الحدث – بغداد
مرت شهور منذ أن أعلن زعيم حزب العمال الكردستاني، القائد عبد الله أوجلان، من سجنه في إيمرالي عن تحوله من الكفاح المسلح إلى النضال السياسي والديمقراطي، داعياً إلى بناء مجتمع ديمقراطي شامل يضم جميع المكونات. كان هذا الإعلان والنداء الذي كان في نهاية شهر شباط من هذا العام، نقطة تحول محتملة في تاريخ القضية الكردية، حاملاً في طياته آمالاً كبيرة بإحلال السلام في منطقة تعاني عقوداً من الصراع. وعليه رحب حزب العمال الكردستاني بنداء القائد أوجلان وعبر عن التزامه بنداء قائدهم. وفي الشهر الخامس أعلن العمال الكردستاني عن مخرجات مؤتمره الثاني عشر، الذي عقده وتبني حل هيكلية حزب العمال الكردستاني والعمل على انشاء البديل الذي سيكون من خلاله النضال السلمي والديمقراطي. ومع ذلك، فإن نجاح هذه الدعوة يتوقف بشكل كبير على استجابة أنقرة، التي ما زالت تتبنى نهجاً أمنياً وعسكرياً في تعاطيها مع القضية الكردية.
المتابع للإعلام الإقليمي على الأقل يلاحظ أن الطرفين تكون تحليلاتهم سطحية نوعاً ما وبعض الأحيان بعيدة عن الموضوعية. حيث وسيلة الإعلام غير ملمة بالموضوع بشكل جيد وتتقرب منه فنياً وخبرياً فقط وعليه يكون التحليل وتقديم المادة للمشاهد، إن كان عبر الاخبار أو البرامج التي تقدمها. أما الضيوف فمعظمهم لا يمتلك المعلومات الكافية حول نداء السيد أوجلان وقرار العمال الكردستاني وحل نفسه. حيث ثمة الكثير من الأمور غير معلنة للإعلام، وذلك باتفاق الطرفين على ما اعتقد. فمن المتعارف عليه في المفاوضات أو الاتفاقات الرسمية أنه لا يتم الإعلان عن كل الأمور التفصيليةللعامة، وذلك بسبب الحفاظ على سير العلمية بشكل سلس وبعيداً عن التدخلات التي ستتم من قبل بعض الأطراف التي لا ترغب في نجاح السلام بين الطرفين والتي تعتاش على الحروب في نفس الوقت. بكل تأكيد أن معظم المحللين الذين يظهرون على وسائل الإعلام ويدلون برأيهم عندهم الحق حينما تكون تحليلاتهم سطحيةوبعيدة عن المنطق بعض الأحيان، ومرد ذلك لقلة المعلومات بكل تأكيد. وهذا ما يقودنا لسؤال آخر مفاده؛ لماذا الإصرار على التفلسف وإظهار الذات بأنها ملمة بكل التفاصيل، وبنفس الوقت يتكلم المحلل ويعطي النصائح للطرفين (الكردي والتركي)، في كيفية اجراء التفاهمات أو المفاوضات أو أن طريق السلام من أين يمر؟ وكيف سيتم التخلي عن السلاح وأين؟ مع أنه لا السيد أوجلان ولا حزب العمال الكردستاني، أعلنوا أنهم سيتخلون عن السلاح. بل كل مافي الأمر أنهم أعلنوا أنه الانتقال من الكفاح المسلح نحو النضال السياسي والسلمي الديمقراطي. مع بقاء القوات العسكرية في مكانها في حالة دفاع عن النفس، ولن تتخلى عن سلاحها مهما كان السبب. ولربما تم الحديث عن هذا الأمر ولكن بكل تأكيد سيكون بعد سنوات من تحول الدول المسيطرة على كردستان وتحولها إلى دول ديمقراطية ودول مدنية، حينها بكل تأميد لن يكون للسلاح أي عمل. وهذا يلزمه الكثير من العمل والوقت من كافة الأطراف والذي سيكون عبر مسيرة بناء الثقة بين كافة الأطراف من دون استثناء.
بكل تأكيد ستكون تداعيات دعوة السيد أوجلان على الكرد ستكون عميقة وإيجابية. حيث ستفتح الأبواب على مصراعيها لوحدة الصف الكردي. ويمكن أن تساهم هذه الدعوة في توحيد الصف الكردي، ليس فقط داخل تركيا، بل في جميع أنحاء المنطقة. فالانتقال من الصراع المسلح إلى النضال السياسي يفتح الباب أمام تشكيل جبهة سياسية موحدة تطالب بالحقوق المشروعة بالطرق السلمية والديمقراطية. وسيكون الطريق ممهد للمشاركة السياسية، حيثستتيح هذه الدعوة للكرد فرصة أكبر للمشاركة في العملية السياسية الديمقراطية، والانخراط في المؤسسات الرسمية للدولة، والمساهمة في صياغة السياسات التي تخدم مصالحهم وتطلعاتهم.وكذلك التخلص وإنهاء العنف والمعاناة. حيث يمثل التخلي عن الكفاح المسلح خطوة حاسمة نحو إنهاء دوامة العنف التي أزهقت آلاف الأرواح وجلبت الدمار للمناطق الكردية. هذا التحول سيخفف من معاناة المدنيين، ويسمح بعودة الحياة الطبيعية للمناطق المتضررة من الصراع. وبكل تأكيد سيكون له تأثير على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. حيث أنه في بيئة يسودها السلام والاستقرار، يمكن للمناطق الكردية أن تشهد تطوراً اقتصادياً واجتماعياً ملحوظاً. الاستثمارات ستزداد، وستتاح فرص عمل أكبر، وستتحسن الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم.
وبشكل مؤكد أنه لا تقتصر تداعيات دعوة السيد أوجلان على الكرد فقط، بل تمتد لتشمل المنطقة بأسرها. وسيكون لها تأثير مباشر على الاستقرار الإقليمي. وحينها يمكن أن يساهم حل القضية الكردية في تركيا سلمياً في تعزيز الاستقرار في المنطقة بشكل عام. فالصراع الكردي في تركيا له تداعيات على الدول المجاورة مثل سوريا والعراق وإيران، وأي تقدم نحو السلام سينعكس إيجاباً على هذه الدول. وبكل تأكيد سيعزز الديمقراطية. وإذا نجحت تركيا في حل القضية الكردية سلمياً وديمقراطياً، فإن ذلك سيعزز من صورتها كدولة ديمقراطية حديثة، وسيشجع دول المنطقة الأخرى على تبني نهج مماثل في التعامل مع قضاياها الداخلية.
ولكن على الرغم من أهمية دعوة السيد أوجلان، فإن العقبة الرئيسية تكمن في تعنت أنقرة وإصرارها على النهج الأمني والعسكري في حل القضية الكردية، وهو ما ظاهر إلى الوقت الراهن على الأقل.حيث تعتقد الحكومة التركية أن القضاء على حزب العمال الكردستاني عسكرياً هو السبيل الوحيد لضمان أمنها، متجاهلة الجذور السياسية والاجتماعية للقضية. هذا النهج يغذي دوامة العنف، ويقوض أي فرصة للحوار البناء.
وهنا سنواجه السؤال التالي؛ كيف يمكن الضغط على تركيا لقبول الحل السلمي والرد الإيجابي على دعوة السيد اوجلان؟ بكل تأكيد لإنجاح دعوة السيد أوجلان ووقف الحرب، يتطلب الأمر ضغوطاً دولية وإقليمية مكثفة على تركيا. حيث الكثير من الدول وفي مقدمتها الأمم المتحدة وأمريكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والعراق والامارات، وغيرها من الدول والمنظمات أعربوا عن دعمهم لنداء السيد أوجلان في حل القضية الكردية بشكل سلمي بعيداً عن العنف. وهنا يأتي دور الدبلوماسية الدولية. حيث يجب على المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، تكثيف الجهود الدبلوماسية للضغط على تركيا لفتح قنوات حوار مع الكرد. ويمكن للمنظمات الدولية أن تلعب دور الوسيط في هذه المحادثات. وكذلك يمكن للدول الكبرى أن تستخدم نفوذها الاقتصادي لربط المساعدات والاستثمارات الأجنبية بمدى التزام تركيا بحل سلمي للقضية الكردية. ودعم منظمات المجتمع المدني. حيث يجب دعم منظمات المجتمع المدني وحركات السلام داخل تركيا وخارجها التي تدعو إلى الحوار وحل القضية الكردية سياسياً. هذه المنظمات يمكن أن تشكل رأياً عاماً ضاغطاً على الحكومة. وبنفس الوقت العمل على رفع الوعي بالقضية الكردية. حيث يجب على وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية تسليط الضوء على معاناة الشعب الكردي وتداعيات النهج العسكري التركي، بهدف زيادة الوعي العالمي بالقضية وكسب التعاطف الدولي.
إن دعوة أوجلان للتحول من الكفاح المسلح إلى النضال السياسي والديمقراطي وذلك من خلال فلسفة “السلام وبناء المجتمع الديمقراطي”، تحمل في طياتها أملاً حقيقياً بتحقيق السلام والاستقرار في تركيا والمنطقة. ومع ذلك، فإن نجاح هذه الدعوة يتوقف على استجابة أنقرة والتخلي عن نهجها العسكري. لا يمكن إحلال السلام من خلال القوة وحدها. يجب على المجتمع الدولي أن يمارس ضغوطاً حقيقية على تركيا لتقبل الحل السلمي، وأن ترد على نداء أوجلان بالحوار والتفاوض. فالحرب لا تنتج إلا المزيد من المآسي، بينما السلام هو مفتاح الرخاء والازدهار للجميع.