محمد أرسلان علي
لاستيعاب ما حصل من ثورة في البنية الفكرية للانسان في منطقتنا التي لم تنقطع عنها تقاليد النبوة كمصطلح أو كفلسفة مجتمعية منذ بدايات تشكل المدن والذهنية المدينية التي بدأت من المشرق حيث كانت سومر ومن بعدها أكاد وبابل وآشور وميديا – البرس واليونان ومن ثم الرومان – البيزنطيين، أو التي تأثرت بها على ضفاف النيل والتي تشكلت فيها المدنية بشكل مباشر وإن عاشت مرحلة ما قبل ذلك لفترة قصيرة جداً، إلا أن الغالب عليها هي ثقافة المدنية أكثر مما هي ثقافة الحضارة. ونفس الأمر ينطبق على الصين والهند وثقافتهما المدينية التي حملت اسم كونفوشيوس وبوذا. كل ذلك يحثنا على التفكير كثيراً في تأثير الجغرافيا والمجتمع على تكوين شخصية هؤلاء الفلاسفة وكيف أنهم حاولوا بكل ما يحملون من قوة في الفكر وضعف من التابعين، إلا أن مسيرتهم استمرت رغم ما لاقوه من مصاعب جمّة من نفي أو مطاردة أو حتى القتل بأبشع الأساليب من قِبَل مَن كانوا يدّعون الألوهية أو انهم ظِلُ الله على الأرض. وللوصول إلى فهم ما حثّ سيدَنا ابراهيم على اتخاذ موقفه والبدء بثورته على نمرود عصره الذي أدّعى بأنه من الآلهة، ربما يُعدّ معيناً لنا على استيعاب معنى هذه الثورة ولماذا كانت أورفا هي كلمة البدء في هذه الثورة؟
تحليل أورفا سيرفدنا بالكثير من الأمور المغيبة عنّا والتي لم ندركها لوقتنا الحاضر في كيفية تشكل ثقافة النبوة المقدسة والثورة على تأليه الانسان لنفسه لتكون اللعنة هي أسلوب الحياة السائدة. التركيز على أورفا ومكانتها الجغرافية ودورها التاريخي في رفد الحياة على مدى تطورها بكثير من أساليب البقاء، ربما يعيننا أكثر على فهم هجرة سيدنا ابراهيم ايضاً متجهاً نحو الجنوب إلى أرض كنعان باحثاً عن كيفية تذليل اللعنة التي حلّت على الانسان في هذه المنطقة.
إلى جانب تحليل علاقة أورفا بمصطلحات التاريخ والقدسية واللعنة، فإن ما نكتبه هنا يحلل أيضاً تقاليد النبوّة عموماً وشريعة سيدنا إبراهيم خصوصاً. إذ تتم مُلاقاةُ منطقة أورفا (بماضيها العريق وإنسانيتها) بكافة مقدساتها وأنبيائها، وبأولئك الذين لا حصر لهم ممن ساروا على خُطاهم. لدى تمعُّننا في أجواء أورفا في عهد سيدنا إبراهيم، سنجد أن خروجه من أورفا قد أثَّر في عموم التاريخ البشري. ذلك أن البشرية المولودة في مدينة أورفا والمناطق المحيطة بها، قد أثبتت جدارتها حقاً تجاه ذلك باتِّسامها بالطابع الكوني. والحال هذه، فماذا نجد فيها راهناً؟ إننا نجد أورفا اليوم في الصفوف الخلفية، وكأن اللعنة حلَّت عليها وعلى كل المدن في المنطقة من بعدها.
إنني أعمل من خلال هذه الكتابة على تحديث قدسية سيدنا إبراهيم تدريجياً. ذلك أن استهداف النماردة والنظم الملعونة المعاصرين وتحليلهم يُعَدُّ خطوة تقدمية، ليس على الصعيد القومي والديمقراطي فحسب، بل ومن أجل البشرية أيضاً.
يقول السيد عبد الله أوجلان في مرافعته المعنونة “مرافعة أورفا” حول هذا الأمر: “القيام بهجرة جديدة في الشرق الأوسط؛ والخروج من أورفا والسير على الطريق المتجهة نحو بلاد كنعان على غرار سيدنا إبراهيم؛ الاستقرار على حوافّ جبل الشيخ كما سيدنا موسى؛ والعمل على تفكيك اللعنة التي نعيشها”، يُعدّ من أهمّ المسؤوليات التي تقع على عاتقنا.
عن أورفا المدينة التي كانت محط أنظار العديد من الامبراطوريات للسيطرة عليها لموقعها الاستراتيجي على ضفاف نهري دجلة والفرات وسهولها الزراعية الواسعة، وبنفس الوقت كانت مركزاً لكل مَن كان يهرب من بطش وظلم الملوك الآلهة التي كانت لا تعرف من الانسان إلا أن يكون عبداً. وأغلب سكانها من الكرد وهناك أقليات من أصول عربية وتركية وأرمنية يعيشون غالبا في نواحيها.
في مقال كتبه الاستاذ أحمد بن سيف الهنائي من عُمان في نوفمبر 2012 أثناء زيارته لهذه المدينة وعنون مقاله بـ “أورفا الأثرية” المدينة الأقدم في التاريخ ومحضن الأنبياء كتب: (تعتبر أورفا من أقدم المدن التي عرفها التاريخ، حيث استوطنها مجموعة من البشر لسنين طويلة قبل الآشوريين. ويُطلق عليها اسم بلد المساجد لكثرتها. هنا بحيرة إبراهيم الخليل، وفي الأعلى كهف الخليل الذي ولدته أمه “نونا” فيه، وعلى ما يدنو من عشرين كيلومتراً من قرية “ويران شاهير” تجد ثلاثة أضرحةٍ تاريخية، ضريح النبي الكريم “أيوب” عليه السلام، وضريح (“ليا” أو “رحمة”) زوجته، وثالثهما ضريح النبي الجليل “إلياس” عليه السلام، وكذلك كان فيها النبي شعيب ويسوع عليهما السلام).
تعود جذور التاريخ والحضارة إلى المجتمع النيوليتي. وقد عثِرَ في الأقسام العُلوية من نهرَي دجلة والفرات على بقايا المجتمع النيوليتي، الذي يَعود إلى أقدمِ تاريخٍ على الإطلاق حتى الآن. إذ يُجمِع المؤرخون جميعاً على أن أعظم ثورة في التاريخ هي الانتقال إلى تلك الحياة المستقرة.
بإمكان أي مشاهِدٍ أن يُحصي المئات من التلال الترابية بمجرد مروره -ولو بالسيارة- من حوض دجلة والفرات، لا سيما لدى مروره من مُدُنِ أورفا وديار بكر وماردين والمناطق المحيطة بها. فانطلاقاً من البقايا التي تَعود إلى المجتمع النيوليتي الزراعي، والتي تصادَف في حفريات العديد من التلال الترابية في أورفا، يتمّ إرجاع تاريخ أُولى مراحل الاستقرار هناك إلى أعوام 15000 قبل الميلاد.
ومع ظهور التمايز الطبقي في أحضان المجتمع الزراعي، يبدأ التمدن والتدول بالتطور سريعاً. وتبدأ مرحلة جديدة مع التمدن. إذ تبرز أولوية نشر المدنية المبتدئة مع السومريين من ميزوبوتاميا السفلى نحو عموم ميزوبوتاميا. ومع التوجه نحو أعوام 2000 ق.م، تتسارع وتيرة انفتاح السومريين على الخارج وتأسيس المستعمَرات.
تتشكل أهم المستعمَرات السومرية على ضفاف نهرَي دجلة والفرات، وعلى الطرق التجارية، وفي الأماكن التي تتوافر فيها المعادن والأخشاب. تُعَدُّ أورفا (كل الكلمات التي تبدأ بـ”أور Ur”، مثل: أور، أوروك، أورفا؛ هي كلمات سومرية. وتعني أماكن الاستقرار على التلال) وجوارها أماكن انتشرت فيها المستعمَرات السومرية بكثرة حوالي أعوام 2000 ق.م. ومع ظهور الاستعمار، يُلاحَظ أن الآلهة -أي الطبقة الحاكمة- لم تُشَكِّل جواباً لأنين البشرية التي باتت وجهاً لوجه أمام حياة يائسة مليئة بالآلام الكبيرة متجسدةً في أنين النبي أيوب.
من الواضح أن أسطورة النبي أيوب –الذي ما يزال ضريحه موجوداً في أورفا- هي ذات أصول سومرية، وأنها تتزامن مع أزمة المدنية السومرية (أعوام 2000 ق.م). أما رَدُّ أورفا على أزمة المدنية من خلال ظاهرة “النبوّة”، فقد أفضى إلى جعلِ أورفا تنالُ شرفَ كونِها “مدينة الأنبياء”. هكذا، فإن هذه التقاليد التي بدأت كـ”مقاومةٍ سلبية” مع سيدنا أيوب، ستتحول مع سيدنا إبراهيم إلى “انطلاقة راديكالية” تشهدها مدينة أورفا للمرة الثانية.
ازدادت وتيرةُ الهجمات أكثر فأكثر في منطقة أورفا، لا سيما في عهد السلالة البابلية ذات الأصول العمورية، والتي سطعَ نجمها بعد السومريين. وكَرَدّةِ فعلٍ تجاه ذلك، تتطور المعارضة البارزة في التاريخ تحت اسم “النبوّة”. فإن أورفا بجانبها هذا قد أدت دور المركز في مناهضة النُظم الألوهية (الملوك الآلهة) لأول مرة في التاريخ، من خلال الروّاد الأنبياء عموماً، وعلى هدى التقاليد المتجسدة في سيدنا إبراهيم خصوصاً.
أُطلِقَ لقب “نمرود” على ممثل الاستعمار السومري في تلك الفترة. وحسب اللغة الكردية، فإن مفردة “نَمر Nemir” تعني “الخالد”، وكلمة “نَمرود Nemrut” تعني “المَلِك الخالد”. فحسب ذهنية المَلِك-الإله، فإن البشر فانون، بينما الملوك يَمنحون أنفسهم صفة الخلود كَونهم آلهة. وقد ترسخت الميثولوجيا السومرية عبر اللغة والمفردات المحلية، وسادت في الأذهان متجسدةً في شخصِ نمرود كممثلٍ لاستعمار أورفا. إذ تعالى نمرود وتميَّزَ عن غيره بصفتِه إلهاً خالداً يرمز إلى ممثل الطبقة الإدارية الحاكمة السومرية في أورفا آنذاك. في حين أن المجموعات الشعبية المحلية المنضوية تحت حُكمه –لا سيما الكُرد بنسبة كبرى- كانت مُكلَّفة بخدمته بصفتها عباداً فانين.
يدلّ صراع سيدنا إبراهيم ضد نمرود في جوهره على المقاومة ونضال الحرية الذي تخوضه المجموعات الشعبية المحلية ضد السومريين والبابليين بصفتهم ممثلي الإمبراطورية الاستعمارية. والقبائل الهورية ذات الأصول الآرية والقبائل العمورية ذات الأصول الساميّة، والتي لم تَكُن قد تَعرَّفَت بَعدُ على المدنية؛ قد صارعَت المَلِكَ متحدةً فيما بينها أحياناً وفُرادى أحياناً أخرى. يُلاحَظُ في تقاليد سيدنا إبراهيم أن ثقافتَي كلتا المجموعتَين تأثَّرتا ببعضهما بعضاً.
أما موقعُ أورفا وجوارها، فإنّ بُعدَه بمسافةٍ متساويةٍ عن بلاد سومر وبابل من جهة وعن بلاد مصر والحثيين من جهة أخرى، قد هَيَّأ أجواء مناسبة لخوض نضال الحرية هناك منذ تلك الفترة التاريخية، أي منذ أعوام 2000 ق.م وحتى أعوام 1250ق.م. بالتالي، فإن “النبوّة” في حقيقتها هي انعكاس أيديولوجيٌّ (مرتكزٌ إلى المقاومة) للموقع الجغرافي الملائم وللمكانة الاقتصادية المناسِبة. إن الحركة الأولى التي حَطَّمَت الأصنام تُمثّل الضربةَ الأولى التي لحقَت بالميثيولوجيا والدين العبودي. لذا، فهي تتسم بدورٍ تاريخي عظيم. وشُهرةُ تقاليد سيدنا إبراهيم إلى هذه الدرجة، إنما تأتي من إنجازِها لتلك البداية. ذلك أنه لدى إثبات استحالةِ أنْ يكون الإنسانُ إلهاً أو خالداً، فإن الضربة الكبرى تَكون قد لحقَت بالأيديولوجيا التي تُشرعنُ امتيازات الطبقة الحاكمة. وسوف يسلك التاريخُ هذه التقاليد فيما بعد أيضاً، ليغدو ذا نهجٍ مختلفٍ على شكل سلسلةٍ من الأنبياء تَصِلُ حتى سيدنا محمد. وتُعَدُّ أورفا بمثابة أولِ مركزٍ مقدسٍ لهذا التاريخ، لتلعب القدسُ ثم مكة هذا الدور من بَعدِها.
تصبح منطقة أورفا في نفس الوقت بمثابة مصدر للتاريخ. إذ تقابلَت فيها الثقافتان التاريخيتان العائدتان إلى المجموعات العمورية البدوية الرعوية ذات الأصول الساميّة (والتي تتجه باستمرار من البوادي والصحارى العربية نحو الشمال، أي نحو ميزوبوتاميا) والمجموعات الهورية الزراعية ذات الأصول الآرية في الشمال. فاشتبكَت تلك المجموعات فيما بينها أحياناً، إلا إنها غالباً ما اعتادت امتهان التجارة في المستعمَرات السومرية. وعليه، فإنّ تَطوُّر المعارضة بأسهل الأشكال ضد النظام السومري، هو على علاقة بهذا الواقع المادي الملموس. ذلك أنّ تَعدُّد الثقافات يعني تعدد الذهنيات.
ونظراً لأنّ أورفا هي واحدةٌ من المناطق التي تقع في الأقاصي، فليس سهلاً بسط النفوذ الصارم عليها. والأهمّ من كل ذلك، هو أنّ أشكال العبادةِ السائدة في الذهنيات المحلية أيضاً تعاند لأجل التشبث بوجودها. فبينما تتجسد إشارة التمرد على نمرودِ أورفا خلال فترات الأزمات العامة في المقاومة السلبية عبر مثال سيدنا أيوب، فإن هذا التمرد يبرز في العصور الوسطى من خلال أسطورة سيدنا إبراهيم. هذا وثمة العديد من الأماكن والأساطير النبوية الأخرى في منطقة أورفا. وانطلاقاً من الأساطير التي تتحدث عن الاستعمار السومري الإمبريالي الخارجي وعن نمرود الذي يمثله، ومن الأساطير التي تتحدث عن الأنبياء بصفتهم من أوائل المناهضين له؛ فإننا ندرك ونلاحظ أن أورفا اضطرَّت لأداء دورها كساحةِ صراعٍ طويلِ الأمد. ويتعزز هذا الاحتمال من خلال: خاصيات أورفا الجغرافية، خصوبة تربتها، ملاءمة مناخها، هويتها الثقافية، ومسارها التاريخي.
وسوف تؤدي منطقة القدس دوراً مشابهاً فيما بعد. فبينما لعبت أورفا هذا الدور ضد النفوذ والسيطرة السومرية على الأغلب، فإن القدس ستلعب دورها هذا بالأكثر تجاه النفوذ والسيطرة المصرية العبودية. وعليه، فإنّ كِلا المكانَين يُعَدّان مهدَ الأنبياء وكنايةً عن مركزٍ للمعارضة. وانطلاقاً من منزلتهما هذه، فإن كِلتا المدينتَين (والمناطق المجاورة لهما) ستَبرزان على مسرح التاريخ كمركزَين أساسيَّين للأديان التوحيدية اعتباراً من أعوام 2000 ق.م. وستُحافظ أورفا على مكانتها المركزية تلك بدءاً من هجرة سيدنا إبراهيم منها نحو القدس، وحتى دعوةِ السلالة الأبجرية الحاكمة آنذاك لسيدنا عيسى إلى أورفا. ويتأتى الانتقال المتبادل بين هذين المكانين طيلة أَلفَي عام من منزلتهما التاريخية تلك. كما إن هذَين المركزَين اللذَين تَخَمَّرَت فيهما الأديان التوحيدية، يُمثّلان الأوساط الثقافية التي ازدهرت فيها آمال الحرية آنذاك لدرجةِ التقديس. وتُعَدّ مناهَضةُ هاتَين المدينتَين للعبودية الصارمة عاملاً رئيسياً وراء استذكارهما كمكانَين مقدّسَين حتى في راهننا. وبما أن دورهما عظيم للغاية، فإن مكانتهما في الذاكرة البشرية أيضاً عظيمة لا يمكن نسيانها.
تُعَدُّ أسطورة تحطيم الأصنام لدى سيدنا إبراهيم ترميزاً إلى عدم ثقته بالتقاليد القديمة والميثولوجيا الكامنة وراءها، وإلى تمرده عليها. وقد سادت في تلك الفترة تطلعاتُ العديد من القبائل إلى هكذا حِراكٍ حر، وما نجم عنه من حياةٍ مليئة بالصراع والتصادم. ذلك أن دولةَ المدينة بأيديولوجيتها الرسمية وبثقافات العبادة السائدة فيها تُشَكِّل طرفاً مضاداً. فظاهرةُ نشرِ المجتمع الطبقيِّ تُهدِّد المساواة القَبَلية. ونظراً لأن منطقة أورفا تُعَدُّ –ربما- من أقدم وأبرز مناطق المجتمع النيوليتي، فمن المحتمل أنّ انتقالها إلى مرحلة المدنية (في نهايات أعوام 2000 ق.م) قد صَيَّرَها مركزاً لحِراكٍ اجتماعي شامل. وعقيدة النبوّة والمزارات المقدسة فيها، والتي ما تزال تُستَذكَر وتُعاش بقوة هناك، إنما تؤكد حصول هذه الظاهرة. إنها بمثابة مركز المعارضة تجاه مراحل الانتقال إلى المجتمع الطبقي ذي الأصول البابلية والآشورية. وما التمرد على الأصنام وتحطيمها سوى تعبير رمزي وأيديولوجي عن ذاك السياق.
وعليه، فمن الوارد اعتبارُ تقاليد سيدنا إبراهيم رمزاً لهذه المنطقة ولبُنيتِها الأيديولوجية الأصيلة. فحسبَ القصة التي ما تزال تُروى في أورفا، فإنّ ما تسبَّبَ بقتلِ نمرود (مَلِكُ أو ممثّلُ الآشوريين) هو الذبابة التي دخلت دماغه، وليس السيف. واضحٌ أن الذبابة ترمز إلى العقيدة والأفكار الجديدة. ومثلما شُوهِدَ في انهيار كل الأنظمة الدوغمائية، فإنّ الأمر الأكثر وضوحاً، هو أن الحلّ يكمن في الذبابة التي تدخل دماغ النظام العبودي، أي في أشكال العقائد والأفكار الجديدة التي تستهدف البنية العقائدية والمعنوية لذاك النظام. أما ما نَجَحَ فيه العنف الفظّ، داخلياً كان أم خارجياً، فهو إتمامُ تَحَقُّقِ الانهيار ذاك من خلال إلحاق عدة ضربات عنيفة فظة به.
لذلك يُقال بأنه لنجاح أي مقاومة أو ثورة لا بُدَّ لها من امتلاك فكر ونظرية تحدد أهداف هذه المقاومة وأسلوب عملها كي تصل لمرامها. وهذا ما كان واضحاً وجلياً بما قام به سيدنا ابراهيم وخاصة أنَّ “الشك واليقين”، هما الدافعان على عملية التطوير الفكري عنده. وهي بدايات فلسفية يصارعها الانسان بدواخله العاطفية والتحليلية للوصول إلى الحقيقة.
إذن، درب الحقيقة يبدأ من الشك واليقين. وهذا ما كان يعايشه سيدنا ابراهيم في مدينة أورفا التي انطلق منها بفلسفته تلك لمجابهة نمرود. أي استعمل الحجة والبرهان والمنطق العقلي ولم يعتمد اسلوب العنف لمواجهة نمرود الذي كان يمتلك أسباب القوة التي ستنهي حياة سيدنا ابراهيم من الأساس. بدأ ابراهيم ثورته أولاً على العائلة التي كانت الممثل الشرعي لنظام العبودية للآلهة الملوك المنتشر في المنطقة. فحواره مع أبيه آزر ما هو إلا نقاش فلسفي بين ما كان أبوه يعبده من قديم وبين فلسفة جديدة طرحها ابراهيم على أبيه. وبعدها كان الحوار مع بعض أفراد قومه الذين كانوا لا يصدقونه ويستهزؤون به.
الشك في الأصنام التي كانت تُعبد في المنطقة والتي كانت للمجتمع بمثابة التعبير الملموس عن آلهة الشمس والقمر والكواكب. آلهة من الطبيعة ويرونها يومياً تشرق وتغيب إلا أنَّ هذه الآلهة لم تُطمئن وتُشبع شك سيدنا ابراهيم فيها وبقدرتها على انقاذها للانسان. فهمي في النهاية كناية عن حجارة.
النقطة الهامة الأخرى التي يمكن استنتاجها من محاولة ابراهيم في نشر فلسفته هي اليقين الذي كان يؤمن به بكل قوة وإرادة صلبة، لأنه يعلم أنّه ثمة إله أعظم وأكبر من تلك التي يتعبدونها ومصنوعة من حجارة. هذا اليقين العقلي الذي آمن به كان سلاحه مع نمرود وشعبه أثناء محاججتهم حول من حطّم الأصنام. وأثبت لهم بالبراهين العقلية الملموسة سفه ما يعتقدون، فقد وبخهم على ما يعبدون من تماثيل لا تنفع ولا تضر بل هم من يصنعونها.
ما قام به ابراهيم يمكن عدّه ثورة بكل معنى الكلمة على التقاليد القديمة للعبودية لبناء مجتمع على أساسِ فكرٍ جديد يكون فيها الانسان سيد نفسه وليس عبداً لشخص آخر ادَّعى الألوهية. لذا، يمكن عدّ تقاليد سيدنا ابراهيم تجليات واضحة لمعنى الثورة على النظم المستبدة التي تعتبر نفسها من الخالدين.
أسبوعين مضت
4 أسابيع مضت