الحدث – بغداد
بعد وقف إطلاق النار الذي أعلنه ترامب للصراع ما بين إيران وإسرائيل، تصدرت الكثير من التحليلات والتوقعات عند طرفي الصراع في احقية نيل شرف الانتصار على الآخر. فكل طرف راح يعلن النصر الكبير على الآخر. مع العلم أن في هذه الحرب إلى الآن على الأقل ليس هناك “منتصر” و “خاسر”، بكل معنى الكلمة. وعادة في نهاية الحروب لا رابح منها أبداً. حيث تكون كل الأطراف المنخرطة في الحرب هي خاسرة مع اختلاف النسب. وفي دوامة المنتصر والخاسر، تطفو على السطح حالة من اللاحرب واللاسلامفي المنطقة، والتي يمكن اعتبارها أشد وطأة من الحرب ذاتها. حيث حالة اللاحرب واللاسلام، تعتريها حالة من الانتظار واللعب وراء الستار، تكون نتائجها وخيمة على المجتمع. لذلك ينبغي دراسة هذه الحالة بشكل جيد والخروج منها قبل وقوع الكارثة الكبرى والتي لا نفع للندم بعدها.
تعيش منطقة الشرق الأوسط حاليًا وضعًا معقدًا وغير مسبوق يمكن وصفه بـ “لا حرب ولا سلام”. هذا الوضع، الذي يتسم بالهدوء النسبي والتوترات الكامنة، يلوح في الأفق منذ فترة طويلة، خاصة بين أطراف رئيسية مثل إيران وإسرائيل، وكذلك بين تركيا والكردوبعض الدول العربية. إنها حالة من الانتظار الحذر، حيث لا تندلع حروب شاملة، ولكن السلام الحقيقي يبدو بعيد المنال. السؤال المحوري هو: كيف يمكننا أن نكرس الأرضية التي تفتح المجال للتعايش السلمي بين الشعوب، بعيدًا عن مصالح الأنظمة الحاكمة؟
بكل تأكيد يمكن ذلك من حلال دراسة أبعاد حالة “لا حرب ولا سلام”من كافة النواحي. حيث تتعدد أبعاد هذه الحالة وتتداخل، مما يجعلها أكثر تعقيدًا مما نتصور. حيث أن الهدنة الهشة بين القوى الإقليمية هي الطاغية على الساحة. وعلى الرغم من الخطاب العدائي والتنافس على النفوذ، إلا أن هناك نوعًا من الردع المتبادل يمنع التصعيد إلى حرب واسعة النطاق. تسعى كل قوة لتعزيز مصالحها دون تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تفجر صراعًا إقليميًا مدمرًا. كذلك التدخلات الإقليمية بالوكالة التي باتت عنواناً متعارف عليه في الصراعات البينية ما بين القوى الرئيسية المتصارعة. فبدلًا من المواجهات المباشرة، تلجأ الأنظمة إلى دعم أطراف بالوكالة في صراعات إقليمية فرعية، كما هو الحال في اليمن وسوريا ولبنان. هذا يحافظ على حالة “لا حرب” بين القوى الرئيسية، ولكنه يديم الصراع والمعاناة على أرض الواقع. وأيضاً استنزاف الموارد والطاقات بشكل غير مسبوق. حيث تستنزف حالة “لا حرب ولا سلام” موارد وطاقات الشعوب في سباق تسلح لا يتوقف، بدلًا من توجيهها نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية. هذا يؤثر سلبًا على مستويات المعيشة ويغذي حالة من الإحباط العام.وكل هذا يؤدي إلى تفاقم الانقسامات المجتمعية بشكل كبير. إذ،غالبًا ما تستغل الأنظمة حالة التوتر الخارجي لتشديد قبضتها داخليًا، وتغذية الانقسامات الطائفية والسياسية، وتكميم الأفواه المعارضة.
ويمكن توضيح أهم تحديات التوجه نحو التعايش السلمي بكل سلاسة. إن التحدي الأكبر يكمن في تجاوز مصالح الأنظمة الحاكمة التي غالبًا ما تتناقض مع طموحات الشعوب في السلام والاستقرار. هذه الأنظمة، التي تستمد شرعيتها جزئيًا من حالة التوتر أو من إظهار القوة، قد لا تكون مستعدة للتنازل عن نفوذها أو عن رؤاها الضيقة.
وحينما يكون الهدف هو نحو تكريس التعايش السلمي بين الشعوبعلى أساس التعايش السلمي ما بين ثقافات وشعوب المنطقة وفق منطق “الكل مع الكل” ومن أجل الكل، حينها فقط يمكن التحدث عن بناء المجتمع الديمقراطي الذي يحتضن كل الثقافات والمعتقداتويكون منارة يهتدى بها. لا يمكن تحقيق السلام الدائم إلا من خلال مقاربة شاملة تتجاوز الخطاب السياسي وتتغلغل في نسيج المجتمعات، وهذا يتحقق فقط من خلال بناء جسور التواصل الثقافي والشعبي ما بين الكل من دون اقصاء أي شعب أو ثقافة. وهنا يجب تشجيع المبادرات التي تعزز التبادل الثقافي والفني بين شعوب المنطقة. فمن خلال الفهم المتبادل والتعرف على الآخر، يمكن تبديد الصور النمطية السلبية التي تغذي الكراهية. وكذلك دعم منظمات المجتمع المدني، وتشجيع المهتمين بها على افتتاحها، لأنه يمكن أنتلعب منظمات المجتمع المدني دورًا حاسمًا في نشر ثقافة السلام والتسامح، والدفاع عن حقوق الإنسان، وتشجيع الحوار بين مختلف الشرائح المجتمعية. يجب دعم هذه المنظمات وتمكينها من العمل بحرية. وتشجيع التعليم من أجل السلام، حيث يجب أن تتضمن المناهج التعليمية قيم التسامح والتعايش واحترام الاختلاف، وتجنب الخطاب التحريضي أو الذي يمجد العنف. فالأجيال الجديدة هي مفتاح المستقبل السلمي للمنطقة. وأيضاً يمكن أن يمارس الضغط الشعبي من أجل التغيير ضغطًا سلميًا على أنظمتها للمطالبة بتغيير الأولويات من الصراع إلى التنمية، ومن المواجهة إلى الحوار. هذا يتطلب وعيًا شعبيًا متزايدًا بحجم التحديات وضرورة العمل المشترك. والنقطة المهمة الأخرى هي تعزيز دور الدبلوماسية الشعبية. بعيدًا عن الدبلوماسية الرسمية، يمكن للأفراد والمجموعات من مختلف الدول أن يبنوا علاقات تفاهم وتعاون، مما يخلق شبكة من العلاقات الإنسانية التي يمكن أن تشكل أساسًا للسلام المستقبلي. وذلك يكون من خلال التركيز على المصالح المشتركة ما بين الشعوب. حيث هناك العديد من التحديات المشتركة التي تواجه شعوب المنطقة، مثل التغير المناخي، ندرة المياه، البطالة، والأوبئة. يمكن أن تكون معالجة هذه التحديات المشتركة نقطة انطلاق للتعاون وبناء الثقة بين الشعوب.
إن حالة “لا حرب ولا سلام” لن تستمر إلى الأبد. فإما أن تتجه المنطقة نحو سلام حقيقي ودائم، أو أن تنزلق نحو صراع مدمر. إن تكريس الأرضية للتعايش السلمي يتطلب إرادة قوية من الشعوب، وعملًا دؤوبًا على جميع المستويات، لتجاوز مصالح الأنظمة وتطلعاتها الضيقة نحو مستقبل أفضل يسوده السلام والازدهار.وهذا ممكن فقط حينما تتخلى الأنظمة الشمولية عن مشاريعها التوسعية في المنطقة والالتفات نحو متطلبات الشعوب في العيش بحرية وكرامة. وهذا يلزمه ثورة ذهنية بكل معنى الكلمة تقوم بها الأنظمة من خلال دمقرطة ذاتها، وهو ما نعتقده صعب من الناحية العملية. وهنا يأتي دور المثقفين الذين يعتبرون ضمير المجتمع في القيام بدورهم في توعية المجتمع وتحديد مسؤولياتهم للقيام بالثورة الذهنية المطلوبة. وأهم شيء في هذه الثورة الذهنية هي إعادة تعريف الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي أصابها التزييف والميوعة وخروجها من جوهرها. الانسان – الرجل – المرأة – المجتمع – الأسرة – الدولة – الوطن – الدين – الليبرالية – الرأسمالية –اليسارية – الشيوعية – السيادة – الوطن – الحرية والكرامة، ويمكن تعداد المئات من هذه المصطلحات التي ينبغي إعادة تعريفها من جديد، كي يتسنى لنا معرفة الاتجاه الذي سنسلكه في مسيرتنا نحو الحرية والكرامة، وألا نكون أسرى للدوغمائية والبراغماتيةالمصطلحات.