الحدث – بغداد
إلى أين يتجه العراق؟ هذا السؤال بات أكثر إلحاحًا بعد تشخيص الوضع العام الذي يعيشه البلد، سواء كان ذلك بسبب مشاكله الداخلية أو تأثير دول الجوار. لكن ما يثير القلق حقًا هو المسار الذي يتجه إليه العراق في ظل العقلية السياسية الحالية المتمسكة بزمام الأمور.
تاريخيًا، كان العراق يُحكم دائمًا بعقلية الرجل الواحد. ووفقًا لـ”ملحمة لعنة بابل”، يُقال إن الحزن سيخيم على العراق إلى الأبد بسبب ما ارتكبته شعوبه من آثام. هذه اللعنة تُفسر بأنها نتيجة انقلاب العقلية الذكورية على “الآلهة الأم”، التي كانت مصدر الإبداع في الثقافة والزراعة والعلم. منذ ذلك الانقلاب الذي حوّل المرأة إلى سلعة في المعابد، حلت اللعنة على العراق واستمرت حتى يومنا هذا.
لفهم حاضرنا ووضع رؤية لمستقبلنا، يجب أن ندرس التاريخ بعمق، لا أن نكتفي بسرد وقائعه. علماء الاجتماع والأكاديميون المعنيون يجب أن يتعمقوا في تحليل كل رمز وكل مصطلح، وأن يمنحوا التاريخ معناه الفلسفي والمجتمعي. عندها فقط يمكننا كتابة تاريخ جديد لمستقبلنا، بعيدًا عن التزييف وأولئك المؤرخين الذين يخدمون السلطة.
تحليل الملاحم التاريخية وفك شيفراتها الفلسفية سيفتح آفاقًا واسعة لفهم معانيها. الألواح الطينية السومرية التي تركها لنا أجدادنا لم تكن مجرد نقوش عشوائية؛ كانت محاولة للتعبير عن أفكارهم وتصوراتهم. التعمق في ملاحم مثل جلجامش وإنمركار وإنانا ولعنة بابل سيكشف لنا كيف كانوا يفكرون وكيف كانوا ينظرون إلى أنفسهم والعالم من حولهم.
هناك من يرى التاريخ كمجرد حجارة ونقوش مادية، بينما يغفل عن المشاعر والمعاني الكامنة وراء هذه الرموز. العلاقة بين جلجامش وإنكيدو، على سبيل المثال، لم تُحلل بشكل عميق بما فيه الكفاية. معظم الشروحات تقتصر على أن جلجامش، ملك مدينة أوروك في السهل، أرسل وصيفاته لإغواء إنكيدو، الرجل البري الذي يعيش في الجبال الشمالية.
لكن يمكن قراءة هذه القصة من منظور مختلف، إذا اعتبرنا أن أوروك تمثل السهل العربي، والجبال الشمالية تمثل موطن الكرد، فإن علاقة جلجامش بإنكيدو قد تكون أول رمز للعلاقة بين العرب والكرد في بلاد ما بين النهرين. الملحمة تخبرنا أن جلجامش لم يصبح بطلاً إلا باتحاده مع إنكيدو، والعكس صحيح. هذا يعني أن التاريخ يخبرنا بأن العلاقة بين الشعبين العربي والكردي متجذرة بعمق ولا يمكن فصلها.
كل المحاولات التي قام بها القوميون والمتطرفون لزرع الفرقة بين هذين الشعبين باءت وستبوء بالفشل. بلاد الرافدين لم تصبح مهدًا للحضارة الإنسانية إلا عندما اتحدت شعوبها من عرب وكرد وآشوريين وغيرهم. وعندما دب الخلاف بينها، بدأت المنطقة في الانحدار والتحول إلى مستنقع يستفيد منه السياسيون الفاسدون والقوى الخارجية.
إنها دعوة لتجديد الخطاب التاريخي، والذي سيؤدي بالضرورة إلى تجديد الخطاب الديني والقومي. يجب أن نعترف بأن تاريخ بلاد ما بين النهرين هو تاريخ مشترك لجميع شعوبها: العرب، الكرد، الآشوريين، الكلدان، التركمان، والأرمن. لا يحق لأي قومية أن تدعي أنها وحدها صاحبة هذا التاريخ.
جلجامش، الذي بحث عن الخلود، وجده في خدمة مجتمعه وحمايته، ولم يكن ذلك ممكنًا إلا باتحاده مع إنكيدو. وكذلك الحال مع أخناتون ونفرتيتي. إن تاريخ العراق ومصر، وما بينهما من روابط مع الكرد، هو تاريخ متداخل منذ فجر الحضارة.
لهذا، سنبدأ في كتابة مسودة كتاب بعنوان “العراق ومصر وما بينهما الكرد”، على أمل أن نعيد الوجه المشرق لهذه الجغرافيا التي كانت يومًا ما تُعرف باسم ميزوبوتاميا، والتي كانت تحتضن العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن ومصر. من هذه الشعوب العظيمة انطلقت مسيرة الإنسانية والثقافة.