هند خليل كلفت
لم يكن أصل العائلة يدور، بطبيعة الحال، حول ظهور الطبقات والدولة فحسب. لقد كان أيضا حول أصل اضطهاد النساء. وتتمثل وجهة نظر رئيسية فى أن النساء لم يَكُنَّ خاضعات للرجال حتى ظهور الطبقات، وأن “أول تناحر طبقىّ ظهر فى التاريخ يتزامن مع تطور التناحر بين الرجل والمرأة فى الزواج الأحادىّ، وأن أول اضطهاد طبقىّ يتزامن مع اضطهاد نوع الذكر لنوع الأنثى”(1).
ولا شك فى أن إنجلس كان محقا فى هذا. والأدلة التى جمعتْها إليانور ليكوك وآخرون بكل تدقيق تؤكد أنه لم تكن هناك سيطرة للرجال على النساء بين المستوطنين الأوروپيِّين الصيادين-الجامعين الرُّحَّل الذين نلقاهم فى القرون من السابع عشر إلى التاسع عشر(2). وكان هناك تقسيم عمل بين الرجال والنساء، حيث كان الرجال يقومون بمعظم الصيد والنساء بمعظم الجمع. غير أنه ما دام الجمع يُنْتِج فى العادة من الوجبة الوسطية أكثر من الصيد، فإن هذا لم يؤدِّ بالضرورة أىِّ تقييم للرجال وعملهم أعلى من النساء وعملهنّ. وتوافق عالمة الأنثروپولوچيا إيرنستاين فريدل Ernestine Friedl على أن الرجال، فى مجتمعات قليلة، على سبيل المثال بين السكان الأستراليِّين الأصليِّين، حيث كان اللحم هو المكوِّن الرئيسىّ للوجبة، كانوا يتمتعون بمكانة أعلى من النساء(3). غير أنها تصرّ على أن:
القرارات الفردية ممكنة لكل من الرجال والنساء فيما يتعلق بحياتهم اليومية المعتادة … والرجال والنساء على السواء أحرار فى أنْ يقرِّرُوا كيف سيقضون كل يوم: ما إذا كانوا سيذهبون للصيد أو الجمع ومع مَنْ …
وهى تشير إلى أنه عندما ينتهى الأمر، على سبيل المثال، إلى مناقشة ما إذا كان ينبغى نقل المخيَّم إلى منطقة جديدة، فإن النساء والرجال يشاركون على السواء(4). وما تزال النساء يمارسن سلطات هائلة على مسئوليتهنّ. وهكذا، على سبيل المثال، فإنه بين السكان الأستراليِّين الأصليِّين، “تمارس النساء الأكبر سنًّا نفوذا على مهامهنّ الزوجية، وعلى المهام الخاصة بأبنائهنّ وبناتهنّ”، وفى كثير من الأحيان تكون للنساء المتزوجات علاقات غرامية مع شبان غير متزوجين – هذا الوضع للأمور الذى يُعَدّ لعنة وفقا لقواعد السلوك الجنسىّ فى تقريبا كل المجتمعات الطبقية(5).
بل يذهب الأنثروپولوچيون من مدرسة إليانور ليكوك إلى أبعد من هذا. فهم يقلِّلُون من شأن الأدلة التى تقبلها لتأكيد أن الرجال كانوا دائما أعلى مكانة من النساء، مؤكدين أن هذا يعكس ببساطة الأحكام المسبقة للمراقبين الغربيِّين الذين قاموا بجمعها(6).
كذلك فإن أفكار المجتمع الطبقىّ عن “مكانة النساء” غائبة فى مجتمعات تقوم على البستنة. وتوجد فى بعض فى الأحيان البداية لهيراركية تمنح الرجال مركزا أعلى من النساء، تماما كما يمكن أنْ توجد البداية لهيراركية بين البَدَنات والأُسَر الحيازية. فقد تكون للرجال (أو على الأقل، بعض الرجال) سلطة لاتخاذ القرارات أكبر من النساء. غير أنه لا يوجد مع ذلك أىّ اضطهاد منهجىّ للنساء. ذلك أن النساء يحتفظن بمجالاتهنّ الخاصة لاتخاذ القرارات، ويمكن أنْ يقاومن القرارات التى يتخذها أقرانهنّ.
وتوجد عادةً أبنية تقيِّد مَنْ يمكن أنْ يتزوجهم الأشخاص، وتقوم المدرسة البنيوية القوية النفوذ للأنثروپولوچيا، التى تستلهم كلود ليڤ————–ى ستروس Claude Levi Strauss، بتفسير هذا على أنه يعنى أن النساء تجرى معاملتهنّ ببساطة كموضوعات للتفاوض بين الرجال. غير أنه، كما شدد كلٌّ من كارين ساكس Caren Sachs، و كريستين جيلى، و إيرنستاين فريدل، وآخرون، لا يكون الرجال بوصفهم كذلك هم الذين يحددون مَنْ هم المسموح للأشخاص بالزواج منهم، بل بَدَنات “العشائر المشتركة”. وفى العادة تكون للنساء المسنات وكذلك للرجال المسنين كلمة فى هذه القرارات.
ومن الجلىّ تماما أن هذا هو الحال فى مجتمعات يصفها الأنثروپولوچيون على أنها matrilineal (مرتبطة بخط الأصل الأمومىّ) و matrilocal (مرتبطة بالإقامة عند أهل الزوجة). وفى مجتمعات الخط الأمومىّ يجرى تتبُّع الأصل على خط الأنثى: لا تكون أهم روابط شخص ما مع أبيه (الذى ينتمى إلى بَدَنة مختلفة)، بل إلى أمه وأخى أمه؛ وبنفس الطريقة، لا تكون المسئولية الرئيسية لرجل إزاء أطفاله البيولوچيِّين بل إزاء أطفال أخته. وفى مجتمعات الإقامة عند أهل الزوجة لا يدير رجل أسرته هو، بل ينتقل إلى أسرة أخرى تديرها زوجته، وأخواتها، وأمها.
وحيثما يكون المجتمع منظما على خط الأصل الأمومىّ وعلى الإقامة عند أهل الزوجة فى آنٍ معا، يمارس الرجال سلطة ضئيلة جدا فى الأُسَر الحيازية التى يعيشون فيها بالفعل. أما حقوق رجلٍ ومسئولياته فإنها تكون دائما مع أسرة حيازية أخرى، هى جزء من بَدَنة أخرى – بَدَنة زوجته، وأختها، وأطفالها. وهناك يمكنهم أنْ يمارسوا سلطة ما – وهذا هو السبب فى أن هذه المجتمعات ليست “أموميات”، مجتمعات تحكمها الأمهات. غير أن غيابها عن تلك الأسرة الحيازية يعنى بالضرورة أنها سلطة محدودة، وليست أكبر من سلطة النساء.
ومما له دلالته أن المدرسة البنيوية، بإصرارها على أن النساء هن فى كل مكان موضوع ترتيبات بين الذكور، قلما تشير إلى مثل هذه الحالات(7).
وليست كل مجتمعات خط الأصل الأمومىّ مجتمعات إقامة عند أهل الزوجة. وعلى سبيل المثال فإنه بين الأوهافيا Ohaffia، وهم شعب من شعوب الإيبو Ibo فى شرق نيچيريا، يتمّ تتبُّع الأصل على أساس الخط الأمومىّ غير أن الإقامة تكون مع أقارب الزوج. غير أنه حتى هنا لا تكون النساء خاضعات للأزواج(8). وفى هذا المجتمع، “يكون الطلاق ممنوحا بمجرد رغبة أىٍّ من الزوجين”، و”الابنات يُقَدَّرْنَ عاليا”، و”علاقة … الزوج والزوجة … تبدو علاقة احترام متبادَل وتوافق بينهما”(9).
وأخيرا توجد مجتمعات بستنة يكون فيها النَّسَب عبر خط الذكور وتكون الإقامة بعد الزواج مع عائلة الزوج. غير أنه حتى هنا يكون للنساء مع هذا نفوذ أكبر كثيرا مما هو عادىّ فى المجتمعات الطبقية. ويُمارَس هذا النفوذ عبر البَدَنات. ولا تكون امرأة مجرد زوجة، تابعة فى أسرة حيازية و بَدَنة غريبتين. فهى أيضا أخت، واحدة ذات نفوذ فى اتخاذ القرارات الخاصة ببَدَنتها هى. وسيرغب أقارب زوجها فى الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع تلك البَدَنة. ويعطى مركزها لأقارب زوجها (بما فى ذلك أمه وأخواته) بعض السيطرة على إنتاجيتها. غير أن مركزها كأخت يعطيها بدوره بعض الحق على محصول إخوتها وزوجاتهم. وفى أثناء حياتها، ستنتقل من أنْ يُنْظَر إليها بصفة رئيسية على أنها تابعة، باعتبارها “زوجة”، إلى أنْ يُنْظَر إليها بصفة رئيسية على أنها “أخت” و”أم”. وهى باعتبارها كذلك “مُوَجِّهة” ل “العمل ووسائل الإنتاج”(10).
وليس هذا عالم عائلات نووية منعزلة تكون المرأة فيها موضوعا لنزوات شريك حياتها. كما أنه ليس عالم أُسَر حيازية پطريركية يحدد فيها الآباء القانون للزوجات، والأطفال، والخدم. إنه عالم يكون فيه كل فرد، ذكرا كان أم أنثى، مقيَّدا داخل شبكة من الحقوق والمسئوليات المتبادلة تختلف من مرحلة فى الحياة إلى أخرى، حيث تقوم بتعيين حدود حرية الناس من نواح شتى، ولكنْ تاركة لهم مع ذلك استقلالا ذاتيا أكثر بوجه عام مما فى المجتمعات الطبقية(11).
وينظر الأنثروپولوچيون البنيويون إلى انتقال المرأة من أسرة حيازية (أسرة أبيها)، إلى أسرة حيازية أخرى (أسرة زوجها) على أنه “تبادل” للنساء بين الرجال. غير أن المرأة لا تنتقل بين رجال، بل بين بَدَنتين، تشتمل كل واحدة منهما على نساء أخريات. ويتمثل مركزها فى أنه يُنظر إليها على أنها خسارة لأسرة حيازية ومكسب لأخرى. وفى كثير من الأحيان كان على أب الزوج أنْ يُسَلِّم سلعًا لأسرة أبويْها الحيازية (ما يسميه الأوروپيون bride-price = المَهْر [وحرفيا: “ثمن العروس”]) لتعويضها عن خسارتها، وهو موقف يختلف بصورة ملحوظة عنه فى مجتمعات تنتقص من قيمة النساء، حيث يكون على عائلات النساء أنْ تدفع دوطة للتخلص منها. وفى الزواج، يمكن أن تكسب المرأة ذاتها “زيادة فى المكانة والاستقلال الفرديَّيْن”، كما تخبرنا جيلى عن تونجاTonga(12).
ويخلط البنيويون الالتزامات المتبادلة التى تربط مختلف البَدَنات ببعضها البعض فى المجتمعات قبل-الطبقية مع التبادل التجارىّ، وبالتالى موقفا فيه “تنتقل النساء إلى الوراء وإلى الأمام كشخصيات ذات قيمة، عاملات بنشاط داخل – ومؤثرات فى – شبكات العلاقات التى تخلقها انتقالاتهنّ” مع الهبوط بهنّ إلى سلع حقيقية(13).
ويصير الخلط أسهل باندماج اقتصادات تقريبا كل زارعى البساتين الباقين فى الاقتصاد العالمىّ باستخدام المال. والواقع أن حاجة الناس إلى المال للإنفاق على سلع السوق تؤدِّى بهم إلى النظر إلى العلاقات القديمة ذات الالتزامات المتبادلة بطريقة جديدة، كوسيلة لتحقيق النقود. وفى العادة يكون الذكور هم الذين يرتبطون بصورة مباشرة بالسوق خارج القرية ويميل هذا إلى منحهم قوة ومكانة لم يعتادوا مطلقا على أنْ تكونا لهم. ويجعل الاتصال بالعالم الرأسمالىّ مجتمعات البستنة تحاكى علاقاته الاجتماعية – وعندئذ يزعم الأنثروپولوچيون الغربيون أن هذا يبرهن أن تلك العلاقات الاجتماعية النموذجية للرأسمالية شاملة لكل المجتمعات.
وعلى كل تحليل علمىّ للمجتمعات الزراعية المبكرة أنْ يُزِيل مثل هذه التشويهات.
ويمكن ألا نعرف أبدا ما إذا كان أصل الخط الأمومى شاملا ذات يوم، كما تشير إليانور ليكوك، لأننا لا نملك أىّ طريقة لندرس بالتفصيل مجتمعات سابقة على معرفة القراءة والكتابة قبل تأثير الاقتصاد الرأسمالىّ. ولكن ما يمكن أنْ نقوله مع ذلك هو أنه لم يكن هناك وجود لأىّ تجربة شاملة لاضطهاد الأنثى وأنه لم يصبح مظهرا منهجيا للمجتمع إلا مع الانقسام إلى طبقات ونشأة الدولة. وفيما يتعلق بهذا كان إنجلس مصيبا 100 فى المائة.
أخطاء ثانوية
غير أن إنجلس كان مخطئا إلى أبعد حد بشأن مسألتين ثانويتين أخذهما هو نفسه بجدية إلى حد أنه جعل أصل العائلة عملا مضلِّلا إنْ لم يُقرأ قراءة نقدية.
فقد أخذ عن مورجان الرأى القائل بأن تصنيفات الأقارب الموجودة فى مجتمعات البَدَنات (حيث، على سبيل المثال، تسمَّى كل امرأة فى البَدَنة من نفس جيلك “أختا”، وكل رجل من جيل والديك “عمًّا/خالا”، وهكذا إلخ.) ترجع إلى شكل سابق، مختلف تماما للتنظيم الاجتماعىّ(14). وقد تمثل نظام تصنيف الأقارب، فيما اعتقد إنجلس، فى “أحفور اجتماعىّ” يمكِّننا من فكّ شفرة تاريخ العائلة. كما أخذ عن مورجان الاستنتاج القائل بأن هذه “الأحفورات” أثبتت أنه كانت توجد مرحلة “زواج جماعىّ”، عندما كانت مجموعة من الإخوة يتزوجون من مجموعة من الأخوات(15). وأكد أن هذه كانت “سمة مميِّزة للوحشية”، على حين أن “عائلة التزاوج” pairing family، كانت السمة المميِّزة للبربرية(16).
والواقع ، كما سبق أنْ رأينا، أن الصيد والجمع المتنقلين (“الوحشية” savagery) لا يتميَّز ببَدَنات قوية وناهيك بالزواج الجماعىّ بل يتميَّز بالتنظيم المرن للأزواج وأطفالهم فى زُمَر(17). ونظر إنجلس إلى منظمات البَدَنة على أنها بقايا من زمن كانت فيه للعلاقات الجنسية “سمة غابية، بدائية، ساذجة”(18). والواقع أن آليات معقدة كانت هى التى تنسق المجتمع بمجرد أنْ سمحتْ الزراعة المبكرة بتكوين القرى من مئات من السكان – وكانت فى الواقع تعبيرا عن تطور قوى الإنتاج، وليست أثرا باقيا من “علاقات الإنتاج” القديمة. وكان إنجلس مخطئا، ليس لأن منهجيته الماركسية الأساسية كانت خاطئة، بل لأنه لم يطبقها بصورة متماسكة بالقدر الكافى.
وكان مخطئا أيضا لأنه حاول أنْ يفكّ شفرة حتى شكل أسبق من العائلة، هى تلك التى يشير إليها بأنها الجماع المختلط البدائىّ [دون تمييز] “primitive promiscuity”. وزعم أن مرحلة كهذه لا بد أن تكون قد وُجدتْ فيما كانت القِرَدة العليا الأسلاف تتحول إلى بشر، لأنها وحدها كان بمستطاعها أنْ تمنع “الذكور الغيورين” من تعطيل كل المحاولات الرامية إلى التعاون المطلوب لمواجهة الطبيعة. غير أن منطقه ينهار فقط بعد صفحة واحدة أو نحو ذلك، عندما يعلِّق، “الغيرة عاطفة ناشئة عن تطور متأخر نسبيا” – وهذا استنتاج تشير الأبحاث عن الغوريلا والشيمپانزى، كما سبق أنْ رأينا، إلى أنه صحيح(19). كذلك فإن تصوره عما كان يعنيه ب “الجماع المختلط البدائىّ” غير واضح بحال من الأحوال، إذْ إنه يشير عند نقطة ما إلى أن كان أكثر قليلا مما نسميه اليوم “الزواج الأحادىّ المتسلسل” serial monogamy، القائم على “تزاوجات منفصلة لوقت محدود”(21).
والواقع أن إنجلس يرتكب هنا خطأ الوقوع فى التخمين الأعمى بشأن فترة طويلة للغاية (أكثر من 3 ملايين سنة) وهى فترة لا يعرف هو ولا نعرف نحن بشأنها أىّ شيء على وجه اليقين. فنحن لا نعرف ما إذا كانت القِرَدة العليا الأسلاف منظَّمة فى مجموعات متمحورة حول الذكور مثل قرود الشيمپانزى العادية أم فى مجموعات متمحورة حول الإناث مثل أقزام الشيمپانزى، ولا شك فى أننا لا نعرف كيف نشأ شكل التنظيم المميِّز للصيادين الجامعين المتنقلين الحديثين. ومن الأفضل أنْ نتمسك بما نعرفه بالفعل – وهو أن العلاقات بين النساء والرجال بين الصيادين-الجامعين الباقين، كانت مختلفة عن تلك التى تُعتبر أمرا مفروغا منه فى المجتمعات الطبقية والتى تتجسد فى معظم مفاهيم الطبيعة البشرية(22).
وهناك خطأ آخر لم يقع فيه إنجلس نفسه بالفعل، ولكنْ يَعزوه إليه كلٌّ من الأنصار والخصوم فى كثير من الأحيان. ويصدق هذا على استعمال لفظة “أمومية” matriarchy بمعنى فترة من حكم الإناث سابقة لفترة سيطرة الذكور. وأولئك الذين يستخدمونها يفترضون مسبقا أنه يوجد دائما شيء ما قريب من السيطرة الطبقية والدولة، ولكنْ أنه كان فى وقت ما تحت رعاية النساء وليس الرجال. وقد رفض إنجلس صراحةً أىّ مفهوم من هذا القبيل. وقد أخذ تعبير “حق الأم” عن الكاتب الألمانىّ باخوفين Bachofen لوصف حساب الأصل على أساس خط الأنثى الذى كان، فيما اعتقد، شاملا فى مرحلة ما. غير أنه أضاف “وأنا أحتفظ بهذا التعبير فى سبيل الإيجاز. على أنه اختيار غير ملائم، لأنه فى هذه المرحلة الاجتماعية لم يكن هناك أىّ شيء من قبيل حق بالمعنى القانونىّ”(23). ولا شك فى أن السمة المميِّزة لكل من مجتمعات الصيادين-الجامعين والمجتمعات الزراعية المبكرة كانت تتمثل فى تشارك النساء والرجال على السواء فى اتخاذ القرارات، وليس فى استبعاد أحد الطرفين للآخر.
زيارة جديدة لمناقشة إنجلس
يكون إنجلس فى أفضل حالاته عندما يصف نشأة اضطهاد النساء، “الهزيمة التاريخية العالمية لجنس الأنثى”، كما يعبِّر هو، وهو يربطه بنشأة المجتمع الطبقىّ. غير أن مناقشته تضطرب أحيانا عندما يحاول توضيح الآليات الماثلة وراء هذه الهزيمة. وهو لا يبيِّن لماذا كان الرجال بالضرورة هم الذين يسيطرون فى المجتمع الطبقىّ الجديد. ويقول إن الرجال انتهوا إلى إنتاج كلٍّ من الطعام وأدوات الإنتاج، وإن هذا منحهم بالضرورة حقوق الملكية والسيطرة على الفائض(24)، وإنهم أرادوا أنْ ينقلوا الملكية إلى أبنائهم، وليس إلى أقارب زوجاتهم. غير أنه لا يوضِّح لماذا كان ينبغى أنْ يشعروا فجأة بهذه الرغبة بعد آلاف من السنين كانت أوثق ارتباطاتهم فيها مع أطفال أخواتهم(25). وقد جرى القيام بنوعين من المحاولات لملء الفجوة فى هذه المناقشة.
هناك أولا تفسير أولئك الذين مثل إليانور ليكوك و كريستين جيلى اللتين شددتا على تأثير نشأة الدولة فى سحق البَدَنات القديمة التى مارستْ النساء فيها نفوذهن. وتُخْضِع الدولة باقى المجتمع للطبقة الحاكمة الناشئة الجديدة. غير أن ذلك يعنى تدمير “السلطة والاستقلال النسبيين” لمجتمعات القرابة القديمة. وبقدر ما تبقى [هذه المجتمعات] على قيد الحياة، فإنها تكون بمثابة أحزمة نقل من أجل فرض مطالب الدولة والطبقة الحاكمة على جماهير الناس. وينطوى هذا على اتخاذ ليس فقط القرارات الإنتاجية بل أيضا القرارات الإنجابية بعيدا عن أعضاء هذه المشاعات. والنساء، لكونهن المنجبات البيولوچيات، يخسرن(26).
غير أن هذا التفسير، فى حد ذاته، لا يوضح بأىّ صورة أفضل من تفسير إنجلس لماذا كان لا ينبغى أنْ يكون للنساء نصيب مساوٍ من السلطة والنفوذ مع الرجال فى الطبقة الحاكمة الجديدة والدولة – ولا لماذا كان لا بد أيضا من أنْ يجرى فى العادة الهبوط بالنساء إلى دور ثانوىّ بين الطبقة المستغَلة. وهو يشرح انهيار النظام القديم ولكنْ ليس هيراركية النوعين (الذكر والأنثى) التى توجد فى النظام الجديد.
ويشدد تفسير بديل، عبَّر عنه بطريقتين مختلفتين جوردون تشايلد، و إيرنستاين فريدل، على الدور الإنتاجىّ للنساء والدور الذى تلعبه البيولوچيا فى مراحل مختلفة فى التطور التاريخىّ.
ويوضح تشايلد أنه فى العصر الحجرىّ الحديث المبكر لعبتْ النساء دورا رئيسيا فى الإنتاج. وكان هناك تقسيم للعمل، كان الرجال فى إطاره يرعون الأسراب والقطعان. غير أن مفتاح فهم ثورة العصر الحجرىّ الحديث كان يتمثل ، كما أكد، فى:
اكتشاف نباتات مناسبة وطرق ملائمة لزراعتها، وابتكار أدوات خاصة لفلاحة التربة، وحصد وتخزين المحاصيل وتحويلها إلى طعام … وكانت كل هذه الاختراعات والاكتشافات، كما تؤكد الأدلة الإثنوجرافية، من عمل النساء. وإلى هذا النوع [النساء] أيضا قد تُعْزَى كيمياء صناعة القدور، وفيزياء الغزْل، وميكانيكا أنوال النسيج، علم نبات الكتان والقطن(27).
و، “بسبب دور إسهامات النساء فى الاقتصاد الجماعىّ، كان من الطبيعىّ أنْ تُحْسَب القرابة على أساس خط الأنثى وأنْ يسود نظام ‘حق الأم’”(28).
على أن كل هذا تغيَّر بمجرد أنْ حلّ المحراث محلّ المعزقة وعصا الحفر بوصفه الأداة الزراعية الرئيسية. وكانت تربية الماشية بالفعل مجالا للذكور، وحوَّل المحراث الزراعة الحقلية إلى مجال لهم أيضا، هابطا بحدَّة بمكانة النساء فى الإنتاج:
المحراث … خلَّص النساء من الكدح الأكثر إرهاقا غير أنه حرمهن من احتكارهن الخاص بالحبوب الغذائية والمكانة الاجتماعية التى كان يمنحه ذلك لهن. وبين البربريِّين فيما كانت النساء يعزقن عادةً قِطَع الأرض، كان الرجال هم الذين يحرثون. وحتى فى أقدم الوثائق السومرية والمصرية كان الحراثون بالفعل من الذكور(29).
وتؤكد إيرنستاين فريدل أن المركز النسبىّ للرجال والنساء فى مجتمعات البستنة يعتمد على إسهامهم فى الإنتاج. وهناك، على سبيل المثال، بعض مجتمعات البستنة التى تنتج النساء فيها المحاصيل الرئيسية ويكون الرجال فيها هم الذين يقومون بالتبادل، ومجتمعات أخرى ينتج فيها الرجال المحاصيل الرئيسية والنساء هن اللائى يقمن بالتبادل(30). والمجتمعات من النوع الأول هى التى يكون فيها للرجال المركز الأعلى. و”سيادة سيطرة الذكور نتيجة منطقية للتواتر الذى يمتلك به الرجال حقوقا أكبر من النساء فى توزيع السلع خارج الجماعة المحلية”(31).
وتشير فريدل إلى أن بعض الأنشطة تميل فى معظم المجتمعات إلى أنْ يقوم بها الرجال أكثر من النساء. وفى بعض مجتمعات الصيادين-الجامعين تقوم النساء بالصيد بالفعل، غير أنهن “يُمنعن من الصيد فى المراحل الأخيرة للحمل … [و] بعد الولادة نتيجة عبء نقل الطفل”(32). وفى المجتمعات الزراعية المبكرة، يمكن قيام أىٍّ من النوعين بالحِرَف، غير أن “العمل الذهنىّ يكون بالكامل تقريبا مهارة للرجل”(33). وفى معظم المجتمعات – ولكنْ ليس فيها كلها – يكون الرجال وحدهم هم المحاربين.
ويشكِّل تفاعل بين الضرورات البيولوچية والحاجات الاجتماعية أساس مثل هذه التغيرات فى تقسيم العمل. وعلى النوع البشرىّ أنْ يعيد إنتاج نفسه إذا كان لأىّ مجتمع أنْ يواصل البقاء. غير أن حجم إعادة الإنتاج (الإنجاب) – عدد الأطفال المطلوبين من كل امرأة بالغة – يختلف اختلافا هائلا. وفى مجتمع صيادين-جامعين متنقل، كما سبق أنْ رأينا، توجد مكافأة على المباعدة بين الأطفال بحيث لا تكون أىّ امرأة مسئولة عن أكثر من طفل واحد فى المرة الواحدة. وعلى النقيض، من المحتمل أنْ يكون أىّ طفل، فى المجتمعات الزراعية، مزارعا إضافيا، وهناك حاجة إلى التعويض عن معدل وفيات أعلى، نتيجة لتعرُّض أكبر للأمراض المعدية، وويلات الحروب التى لا نهاية لها(34). وهكذا فكلما كان معدل الإنجاب أعلى كان من المحتمل أنْ يكون ذلك المجتمع أنجح. ويكون هذا فى مصلحة المجتمع بأكمله (بما فى ذلك مصلحة نسائه) لكى لا تشترك النساء فى أنشطة (مثل المجهود الحربىّ وسَفَر المسافات الطويلة، والمهام الزراعية الثقيلة) تعرِّضهن لأشد مخاطر الموت، أو العقم، أو الإجهاض – أو تعرِّض للأخطار الأطفال الذين يعتمدون فى طعامهم على لبن أمهاتهم.
ويوضح هذا السبب وراء أن النساء يقمن فى كثير من الأحيان بمعظم إنتاج الطعام فى مجتمعات تعتمد على المعزقة وعصا الحفر، ولكنْ ليس فى المجتمعات التى تعتمد على المحراث أو تربية قطعان الماشية. وقد تشتمل المجموعة الأولى من الأنشطة على عمل بدنىّ شاقّ ومرهق، غير أن من غير المحتمل أنْ تؤثر على معدل الإنجاب بصورة غير ملائمة بالطريقة التى تؤثر بها المجموعة الثانية. ونساء مثل هذا المجتمع لهن قيمة للقرية، أو البَدَنة، أو الأسرة الحيازية فيما يتعلق بإعادة الإنتاج المادية أكثر من الرجال – ولهذا يجرى الاحتفاظ بهن بعيدا عن الأنشطة التى قد تهددهن، أو تهدد قدرتهن الإنجابية على الأقل، بالخطر.
وتتمثل النتيجة فى أن النساء أساسيات للإنتاج، وكذلك للإنجاب، فى مجتمعات الصيد-والجمع والمجتمعات الزراعية المبكرة. غير أنه يجرى استبعادهن من أنواع الإنتاج التى تنتج الفائض الأكبر مع ظهور الزراعة الثقيلة، والثورة الحضرية، والانتقال من المجتمع “المشاعىّ” أو مجتمع “مشترك القرابة” kin corporate إلى المجتمع القبلىّ.
غير أن تفسيرا من حيث المحراث وتربية الماشية ليس كافيا، إذْ إن الطبقات نشأتْ فى العالم الجديد قبل أن يقود الفتح الأوروپىّ إلى إدخال المحراث بألفية ونصف(35). غير أنه كان هناك تحوُّل إلى نوع مختلف من الزراعة الثقيلة مع الاستخدام الأول لأعمال الرىّ المحلية. وكان هناك نمو لأنشطة أخرى كانت النساء مستبعدات منها عادة بسبب دورهن الإنجابىّ – تجارة المسافات البعيدة والمجهود الحربىّ. وقد زادت كل هذه الأنشطة الفائض المتاح لمجتمع محدَّد. وكانت كلها تميل إلى أنْ يؤديها رجال وليس نساء. وكانت كلها تشجع تحوُّل المجموعات المحترمة للغاية من الناس إلى طبقات مسيطرة.
ومعظم الرجال الذين أنجزوا عبء هذه الأنشطة الإنتاجية الجديدة لم يصيروا جزءا من الطبقة السائدة. ومعظم الحراثين لم يصيروا أمراء ومعظم الجنود لم يصيروا أمراء حرب، كما أن هؤلاء وأولئك لم يشكِّلوا الكهنة الذين انتهوا فى كثير من الأحيان إلى تكوين الطبقة الاجتماعية الأولى والذين لم ينخرطوا مطلقا فى عمل ثقيل من أىّ نوع. غير أن الأشكال الجديدة للإنتاج ساعدتْ على انهيار القرابة القديمة القائمة على الأشكال المشاعية للتنظيم، العنصر الأساسىّ فى تفسير جيلى و ليكوك.
وطالما كانت النساء يقمن بالكثير من الإنتاج الغذائىّ كان من المعقول فى نظر الجميع أنْ تكون الأرض ووسائل الإنتاج الأخرى تحت سيطرة البَدَنات التى كانت تديرها من خلال خط الإناث. وقد ضمن هذا استمرار الفلاحة عبر الأجيال. وكان بوسع امرأة وأخواتها وأزواجهن أنْ يتطلعوا إلى قيام بناتهم بزراعة أرض البَدَنة وأنْ يقمن بإعالتهم عندما يتقدم بهم العمر. وكان واقع أن الأرض لا تنتقل إلى الابن غير مهم لأىٍّ من الأم أو الأب، ما دام لن يكون مسئولا عن العبء الرئيسىّ للإنتاج الغذائىّ.
غير أنه بمجرد أنْ صار المنتجون الرئيسيون للغذاء هم الرجال، تغيَّر الحال. فقد صار الزوجان معتمدين على إنتاج الجيل التالى من الذكور لرعايتهما عندما لا يعودان قادرين جسمانيا على إعالة نفسهما بصورة كاملة. وانتهى بقاء أىّ أسرة محددة على قيد الحياة إلى أنْ يعتمد أكثر كثيرا على الصلة بين الذكور من جيل والذكور من الجيل التالى وليس بين الإناث. وكان الاعتماد على أبناء أخوات الأب، الذين يمكن أنْ يعملوا هم أنفسهم على أرض تسيطر عليها بَدَنات قرابة أخرى (بَدَنات الزوجات) أقل جدارة بالثقة كثيرا من محاولة الاحتفاظ بأبناء الزوجين مرتبطين بأسرة الوالديْن. وبدأ الخط الأبوىّ والإقامة عند أهل الأب يتلاءمان مع منطق الإنتاج أكثر كثيرا من الخط الأمومىّ والإقامة عند أهل الأم.
وشجَّع إحلال الفلاحة المستمرة محل الزراعة المتنقلة (أو القطع والحرق) لنفس الأرض هذا التطور. فقد جعل ذلك من الضرورىّ إدخال تدابير لتحسين الأرض على مدى أكثر من جيل، تدابير كان من شأنها أنْ يقوم بها الرجال بصفة رئيسية ولهذا كان من شأنها أنْ يشجعها التشديد على علاقات بين أجيال متعاقبة من الزارعين الذكور، المرتبطين بنفس قطعة الأرض.
وأخيرا، شجَّع ظهور الطبقات والدولة على حساب البَدَنات على سيطرة الذكور بين الطبقات السفلى بمجرد أن صار الرجال المنتجين الرئيسيِّين للفائض. وإنما عليهم كانت السلطات الناشئة حديثا ستضع المسئولية عن تسليم جزء من المحصول. وكان عليهم أنْ يفرضوا هذه المطالب على وحدة الأسرة الحيازية ككل، بادئين إدارة عملها والسيطرة على استهلاكها.
كريس هارمان
ترجمة: هند خليل كلفت
(الفصل الثالث من كتاب “إنجلس وأصل المجتمع البشرى”:
يصدر قريبا عن المركز القومى للترجمة، بالقاهرة)
– الحوار المتمدن