الحدث – القاهرة
يفرّق أفلاطون داخل كهفه “أسطورة الكهف” بين نمطين من إدراك البشر للوجود أحدهما يسميه بالحقيقة والأخرى يسميه بالزيف، يرغب أفلاطون أن يوصلنا إلى نقطة مركزية في محاورته وهي أن الصور المتواجدة في الواقع هي بمثابة شبحٍ لصورة الحقيقة أي أن ما نشاهده هي مجرد نسخة باهتة عن الأصل فليس هناك شبح من دون حقيقة تدعمه، سينتقد الفرنسي جيل دولوز ليخبرنا أننا في الواقع لا نتوافر على حقيقة واحدة بحد ذاتها وما هو موجود مجرد أشباح أو نسخ لواقع ما.
كثيراً ما يكرر معنى التشبيح باعتباره ظاهرة مشخصة تلتصق بأولئك الذين يمارسون أفعالاً خارجة عن القانون لمحاسبة أولئك الذين يخرجون على هرم السلطة. إن تتبعاً تاريخياً لظاهرة التشبيح سيصطدمنا بالفيلسوف الإيطالي نيكولا ميكافل ولعله أول من أوّل أو لنقل نبهنا إلى ظاهرة التشبيح واعتبره صنفاً رديئاً من البشر على المستوى الأخلاقي. لكن هناك خصخصة ميكافيللية فيما يتعلق بظاهرة التشبيح حيث يرى أنها مقتصرة على الجنود، من حيث أن كانت أوربا في زمن ميكافل تعتمد على القوات المأجورة وسماها ميكافل بالمرتزقة واعتبر أن من ينشئ دولته على شكل هذه القوات لن ترى الثبات والدوام. إن طرافة ميكافل أنه يحدد لنا و بدقة كينونة التشبيح “المرتزق” فهو يرى أنهم ثلة يعتمد عليهم الحاكم أو المعارضة للإستئثار بالسلطة ولكنهم ضعفاء عند مواجهة الأجنبي وكأن ميكافل يخبرنا أن الشبيح لا يكون ضد العدو الخارجي بل ضد ما يمكن تسميته بالعدو الحميم “الداخلي” وبالعموم فإن الخط الميكافللي يؤدي بنا إلى نتيجة مفادها أن الشبيح “المرتزق” هو من يستعمل ولاءه كبضاع للحاكم الأقوى. إن هذا المصطلح “الولاء” سيظل متخذاً على كامل التاريخ المفسر لظاهرة التشبيح أي القدرة على أن تتعامل مع أنفسنا من دون أي خيار حر، فالشبيح يعلن دائماً تنازله عن ذاتيته، ويبيع ولاءه مقدماً.
لكن مع ميكافل بقي مفهوم التشبيح “الولاء” خطاباً موجهاً نحو الجنود سيغير نيتشه من دعوى هذا المفهوم ليصف به الإنسان الأخير بمعنى أننا مع إنسان نيتشه الأخير إنما نجد إحالة إلى محاكاة ساخرة لمفهوم الشبيح ولسان حال محاكاته هو ادعاءه أن التشبيح ليس حالة محتكرة وخاصة على الجنود أو الفئة العسكرية بل هو وضع أو أزمة تظهر في لحظة معينة من تاريخ شعبٍ ما، وبالأخص تلك الشعوب التي تمر بفتراتها الإنتقالية حيث لا تملك تلك المجتمعات إنتاج قيمها الخاصة أو أدواتها المناعية وتكف عن خلق أنفسها ليبدو التشبيح السلاح الباقي والوحيد لديها هذا يعني أن نيتشه ينقل أزمة التشبيح من المجال العنفي”العسكري” إلى تجربة وجودية عمومية تصاب بها المجتمعات التي تمر بحالة فراغ ذهني معين أو إفلاس بئيس لا تملك فيها حقيقتها حيث يظهر الفكر التشبيحي كفعل مضاد للموت بلا معنى. والسؤال هل هذا يعني أن التشبيح فعلٌ مضادٌ “مقاوم”؟ إن التشبيح كما ذكرنا تجربة أنطولوجية تستعملها المجتمعات التي لم تعد قادرة على اختراع أدواتها الدفاعية الجديدة لكن التشبيح يظل فعلاً سلبياً وبغيضاً أو كما يقول نيتشه موضوع خجلٍ أليم، لكن يبقى آخر استعمالات المقاومة الصفرية وبجملة واحدة فإن الشعوب التي أفلست عن إنشاء ذواتها داخل العالم وتعبيرا عن عجزها المطلق، وهذه الإحساس الطبيعي بالعجز إزاء إصلاح الواقع هو ما يشكل أساس الشعور التراجيدي لدى الشبيح. إن الشبيحة هم أولئك التراجيديون الذي يقولون لا نملك سوى أن نكون كذلك. وإن هذا الضعف الذي ينهش بهم يوقظ في أنفسهم كل المشاعر البدائية الأولية ويضعون ولاءهم داخل نسق إستهلاكي إن الشبيح هو احتقارٌ أنطولوجي لعصرٍ معين يتوجب علينا أن نعيشه وبالأخير فإن الشبيح لا يملك أمام “الآخر الكبير” لإستبقاء نفسه سوى أن يشبّح.
لم يكن من العبث أن نبهنا عالما الإجتماع المعاصرين أوجلان وإدغار موران إلى إختراع آلياتٍ جديدة للمقاومة فأوجلان في نص رسالته وموران في كتاباته يلزموننا بالبحث عن أدوات جديدة للمقاومة، فالمقاومة بالأساليب التقليدية انتهت يجب أن نجهز أنفسنا لنمط آخر من الوسائل الدفاعية وإلا وقعنا في خطر أن نعتمد على أقدرأساليب المقاومة وهي التشبيح، ولكن بالعموم يتوجب علينا التفريق بين الشبيح كفعل المقاومة وبين التشبيح كصيغة مرضية تستهدف القنل العددي لإظهار الغرائز البدائية كلاهما هو إعلان عن الوفاء المحافظ أما الأول فيقوم على الضعف القائم به والآخر يقوم على الإستقالة من الأنثروبولجية وفي كليهما يتنازل الشبيح عن ذاته ويحول نفسه إلى موضوع موجود بقدر وجود السلطة أي أن الشبيح لا يمس نفسه كذات بل كموضوع ينساب في فضاء السلطة.يقترب الإرهابي والشبيح كثيرا من بعضهما كظاهرة عنفية ولكن يفترق الإرهابي عن الشبيح في خيط صامت فالأول يمارس فعلاً تغيرياً هجومياً ولا يقتل بالمجان بل يمارس راديكالية في ظل فاهمة يعتقد أنها على صواب وهو يمارس فعله كجزء من الجموع المنخرطة معه في العملية الأيديولوجية وهو مؤمن وهو لا يضع ولاءه داخل فعلٍ إستهلاكي.
بالعودة إلى كهف أفلاطون فإننا نضطر في الأخير أن نستنتج أن ظاهرة التشبيح ستبقى مادامت هناك سلطة الحقيقة المطلقة تلك السلطة التي يدور حولها التشبيح ليذكرنا دائماً بقوة ذلك المتعالي وجبروته ومن ثم فنكون أمام أكبر أسئلتنا هل التشبيح ظاهرة أنثروبولوجية ستبقى موجودة مادام البشر متواجدين معاً في ظل سلطة معينة.