أستانا: كازاخستان / عماد الأزرق
منذ فترة وجيزة طرح رئيس كازاخستان قاسم جومارت توقاييف على مواطني البلاد نظاما جديدا للعلاقات، أو ما يعرف بـ “ميثاقا اجتماعيا” مختلفا، تحت عنوان “كازاخستان الجديدة”، من خلال حزمة إصلاحات سياسية واقتصاديو واجتماعية، بما يمكن الحكومة من تنفيذ خطط طموحة للبناء والتحديث
ويكمن الاختلاف الرئيسي بين “كازاخستان الجديدة” و”القديمة” اعتماد الحكومة لسياسة الحوار المفتوح مع المجتمع ح، وزيادة الشفافية في إدارة الدولة، وضمان العدالة الاجتماعية، بما في ذلك من خلال إعادة التوزيع العادل لثروات البلاد بما يخدم مصالح الشعب، وشهدت كازاخستان “القديمة” الكثير من المشاكل في هذا الأمر، فوفقا للمعلومات الرسمية، في عام 2019 كان يستحوذ 162 فردا فقط على إجمالي نصف ثروة هذا البلد الواقع في وسط آسيا، وكانت معظم هذه الثروة في ذلك الوقت في الخارج في جنيف ولندن ونيويورك وباريس وغيرها من المراكز المالية العالمية.
لذا فقد أصدر الرئيس توقايف أوامره للحكومة بوضع خطة لإعادة هذه الأصول إلى البلاد في أقرب وقت ممكن، في ذلك الوقت، وفقًا للتقديرات المختلفة، بما في ذلك بيانات المنظمة الحقوقية الدولية «Tax justice network» (شبكة العدالة الضريبية)، بلغ حجم رأس المال الذي خرج من كازاخستان 160 مليار دولار. هكذا تسرب هذا الكم من الأموال إلى خارج البلاد بشكل غير قانوني في 25 عاما.
ولاستعادة هذه الأموال قامت كازاخستان على وجه السرعة بتشكيل لجنة خاصة تتولى استرداد رأس المال من الخارج وتشديد التدابير اللازمة لمواجهة تسرب الأموال من البلاد. وشرع أعضاء اللجنة على الفور في الاضطلاع وبنشاط كبير بالمهمة الموكلة إليهم. وفي غضون 6 أشهر لا أكثر من عام 2022، وفقا للبيانات الرسمية، استردت كازاخستان ما يقرب من 1.5 مليار دولار، كما استعادت 398 ألف هكتار من الأراضي تزيد قيمتها عن 15 مليون دولار، بالإضافة إلى ما يزيد على 600 من طرق السكك الحديدية التي تخدم المؤسسات الانتاجية، مما أتاح تخفيض التعريفة.
ومن المخطط أن تستخدم الأصول المستردة بشكل عام في كازاخستان في تمويل المشروعات التي تهدف إلى تحسين مستوى معيشة المواطنين. ويجري الآن حوار مجتمعي نشط بشأن طرق ومجالات إنفاق هذه الأموال.
في نفس الوقت تقع لجنة استرداد الأموال المسربة بشكل غير قانوني الآن في بؤرة مواجهة دولية من أجل أصل مهم آخر من الأصول، وهو موارد بنك “جوسان” الكازاخستاني، وهو بنك من الدرجة الثانية، حيث يحاول المساهمون بالبنك وإدارته السابقة إدراج موارده ضمن الحقوق الأجنبية. المفارقة أن هذا البنك لم يكن ليواصل وجوده حتى وقتنا هذا لولا الدعم المالي الذي تقدمه الدولة والذي يبلغ ملايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب الكازاخستانيون.
وقدمت السلطات الكازاخستانية في السنوات الأخيرة دعما دوريا للمؤسسات المالية الضعيفة، بما في ذلك بنك “جوسان”، وذلك إدراكا منها أن إفلاس البنوك يمكن أن يؤدي إلى توترات اجتماعية، فمنذ عام 2017 أنفقت الدولة ما يزيد على 11.5 مليار دولار لدعم البنوك الكازاخستانية من الدرجة الثانية، حيث حصل بنك “جوسان” تحديدا على أكثر من 3 مليارات دولار من هذا الدعم، ولعل هذا هو ما جعل السلطات الكازاخستانية تتمسك بالتنازع من أجل أصول هذا البنك.
وهذا البنك ليست سوى حلقة واحدة من حملة كبيرة لاسترداد الأموال، وهي الحملة التي تعتزم السلطات الكازاخستانية مواصلتها. فلطالما قوض الفساد والظلم الاجتماعي الأسس الديمقراطية في البلاد، ودمر ثقة المجتمع في المؤسسات، وخلق عدم تكافؤ في بيئة الأعمال، وأدى إلى مشاكل اقتصادية.
وتعول السلطات الكازاخستانية على أن استرداد هذه الأموال المسربة إلى الخارج بشكل غير قانوني، ومكافحة الفساد على جميع المستويات جدير بأن يتيح للبلاد تحسين صورتها الدولية، وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي.
ويعد كل هذا تبعات طبيعية للتحولات من هذا النوع، ولكن من المهم هنا أن ندرك أن هذه القصة في النهاية لا تتعلق بالمال فحسب، بل ربما لا تمت للمال بصلة، وإنما كفاح الرئيس قاسم جومارت توقايف من أجل استرداد ثروات البلاد المنهوبة هو مظهر من مظاهر الإرادة السياسية الشجاعة وإشارة جادة، للخارج والداخل، حيث تظهر كازاخستان لشركائها الدوليين أنها ملتزمة فعلا بمكافحة الفساد والانفتاح والشفافية.
ومثل هذا النموذج في إدارة الدولة يعد بالنسبة لكازاخستان ظاهرة غير عادية بالمرة، فلم يكن هذا معهودا من قبل. فكازاخستان تطرح نموذجا مهما وجريئًا يُحتذى. وربما على أساس هذا النموذج سيتم وضع حجر الأساس لدولة جديدة بالفعل، دولة تنعم بالازدهار.