم التناثر. أي إنّ المجتمع في كنف الدولة القومية محبوسٌ كلياً داخل القفص. وهكذا، فحدود الوطن، الجيش الوطنيّ، البيروقراطية المدنية المركزية، الإدارة المركزيّة المحلية، السوق الوطنية، السيطرة الاقتصادية الاحتكارية، العملة الوطنية، جواز السفر، هوية المواطنة، أماكن العبادة القومية، المدرسة الابتدائية، اللغة الواحدة، ورموز العلم؛ كلّ ذلك يولّد بنحو كليّ متحد نتيجةً أوليةً من قبيل تفعيل قاعدة الربح الأعظم للرأسمالية وتسليطها على المجتمع. أي التجانس والنمطية القسرية ظروف مساعدة وممهدة للربح الأعظمي .
هذا السياق الذي يعرّفه سوسيولوجيّو الحداثة بأنه تجاوزٌ للمجتمع التقليديّ ونشوءٌ للمجتمع الحديث النمطيّ، ويطرحونه على أنه مؤشرٌ للتقدم والرقيّ؛ إنما يدلّ في مضمونه على المجتمع المحبوس حتى الأعماق داخل قفص حديديّ مقفل. والمجتمع المحبوس في القفص لن يطلق سراحه، إلا عندما يروّض تماماً وفق قواعد الرأسمالية ومنافعها. وإطلاق السراح هذا الذي يسمّى “الليبرالية”، لا يعبّر في فحواه سوى عن العبودية المعاصرة والحرية الفردية المزيفة والمنقطعة عن المجتمعية. أما الطرف المقابل لميول الإصرار على الحرية ضمن مجتمع عصر الرأسمالية، فهو الفاشية التي هي اسمٌ للنظام الدمويّ والاستغلاليّ إلى أقصى حدّ. والأكثر واقعيةً هنا هو الحديث عن انعدام المجتمع، لا عن وجوده.
إنّ السوسيولوجيا المعاصرة تتعمد عدم تحليل العبودية الرأسمالية، بل تعتبر شرعنة واقع العبودية الطبقية وظيفةً أساسيةً لها بحكم الأيديولوجيا الليبرالية. بالتالي، فهي ليست علمية. بل تتميز بخصائص ميثولوجية رجعية. أما سيادة “المال” في عصر رأس المال الماليّ، الذي هو أكثر عصور الرأسمالية رجعيةً وقمعاً وطغياناً، فتعني القوة التي لا يمكن لأيّ إله تاريخيّ أن يتحلى بها. بل وربما تعبّر عن الإله الأقوى للأسياد المسيطرين. ومن دون هذا الإله، لا الرأسمالية ممكنة، ولا الدولة القومية، ولا الصناعوية. بينما الحفاظ على صمود المجتمع في وجه إله المال يقتضي المعاني الإنسانية العظمى، وقوة الحياة المجتمعية الجمعية. لكن، ما من أثر بارز لمجتمع يمتلك مثل هذه القوة. فتجارب المجتمع الاشتراكيّ التي ظهرت إلى الوسط متحصنةً بهدف كهذا، قد أبدت القدرة المحدودة على النجاح. وغالباً ما لم تتخلص من تكبّد الهزيمة.
لكن، ومهما فرض الخنوع والهوان إزاء الحداثة الرأسمالية، فلا خيار سوى الإصرار بعزم على المجتمعية والدفاع عن المجتمع. فمهما باتت القضايا سرطانية، ومهما بلغت أبعاداً كبرى من الأزمة والفوضى؛ فإنّ الدفاع عن الوجود المجتمعيّ، والعمل على تحريره شرطٌ لا استغناء عنه لأجل العيش بإنسانية. أما الحياة البديلة لذلك، فإما أنها الحياة الأعجوبة المجرّدة من كافة القيم الإنسانية، والتي يطغى عليها الربح الأعظم؛ أو أنها الحياة المتروكة للتفسخ والاهتراء بين صمت القبور.
الإبادة الثقافية للكرد:
بمقدورنا رصد أكثر حالات النظام الاستعباديّ –الذي فرضته الحداثة الرأسمالية على الواقع الاجتماعيّ- وضوحاً من خلال الحالة التي أسقط فيها الواقع الاجتماعيّ الكرديّ، الذي يتعدى كثيراً كونه قضيةً اجتماعية؛ ليستهلك بإبادة ثقافية طويلة الأمد ومستشرية في كافة أنسجته وخلاياه. أي أنّ المجتمع الكرديّ ليس كأيّ مجتمع إشكاليّ آخر، لأنّ مجرياته تعبّر عن وضع يتخطى كونه مجرد مشكلة. إذ يكفي النظر إلى لغته لإدراك ما يشير إليه الوضع الذي أسقط فيه، والذي هو مليءٌ بالعبر وبالترويع المريب. فأكثر لغات التاريخ عراقةً وأصالةً مكبّلةٌ بالقيود. وهو لا يمتلك رياض الأطفال حتى في المناطق الكبيرة. والأنكى أنّ تبنيّ اللغة الكردية وبذل الجهود في سبيلها غير ممكن في كنف النظام السائد، إلا بأخذ البطالة والجوع بعين الحسبان. أما الكردايتية بذات نفسها، فصيّرت موضوعاً شيئياً لا يساوي خمسة قروش. بل زد على ذلك أنّ النظام القائم يتبنى من يركل تلك الكردايتية أكثر، ويعتبره جديراً بفرصة الحياة: “بقدر ما تنكر واقعك الاجتماعيّ الخاصّ بك وتزدريه، يغدو ممكناً قبولك في كنف نظام الأمة الحاكمة، وعثورك على عمل وتحلّيك بالقدرة على الرقيّ في أحضانه”. هذه الحالة ممنهجةٌ وتسري على كافة مستويّات القيم المجتمعية الكردية. فأينما تواجد كرديٌّ لامعٌ وثريٌّ وواثقٌ من عمله، فإما أنه يحتال على مجتمعه، أو أنه يدأب على سلوك الإنكار والاغتراب عن وعي وقصد دون بد. ومهما روّج مؤخراً لبعض الرموز الكردية على أنها وطنية، إلا إنه يتوجب الإدراك جيداً أنّ جميع هؤلاء على صلة كثيبة بالمصالح العالمية للهيمنة الرأسمالية.
بالرغم من كافة حملات الغزو والاستعمار والصهر القومية التي تمارسها القوى الحاكمة، وعلي
رأسها الغزاة العرب والأتراك والفرس؛ إلا إنّ مجتمعية الكرد الأصليين كانت في حالة تطور خلال العصور الوسطى. فالمجتمع القبليّ والمجتمع المجموعاتيّ على حدّ سواء كانا يحرزان التقدم على درب المجتمع القوميّ. أما القضايا البارزة آنذاك، فكانت تلك النابعة من الدولة والسلطة الهرمية، والتي تسري على جميع المجتمعات. وبالمستطاع القول أنّ المجتمع الكرديّ كان متقدماً على الكثير من أقرانه من المجتمعات مع نهايات العصر الوسيط. إذ كان قادراً على صياغة أجوبته بمستويات تعادل وزن القضايا التي كان يعاني منها. بل وكان يرود العديد من المجتمعات في حلّ القضايا. ورغم كافة حملات الهجوم والاعتداء والاستيلاء والاحتلال والاستعمار المسعورة التي شنّها الغزاة؛ إلا إنّ دفاع المجتمع عن ذاته، وكفاحه في إحياء نفسه حراً كان مستمراً دون انقطاع. بالتالي، لم يكن ممكناً الحديث آنذاك عن قضية وجود جادة، أو عن عبودية مختلفة كثيراً عما يعانيه أمثاله. لكنّ هذه الحال تغيرت جذرياً في عصر الرأسمالية. إذ لم يتمكن الشعب الكرديّ من تنظيم نفسه وفق قاعدة الربح الأعظم، ومن مأسسة ذاته كدولة قومية، ومن استنفار طاقاته لأجل الصناعوية.
وعليه، فقد وجد نفسه يواجه حملات الهجوم والاحتلال والاستعمار وجرائم والصهر والإبادة والتطهير المتعددة الجهات، على يد الدول القومية المسيطرة التي حقّقت كلّ تلك العناصر، وعلى يد حكّام النظام والاحتكارات الرأسمالية المتربعة على قمة تلك الدول القومية. هذا ومن غير الوارد مقارنة هذا الوضع مع فتح القارة الأمريكية في القرن السادس عشر الذي شهد صعود هيمنة النظام الرأسماليّ، ولا مع احتلال أفريقيا في القرن التاسع عشر، ولا مع استعمار آسيا في القرن الثامن عشر.
فالواقع الذي ترك بصماته على الحياة الاجتماعية للكرد كان مختلفاً عن ذلك. فالنظام المتحكم بالكرد قد نظّم نفسه أولاً بهدف عدم الاعتراف بوجود اسمه “الكرد”، أو بغرض إفنائه أو صهره في بوتقته في حال وجوده؛ وشكّل دعائمه الداخلية والخارجية بموجب ذلك، وقام بمأسستها بعناية فائقة. إنه نظامٌ مبيدٌ يدار دوماً بالتكتيكات والاستراتيجيات التآمرية. إننا نتحدث هنا عن كومة الإشكاليات العضال المتثاقلة طردياً، وعن المجازر المرتكبة على التوالي اعتباراً من القرن التاسع عشر، وعن الغزو مراراً وتكراراً، وعن الانفتاح على النهب والسلب الرأسماليّ بين فكّي الدولة القومية القاسيين. هذا وكان من المحال ألاّ يؤول نظامٌ كهذا إلى عمليات التطهير العرقيّ. وقد كانت المجريات في هذه الوجهة أصلاً.
طرح الحل:
سعت القضية الكردية إلى طرح نفسها على الصعيد “القوميّ”، على غرار ما كان رائجاً في ظلّ الحداثة الرأسمالية في القرنين الأخيرين. فبحكم الأجواء السائدة (وليس حصيلة البحث الشامل)، بات مجرد الحديث عن القضية الكردية يجعل القضية القومية تخطر على البال فوراً. وقد كان هذا التقييم بعيداً عن شرح ماهيتها الحقيقية ضمن تكامل تاريخيّ–اجتماعيّ. بل وكأنه يعتمد على مقاربة أشبه ما تكون بالاستعراض. أي أنّها كانت مقاربات بعيدةً كلّ البعد عن صياغة التعاريف الواقعية وعن رسم الأطر النظرية اللازمة. لكنّ الحقيقة القائمة هي أنّ المشكلة لم تقتصر على الواقع الكرديّ فحسب، بل وكأنّ كلّ شيء وكلّ شخص معنيّ بالكردايتية كان إشكالياً؛ بحيث لم يبق أحدٌ إلا وشعر أو فكّر بأنه مشكلة. بينما المشكلة الأصل كانت متعلقةً أساساً بكنه الواقع المعاش. أي بالمقاربات المختلفة بشأن كيفية وماهية الطبيعة الاجتماعية الكردية. وبطبيعة الحال، فعندما نظر إلى كلّ شيء وكلّ شخص على أنه مشكلة، فإنّ مضمون القضية أيضاً كان يغيب عن العيون، فلا تبقى حينها أية قيمة لعمليات البحث والدراسة.
وتبقى المسؤولية في كسر جدار هذه الدوامة العقيمة مسألةً أساسية. ذلك أنّ صلب القضية يكمن في إضفاء الشفافية على الظاهرة الكردية، التي تكثر الغوغاء بشأنها، والتي تعاني من وطأة أثقل مما تتبدى ظاهراً. كما يكمن أيضاً في كشف النقاب عن أبعادها الخاصة بها. وكانت المقاربات، التي سعى الكثير من الكرد إلى سلوكها في البداية انطلاقاً من عالمية القضية القومية، ستنتهي مرةً أخرى وخلال فترة وجيزة إلى تشخيص عالميّ مماثل مفاده أنّ “كردستان مستعمرة”. بالتالي، فوصفة التحرير، التي كان سيجري التفكير بها من أجل قضية كردستان المستعمرة، هي نظرية “التحرير الوطنيّ” كنظرية مفضّلة حينها و”حرب التحرير الوطنيّ” كممارسة عملية مرجّحة آنذاك. لا ريب أنّ أغلب القضايا الموجودة في ثنايا الواقع المعاش كانت قد استشفّت ولمست عبر هذا المصطلح وتلك النظرية والممارسات.
لكن، ومثلما الحال في كلّ تعميم، فإنّ الجوانب الناقصة والخاطئة في هذا التعميم أيضاً كانت ستتجلى مع الوقت. ونخصّ بالذّكر احتمال الحوار بين الأطراف المعنية بالقضية، والذي كان يحتّم التعاطي الملموس أكثر مع الواقع.
كما إنّ تداعيات ماوراء الحداثة المتزايدة بدءاً من أعوام التسعينيات، التي شهدت تراجع الحداثة الرأسمالية في عموم العالم، كانت تلعب دورها في ذلك أيضاً. هذا وكان انهيار الاشتراكية المشيدة يحمل في واقع الأمر معنىً من قبيل انهيار الهيمنة الأيديولوجية الليبرالية. أي أنّ المنهزم والمنهار لم يكن الاشتراكية، بل مذاهبها اليسارية الليبرالية المنحرفة والمتسمرة في مكانها. وعليه، فتناول الحقيقة بوضوح أكبر، كان مرتبطاً عن قرب بانهيار اليسار الليبراليّ ذاك.
وفي المحصلة، فكلما تبدّت الجوانب الدوغمائية الوضعية في وعي الواقع الماركسيّ، كان يغدو بالإمكان تناول الواقع الاجتماعيّ برؤية تاريخية وفلسفية وفنية وعلمية أفضل. ونخصّ بالذّكر تحليل الرأسمالية ارتباطاً بالحداثة وتأسيساً على ركائزها الثلاثية الأساسية (نزعة الربح الأعظم والدولة القومية والصناعوية)، والإمعان فيها وشرحها بمنوال أكثر تكاملاً بناءً على ذلك. وهذا ما كان يتسم بميزة فتح آفاق شاسعة في علم الاجتماع. وعليه؛ فما حصل كان ثورةً في علم الاجتماع. لقد كان يتجلى للعيان أنّه حتى الماركسية التي تودّ طرح ذاتها كعلم اجتماع وكاشتراكية علمية أكثر من غيرها، وكذلك الاشتراكية المشيدة التي ما هي سوى تطبيقٌ عمليٌّ للأولى؛ قد ظلّتا عاجزتين في حقيقة الأمر عن تطهير نفسيهما من الذهنية الدوغمائية الوضعية الميتافيزيقية.
كان بالوسع تفسير كلّ شيء بمنوال ملموس ومتكامل أكثر بموجب براديغما علم الاجتماع الجديدة تلك، لدى النظر إلى الواقع الكرديّ وإلى البنى الإشكالية التي يحتوي عليها. فمثلما
يتم إدراك الماهية الدوغمائية للمقاربات الحتمية، فقد كان ثمة تيقظٌ لمخاطر أن تفضي المقاربات النسبية المفرطة إلى النتائج الدوغمائية عينها. وفي المحصلة، كان من الوارد سلوك مقاربات أدنى إلى الحقيقة بشأن الواقع الظواهريّ الكرديّ المعقد والمشتّت للغاية والمستنفد بوتيرة عليا، وكذلك بصدد قضاياه الشاملة والمتكاملة والبنيوية للغاية والتي تتسم بجذورها التاريخية الغائرة. بمعنى آخر، فالتحليلات الأكثر عينيةً كانت تمكّن من حلول ملموسة أكثر وذات قيمة تطبيقية عليا بشأن القضايا العالقة.
إنّ العلوم الاجتماعية والسوسيولوجيا الحديثة المكلّفة بشرعنة عناصر الحداثة الرأسمالية وجعلها معياراً أساسياً، وعلى نقيض ما يزعم، لم تستطع أثناء تناولها واقع المجتمع التاريخيّ من الذهاب أبعد من إعادة إنتاج قرائن العصور الوسطى من قبيل: الأبيض–الأسود والفاضل–الرذيل. فظاهرة الدولة القومية لوحدها كانت كافيةً لتقويض واقع المجتمع التاريخيّ بنسبة كبيرة. بل وبالمقدور القول أنها كانت تستند إلى ميتافيزيقيا هي الأكثر سقماً، ولا تشكّل طاقةً كامنةً للأفكار والعواطف المثمرة. ذلك أنه ما كان للدولة القومية كطاقة كامنة أن تولّد نتيجةً أخرى في آخر المطاف عدا الفاشية كحالة تركيا وإيران وغيرهم وآليات الربح الأعظم لم تنط بدور عدا استهلاك المجتمع وبيئته. كما إنه ما كان بالإمكان الحديث حينها عن الحياة البيولوجية أو الاجتماعية المؤهّلة للاستناد إلى الصناعوية. فالحداثة لم تك في حقيقتها سوى تلك العناصر التي شرعنتها علومها إلى أبعد حدّ وصيّرتها معايير نموذجية.
ولدى الغوص في أغوار القضية الكردية، كان يلاحظ أنّ التقييمات المطروحة على أنها قضيةٌ وحلّ، هي بحدّ ذاتها إشكالية. ذلك أنّ عناصر ومقومات الحداثة الرأسمالية العالمية بعينها كانت تكمن في أساس القضية الكردية. بالتالي، فالاعتماد على تلك المقومات في صياغة التحليلات وتطوير الحلول العملية، ما كان له أن يتسم بوظيفة أبعد من خداع الذات.
أما الدياليكتيك السائد عالمياً في هذه الوجهة بشأن القضية–الحلّ، فكان يثبت عقمه في نهاية المآل من خلال أزمة رأس المال الماليّ العالميّ المتجذرة. ذلك أنّ القضايا المتولدة من الدول القومية النابعة من الحداثة المبتكرة في الشرق الأوسط، كانت قد آلت مع التوجه نحو راهننا إلى منطقة تعمّها الفوضى وإلى مجتمعات متأزمة بكلّ معنى الكلمة. كما كانت الأيديولوجيات القوموية والدولتية والجهود المبذولة من أجل مأسستها، قد حوّلت الأوساط في العديد من البلدان إلى بحيرة دم؛ بدءاً من أفغانستان إلى تركيا و سوريا والعراق و لبنان، ومن الشيشان إلى إيران و اليمن وليبيا والسودان والصومال.
كلّ العناصر التي تم تحليلها ضمن إطار الحقيقة الكردية، قد ولجت في أجواء الحداثة مرحلة الخروج من كونها أمة، وليس مرحلة التحول إلى أمة. وعليه، فقضية عدم التحول إلى أمة هي التي تطغى بدلاً من القضية القومية الكردية. فالوطن الأمّ لم يصيّر وطناً قومياً. بل وكان يشار إلى أنه وطن الدول القومية الحاكمة. أي أنّ المكان الأساسيّ للتحول إلى أمة كان يخرج من كونه موطناً، وينظر إليه مندرجاً في لائحة الانتماء إلى أمم أخرى. كما كانت تدور المساعي لصهر الوجود القوميّ بذات نفسه في بوتقة الأمم الحاكمة، قبل تحقّق التحول الكردايتيّ أو التحول إلى أمة كردية. وهكذا، كان يصيّر موضوعاً شيئياً، ويستعمر ويصهر على يد ثقافات الدول القومية الحاكمة، العربية منها والتركية والفارسية. وكانت كافة قوى عناصر الحداثة تسخّر في سبيل ذلك؛ مما كان يثقل من وطأة القضية في هذه النقطة بالتحديد، لتبلغ مشارف الخروج من كينونة الأمة.
الشرائح الاجتماعية الكردية:
أما الطبقات والشرائح الاجتماعية البارزة إلى الوسط على أنها قوة الحلّ للقضية القومية في كنف الحداثة، فكانت ضمن مفارقة تامة في تعاطيها مع القضية الكردية. فكلما تبرجزت الشريحة الفوقية التقليدية، كانت تتحول إلى شتى وسائل إنكار الكرد وإبادتهم بما يتعدى نطاق التواطؤ؛ وذلك مقابل انتزاع حصة من السمسرة في أروقة الدولة. وبسبب وهن شرائح البورجوازية الصغيرة وحاجتها إلى سمسرة الدولة، فإنها لم تتعدّ أداء دور العناصر الديماغوجية للقضية. وهكذا، كانت كلتا القوتين المعاصرتين تخرجان من كونهما عنصراً حلاّلاً في القضية. وما تبقّى من الشرائح التي كان سوادها الأعظم عاطلاً عن العمل وأشباه البروليتاريا وغيرها من الشرائح الكادحة، فكانت تصبح موضوعياً قوى الحلّ الأساسية للقضية الكردية.
وبهذا المعنى، لم تعد القضية الكردية قضيةً بورجوازيةً بالأساس. بل أضحت قضية مجتمع الكادحين. وكانت حتى أبسط بوادر الإرادة السياسية لصيرورة الأمة تسحق بلا هوادة تحت ذريعة “وحدة الدولة وسيادتها” التشويشية. أما :
ثقافة السياسة الديمقراطية، التي تعدّ شرطاً لا غنى عنه بالنسبة لأيّ مجتمع، فكانت توصم بـ”الانفصال” و”التقسيم” لمواراة الممارسات التي تصل حدّ الإبادة الجماعية والتطهير العرقيّ والتغيير الديموغرافي وإخفاء الإبادة وشرعنتها بحق الشعب الكردي كما في تركيا والدول الثلاث الأخرى التي تم تقسيم الكرد وكردستان عليهم.
في حين أنّ القطاع الاقتصاديّ، الذي يلبي الاحتياجات المادية الأساسية التي لا يمكن لأيّ مجتمع العيش بدونها، كان يخضع لرقابة تامّة. وهكذا كان الاقتصاد يستخدم كوسيلة للتجريد من كينونة الأمة. أي، كان الاقتصاد بذاته يصيّر أهمّ وسيلة لتكريس العجز عن تحقيق التحول القوميّ. رغم أن المناطق الكردية هي الأغنى من حيث الثروات الباطنية والسطحية في الدول الأربعة.
كما كان لا يعترف بأية وثيقة أو وضع قانونيّ فيما يخصّ الهوية الكردية. أي، كانت الهوية الكردية تصيّر خارجةً على القانون والحقوق لدى تطلّعها إلى التحوّل إلى أمة، فكان لا يعترف بوجودها في هذا الإطار. بالتالي، كان يحكم عليها بأن تغدو هويةً بلا تعريف وبلا اسم، ولا علاقة لها البتة بأيّ قانون. حتى تم تغير اسماء المدن والقرى الكردية وحتى منع التسميات الكردية لابناء الكرد.
منع اللغة والفن والثقافة الكردية وحتى اللبس والأكل الكردي وسرقة موسيقاه وغناء وثقافته الغنية واعتبار أي تعبير كردي هو خيانة للدولة القومية التي لاتعترف اصلاً بالكرد وهويتهم وثقافتهم.وذلك في تعدي وإنكار لقول الله سبحانه وتعالى في الآية 13 من سورة الحجرات ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”
هكذا، فالوجود المجتمعيّ الذي يناهز تعداد سكانه الأربعين وربما الثمانين مليون نسمة حالياً، كان في حكم العدم في القانون الوطنيّ والدوليّ والقومي الدولتي السلطوي.
وبينما يعدّ التعليم أهمّ وسيلة بيد الحداثة لتحقيق التحول إلى أمة، فقد كان الكرد يجتثّون من هوياتهم التاريخية والمجتمعية الخاصة بهم ابتداءاً من مرحلة الحضانة، وذلك ضمن إطار النّظم التعليمية الإنكاريّة للأمم الحاكمة. أي أنّ الوسيلة المجتمعية المسمّاة بالتعليم كانت تتحول على صعيد الهوية الكردية إلى أداة لفرض التخلي عن الهوية الذاتية وعن المجتمعية الذاتية بالنسبة للكرد. فمثلما حظر التعلم باللغة الأمّ في أغلب أجزاء الوطن، فقد كانت لغات الأمم الحاكمة تقام مقام اللغة الأمّ. وبدلاً من أداء اللغة الأمّ وظيفةً أداتيةً لتحقيق المجتمعية، كانت تصيّر حجةً للهروب من المجتمعية.
أما الكردايتية بصفتها ذهنيةً ثقافية، فكانت تصيّر مؤشراً على الاستسلام للثقافات القومية المسيطرة، عوضاً عن تذكيرها بالوصول إلى حالة الشعور بالذات. وعلى سبيل المثال؛ فلدى مقارنة الشعب الكرديّ بشعوب أفريقيا، فسيلاحظ بوضوح ساطع أنّه أبقي على مستوى التحول القوميّ لدى الشعب الكرديّ في مرتبة جدّ متخلفة عما عليه لدى الشعوب الأفريقية.
وبالتأكيد، فلهذا أواصره مع الكينونات المختلفة للدول القومية التي تطبّق الحداثة الرأسمالية. فالكرد لا يطبّقون عناصر الحداثة بإرادتهم الذاتية. بل إنّ الدول القومية المسيطرة هي التي تطبّقها. والحال هذه، فإنّ تلك الدول التي لا تعترف بحقّ الواقع الكرديّ في التحول إلى أمة في كنف هيمناتها، تقوم بخلق نظام فاشيّ كامل مكمّل بالنسبة للكرد، مفعّلةً بذلك مسنّنات الإنكار والإبادة دون انقطاع. وهكذا، فإنّ النتيجة البارزة إلى الوسط تصبح قضية خروج الكرد من كونهم أمة، بل وعجزهم عن تحقيق التحول القوميّ.
تعكس القضية الكردية نفسها بمزاياها المختلفة ضمن أبعاد مختلفة وفي ظلّ ظروف مكانية وزمانية مغايرة للغاية. وعليه، فبقدر ما يتحلى الكرد بالخصائص التي تجعلهم مختلفين ومنفردين بذاتهم، فإنهم يحيون حينها كافة تلك المزايا الرئيسية التي تربط تلك الأبعاد بالظروف الزمانية والمكانية. فليعمل على تجسيد ذلك بنحو ملموس أكثر.
الإبادة الجماعية الكردية:
منذ البداية ونمط نشوء وتطور الواقع الكرديّ وكردستان المنضويين تحت نفوذ الدولة القومية التركية يواجه نظام إنكار وإبادة مروعة. وبالطبع، يمهد هذا الوضع الطريق أمام اعتلال الواقع منذ البداية تحت وطأة القضايا الثقيلة، ليواجه خسران مقومات الهوية الذاتية مع مضيّ الوقت. وقبل تحقيق التحول القوميّ، يقوم نظام الدولة القومية التركية بفرض عدم التحول القوميّ، أو بالأحرى، بفرض التخلي عن ذلك، وبرفض الذات وإنكارها. وأياً كانت الزاوية التي ينظر منها، فإنّ هذه الحالة تعرّف واقعاً يتخطى مستوى الإشكالية، ليمسي نظاماً غير مسمّى من الإبادة الجماعية. وجه الاختلاف هنا يكمن في كونه نظام إبادة جماعية ترتكب بمنوال خفيّ. وعلى خلاف الشعبين الأرمنيّ والهيلينيّ، اللذين قضي عليهما بشكل علنيّ، فإنّ الكرد يتعرضون لتصفية خفيّة مشحونة بالحيل والخيانة والتواطؤ والمشقات والبطالة والجوع والتعذيب. أي أنّ ما يعاش ليس قضية التحول إلى أمة. بل هو قضية شلّ تأثير سبل وأساليب التصفية والإفناء.
لذا، وبطبيعة الحال، ينبغي أن تطلق تسمية “حركة تمكين وجود الكرد وتحريرهم” حتماً على أسلوب الحدّ من هذا السياق. وأيّ أسلوب آخر، وبالأخصّ أساليب البورجوازيين الليبراليين المزيفين وأساليب البورجوازيين الصغار المتغطرسين الذين يعوّلون على القوموية واليسارية؛ لن تمتلك القدرة التي تؤهلها لإيقاف الإنكار والإبادة، ولا لصياغة المصطلحات أو مزاولة الممارسات اللازمة لذلك. حيث ثمة قضية وجود إزاء هكذا أنظمة. عليه، وبطبيعة الحال، فإنّ الحلّ يكمن في خوض حرب الوجود وفي قوة الحياة الحرة. كما يقوم به الشعب الكردي مع حركته التحررية والقائد عبدالله أوجلان منذ 15 آب\أغسطس عام 1984.
لا تختلف حال نشوء الواقع الكرديّ وكردستان المنضويين تحت نفوذ الدولة القومية الإيرانية كثيراً عما هي عليه ضمن نموذج الدولة القومية التركية. إذ يتأتى الفرق من اختلاف الحداثتين. ويؤدي الواقعان التاريخيان والاجتماعيان المختلفان اللذان يعيشهما الكرد إلى اختلافات شكلية في الحداثتين، اللتين اعتمدتا على إرثهما السلطويّ في تجريد الكرد من القوة منذ العصور الوسطى، بعد تقسيمهم رسمياً في معاهدة قصر شيرين عام 1639م. وبالتالي أفضيتا إلى الحراك المشترك مع الحداثة ضد التمردات الكردية، لتفسحا المجال بذلك أمام ظهور نظام مشترك من الإبادة والإنكار. والحدود الفاصلة بين كلتيهما تعتمد على ركيزة تحويل القضية الكردية لصالحهما، وعلى القيام بالحراك المشترك في سبيل ذلك. فالتحالف المعادي للكرد بين الدولتين القوميتين التركية والإيرانية في راهننا، يؤيد صحة هذه الحقيقة التاريخية.
اتّخذ الواقع الكرديّ وكردستان المنضويان تحت سيطرة الدولة القومية العراقية مساراً مختلفاً نوعاً ما. وقد كان للهيمنة الإنكليزية نصيبها المعيّن في ذلك. فنشوء الدولة القومية العربية متأخراً وبنحو واهن هنا، قد أتاح الفرصة أمام الكرد لتطوير وجودهم القوميّ إلى حدّ ما. ومع تصلّب النظام ازدادت حدّة المقاومة الكردية أيضاً. وكلما استمرّ وضع التصلّب المتبادل هذا، كلما تصاعد سياقٌ طغى عليه الوجود على العدم بالنسبة للكرد. ومع تأسيس وبسط الهيمنة الأمريكية مؤخراً، حاز الكرد على إمكانية تشييد دويلة قومية، ولو بالمنوال الفيدراليّ. لكن، لطالما نظرت الدول القومية المجاورة، بل وحتى الدولة القومية العراقية المركزية بعين الخطر المحيق إلى هذه الإمكانية، لتعمل على القضاء عليها في أول فرصة سانحة. وفي كلتا الحالتين، لا تفتأ قضايا الوجود والحياة الحرة مستمرةً لدى كرد العراق، الذين يتركون الباب مفتوحاً على التحول القوميّ من جهة، وعلى الخروج من كونهم أمةً من جهة أخرى وفي آن معاً.
تنبع القضايا التي يعاني منها الكرد المنضوون تحت حاكمية الدولة القومية السورية من إقصائهم أكثر من كونها ناجمةً عن صهرهم في بوتقة النظام. فقسمٌ من الكرد غير معترف بهم. والحزام العربيّ المشكّل على الحدود يهدف إلى صهر الكرد على المدى الطويل وليس هناك اعتراف بالكرد ضمن الدولة والدستور السوري كما هو الحال في تركيا وإيران. لكن في السنوات العشرة الأخيرة استطاع الكرد تقديم أهم النماذج الوطنية الديمقراطية السورية عبر نموذج الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية كحالة ديمقراطية لكل شعوب ومكونات سوريا وليس أمام الدولة السورية سوى الاعتراف بالكرد ونموذجهم الوطني الديمقراطي السوري.
أما الحدود المرسومة على يد الهيمنتين الإنكليزية والفرنسية عقب الحرب العالمية الأولى، فكانت ثاني تقسيم مهم بالنسبة إلى الكرد. إذ كان الغرض منها القضاء على الكرد تأسيساً على المصالح المشتركة بمعيّة الهيمنة التركية. لقد كان هذا التقسيم أكثر خطوات الحداثة الرأسمالية تدميراً بالنسبة للكرد. فمثلما أنها أعاقت تحولهم القوميّ، فقد كانت تيسّر تجريدهم من كينونة الأمة أيضاً. ونخصّ بالذّكر الهيمنة الإنكليزية، التي كانت تعتبر الإبقاء على الكرد في وضع إشكاليّ دائم من أنسب الأساليب المتماشية ومصالحها فيما يتعلق بتحكمها بمنطقة الشرق الأوسط. أي إنّ الإشكالية بذات نفسها كانت تصطنع، للإبقاء عليها واحدةً من الدعامات الأساسية لتأمين سيرورة النظام وفي النتيجة، كانت القضية الكردية تتحول إلى قضية تقسيم وإنكار الوطن الأمّ للكرد، وتجزيء واقعهم الاجتماعيّ من الأعماق. والهدف من ذلك:
إخراجهم من كينونتهم.
منعهم من امتلاك إرادة سياسية.
إرغامهم على الخنوع لأساليب الدول في تنظيم وارتكاب الإنكار والإبادة.
تحويل تلبية احتياجاتهم الاقتصادية إلى وسيلة للتخلي عن هويتهم الذاتية.
عدم إتاحة المجال أمام تحوّلهم إلى كيان ثقافيّ وأيديولوجيّ مرتكز إلى هويتهم الذاتية.
عدم الاعتراف القانونيّ بحقّهم ذاك.
حرمانهم من وسائل التعليم العصريّ ومن أشكال تطبيقه.
الاعتماد على كافة هذه المجالات السابقة متحدةً في سبيل عدم الاعتراف بوجودهم الذاتيّ وبهويتهم الذاتية.
وعدم السماح لهم بالعيش بحرية.
بمعنى آخر، فالقضية الكردية لم تعد قضيةً قومية. بل كانت تتحول إلى قضية التجرّد من كينونة الأمة.
ومع استمرار الانقسام وتعزّز أنظمة الإنكار والإبادة على كلّ جزء بمرور الوقت، كانت القضية تخرج من إطار التحول القوميّ، لتختزل إلى مستوى قضية تأمين سيرورة الوجود. فالإبادة الجماعية ببعدها الثقافيّ باتت واقعاً سائداً على الدوام، بالرغم من أنّ الإبادة الجسدية ليست أسلوباً أساسياً من حيث كونها تفيد بالقضاء على الوجود من الجذور. وعدم تنظيم وارتكاب الإبادة الجسدية على الفور مثلما حصل في إبادات الأرمن واليهود، كان يضفي مزيداً من المخاضات الأليمة.
جليٌّ تماماً أنه في حال وضع كلّ هذه العوامل نصب العين، فسيكون من الواقعيّ أكثر الحديث عن العقدة الكردية الكأداء بدلاً من التكلم عن القضية الكردية. وعليه، فكيفما أنّ قيام الإسكندر بفكّ عقدة غورديون (ولو بحدّ السيف) قد مكّن من فتح آسيا بأكملها، فإنّ حلّ العقدة الكردية الكأداء أيضاً سيمكّن من الانفراج الديمقراطيّ ومن إتاحة فرصة الحياة الحرة لجميع المجتمعات تتصدرها مجتمعات الشرق الأوسط.
ولعل إدراك الكرد وشعوب المنطقة ودولها لإستحالة وعدم التمكن من حل القضايا العالقة عبر مسار الدول القومية وتناحراتها و الإبادات الجماعية أو إنشاء أعداد أخرى منها وتقسيم المنطقة وكذلك تجاوز الدولتية القوموية والسلطوية والطبقية والمدنية الاحتكارية ومفاهيمها وحالات التطهير العرقي الثقافي سيكون مفيدا للحل ولتماسك المنطقة وتقوية الجبهات الداخلية أمام التحديات المختلفة والمشاريع الاستعمارية الإقليمية والعالمية للهيمنة والنهب .
وهنا يبقى الحل وبدون شك هو المشروع الديمقراطي أي الحل الديمقراطي للقضية الوطنية الكردية وبالتشارك مع شعوب المنطقة والاعتراف والاحترام المتبادل وفق مفهوم الأمة الديمقراطية والإدراة الذاتية والتحول الديمقراطي في دول المنطقة، الذي يتم طرحه من قبل الشعب الكردي وأقوى وأكبر تنظيماته السياسية والإجتماعية والاقتصادية والثقافية والدفاعية والأمنية (منظومة المجتمع الكردستاني KCK وحزب العمال الكردستاني PKK وقوات الدفاع الشعبي HPG) في الأجزاء الأربعة من كردستان المقسمة وحتى بين الكرد في المهجر، سيذهب بالكرد ولكونهم سيكونون النواة الديمقراطية للمنطقة و كذلك بالمنطقة وشعوبها ومجتمعاتها إلى مصاف العالمية من باب الديمقراطية ونموذج المرأة الحرة والسياسية الديمقراطية كمسارات طبيعية وموفقة للحياة الحرة ولأخوة الشعوب والتعايش المشترك السلمي والتنوير الديمقراطي (استناداً للتاريخ والثقافة والعلم المعاصر والتكنولوجيا المفيدة) والاقتدار المجتمعي الديمقراطي وبذلك للاستقرار والأمن والسلام. وهنا تظهر اهمية اطلاق سراح المفكر والقائد اوجلان وحريته الذي مضى 23 سنة على سجنه في تركيا، مع إخراج حزب العمال الكردستاني من قائمة الإرهاب كونهم يجسدون مفاتيح الحل الديمقراطي للقضية الكردية ودمقرطة المنطقة وقوتها القادرة والمؤثرة في الأجزاء الأربعة من كردستان.