السبت 18 أكتوبر 2025
القاهرة °C

محمد أرسلان علي يكتب : التسويف التركي الداخلي والوعيد الخارجي، بعد مبادرة أوجلان للسلام

الحدث – القاهرة

يمثل الموقف التركي الراهن تجاه المسألة الكردية، عقب مبادرة “السلام والمجتمع الديمقراطي” للسيد عبد الله أوجلان عام 2025 لحل حزب العمال الكردستاني (PKK) والانتقال للنضال السياسي والديمقراطي، نموذجاً لاستراتيجية معقدة ومزدوجة. تعتمد هذه الاستراتيجية على مزج “التسويف الداخلي”، المتمثل في المماطلة وفرض الشروط القومية على الإصلاحات السياسية والدستورية داخل تركيا، مع “الوعيد الخارجي”، المتمثل في التهديد بالعمل العسكري المباشر لتصفية القوات الكردية المسلحة، خاصة في شمال وشرقي سوريا.

تعد المسألة الكردية من أكثر المشاكل إثارة للجدل على الساحة التركية منذ تأسيس الجمهورية، وتتفرع لتشمل أبعاداً أمنية واقتصادية واجتماعية وثقافية بالغة التعقيد. لطالما تعاملت الدولة التركية مع هذه القضية بحساسية مفرطة، حيث أدى الصراع المسلح منذ الثمانينيات إلى مقتل عشرات الآلاف. وشهد مطلع عام 2025 منعطفاً استراتيجياً غير مسبوق في الصراع، حيث وجه زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل، عبد الله أوجلان، نداءً في شباط/فبراير 2025، دعا فيه الحزب إلى حلّ تنظيماته والتخلي عن السلاح والاندماج الديمقراطي مع الدولة والمجتمع. هذا النداء، الذي جاء بعد مفاوضات غير معلنة، كان بمثابة تحول نوعي في موقف PKK. واستجابةً لذلك، عقد حزب العمال مؤتمره الطارئ الثاني عشر في أيار/مايو 2025، معلناً رسمياً “حلّ تنظيمات الحزب وإنهاء الكفاح المسلّح”، والشروع في مرحلة جديدة ترتكز على العمل السياسي والقانوني والدستوري داخل تركيا.

تتمحور استراتيجية التسويف الداخلي التي يتبناها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول تحويل المسألة الكردية، حتى في سياق السلام، إلى قضية أمنية خالصة. ويعود ذلك بشكل كبير إلى سيطرة الأجندة القومية الممثلة في التحالف بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية (MHP). يهدف هذا التأطير إلى معالجة القضية من منظور قومي براغماتي، يضمن بقاء الدولة التركية في موقع القيادة وفق شروط يحددها التحالف الحاكم، وليس وفق المطالب السياسية والثقافية الكردية.

حيث يلعب زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، دور ضابط الإيقاع في هذه العملية، حيث يضمن أن أي خطوة قد تُفسّر على أنها تنازل لصالح حزب العمال الكردستاني، يتم تصويرها إعلامياً كجزء من “جهود مكافحة الإرهاب” لا كجهود لإرساء الديمقراطية. هذا التكتيك ضروري لأردوغان لضمان توافق مبادراته مع تطلعات قاعدته القومية والحفاظ على التوازن السياسي الداخلي، خاصة في ظل تراجع شعبيته الاقتصادية في السنوات الأخيرة. إن الاستعداد التركي لفتح الباب أمام تسوية مشروط يهدف إلى تحقيق الاستقرار في منطقة مضطربة، لكن بشروط قومية صارمة.

تعتبر التعديلات الدستورية هي اللبنة الأساسية لأي تسوية سياسية دائمة، وهي في صلب المطالب الكردية التي يمثلها حزب المساواة وديمقراطية الشعوب. يطالب الكرد، بتعزيز حقوقهم بعد قرار PKK التخلي عن السلاح. ويتمثل المطلب الجوهري في تحديد تعريف المواطنة التركية على أنها وضع قانوني وليس عرقياً، بالإضافة إلى تعديل للسلطات المحلية مع تعزيز صلاحياتها مع الإبقاء على الطابع الموحد للدولة.

على الرغم من أن أردوغان نفسه تحدث طويلاً عن الحاجة لتغيير الدستور، وتلمّح أنقرة إلى تعديل دستوري لفتح صفحة جديدة مع الكرد، فإن استراتيجية التسويف تظهر في ربط تنفيذ أي تعديلات دستورية بتلبية الشروط الأمنية التركية الصارمة. يتم تحويل الإصلاح الدستوري، الذي يجب أن يكون حقاً سياسياً، إلى “مكافأة” أمنية لا تُمنح إلا بعد التأكد من نزع السلاح الكامل لـ PKK وجميع امتداداته.

إن هذا الربط بين الحقوق السياسية وتدمير البنية العسكرية الكردية بالكامل (داخلياً وخارجياً) هو جوهر التسويف الاستراتيجي. تضمن تركيا، عبر هذه الآلية، أنها تحقق هدفين أساسيين: أمني (نزع السلاح) وسياسي (إرضاء القوميين). يتكامل التسويف الداخلي مع استراتيجية “الوعيد الخارجي” الموجهة بشكل أساسي ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية في شمال وشرقي سوريا. حيث تصرّ أنقرة على ربط قسد مع حزب العمال الكردستاني، وتعتبرها تهديداً أمنياً مباشراً لا يمكن قبوله على حدودها.

تركز الشروط التركية على إنهاء الوجود العسكري الكردي المستقل على حدودها. أهم هذه الشروط هو دمج قسد في مؤسسات الدولة السورية. تهدف أنقرة من خلال هذا الضغط إلى دفع دمشق لإغلاق الباب أمام أي مسارات تفاوضية دولية برعاية غربية مع قسد. بالنسبة لتركيا، يجب أن يؤدي الدمج إلى تصفية الوجود العسكري الكردي واستبداله بهياكل سورية رسمية تتوافق مع مصالح أنقرة الأمنية. وفي المقابل، ترفض قسد والإدارة الذاتية فكرة الإلغاء الكامل لهياكلها، وتنظر إلى الدمج على أنه يجب أن يشمل الإدارتين لا إلغاء لإدارتها الذاتية. لا يقتصر الوعيد الخارجي على مجرد هدف أمني، بل هو أداة جيوسياسية تستخدمها تركيا لتعزيز نفوذها في صراع القوى الإقليمي والدولي. تستغل أنقرة الورقة الكردية للضغط على الولايات المتحدة وحلفائها.

كل المعطيات تشير إلى أن الهدف التركي هو نزع السلاح أولاً بشكل كامل ومطلق، ثم فتح الباب أمام “الديمقراطية” ثانياً، ولكن وفق الشروط القومية التركية. هذا النهج البراغماتي لأردوغان يهدف إلى تحقيق الاستقرار من خلال القوة والتأطير القومي. يتمثل التسويف الداخلي في ضمان أن التنازلات السياسية لن تتم إلا بضمانات أمنية قصوى، بينما يمثل الوعيد الخارجي الأداة التنفيذية لفرض تلك الضمانات.

النجاح السياسي لأردوغان يعتمد على الحفاظ على هذا التوازن الدقيق. فمن ناحية، يضمن هذا النهج دعم القاعدة القومية التي تطالب بحل جذري وفوري للتهديد الكردي. ومن ناحية أخرى، يفتح الباب (ولو جزئياً وبشروط صارمة) أمام تطلعات الكرد بعد حل PKK، مما يحافظ على الاستقرار الداخلي ويقوّض نفوذ المعارضة الديمقراطية.

تسعى تركيا إلى استخدام ورقة عبد الله أوجلان كأداة ضغط استراتيجي. فمن خلال تخفيف القيود عليه مؤخراً، تطمح أنقرة إلى إجباره على الضغط على امتداداته الخارجية، وتحديداً قسد، للاندماج أو التفكك. وبهذا الشكل تسعى تركيا لتحويل السيد أوجلان لورقة ابتزاز ضد الكرد ليقدموا تنازلات أكثر. لكن أوجلان عمل على تنبيه الأتراك حول هذه التقربات السطحية والآنية، قائلاً: أنه إذا لم تتقرب الدولة التركية من السلام والانتقال الديمقراطي، فإن ثمة قوى إقليمية ودولية تسعى لدعم الكرد لتشكيل كردستان الكبرى”، وهذا يعني تقسيم تركيا وتحجيمها أصغر مما هي عليه الآن.

أدت مبادرة أوجلان وقرار PKK بنزع السلاح إلى فتح المجال أمام “عملية ديموقراطية” في تركيا. إلا أن التسويف التركي في تلبية المطالب الجوهرية، خاصة ما يتعلق بالحقوق الثقافية واللامركزية وتغيير تعريف المواطنة، يهدد بإحباط هذا الحراك السياسي.

يواجه الكرد في شمال وشرقي سوريا (روج آفا) خطراً وجودياً مباشراً بسبب الوعيد التركي المتزايد. فالإدارة الذاتية وقوات قسد، التي استمدت شرعيتها الدولية من حربها ضد داعش، تجد نفسها مهددة بالإنهاء بعد تحولات المشهد السوري.

على الرغم من التحفظات الأمريكية والغربية على التصعيد التركي بسبب الدور الحيوي الذي لعبته قسد في محاربة داعش، فإن تركيا تستغل المفاوضات الإقليمية والدولية، لتهميش هذا الدعم، مطالبة بإبعاد الوحدات الكردية عن الحدود ودمجها بالجيش السوري الجولاني. إذا نجحت أنقرة في دفع دمشق لتنفيذ الاندماج القسري لقسد في الجيش السوري، فهذا يعني عملياً تفكيك المشروع الكردي في سوريا وإنهاء الحكم الذاتي الفعلي الذي تم التمتع به على الحدود التركية. وهو ما تحلم به تركيا ومرتزقتها. لكن الكرد إلى الآن متمسكين بسياسة ضبط النفس، وأنهم “مستعدون للدفاع عن المكتسبات، وأنهم لن يتنازلوا عن اللامركزية، ولن يندمجوا كأفراد”، حسب ما قال الجنرال مظلوم عبدي في تصريح له خلال ذكرى تأسيس قسد.

لذلك ومن أجل تعبيد الطريق أمام دمقرطة المنطقة يتعين على أنقرة الخروج من تأطير القضية الكردية كـ “مكافحة إرهاب” بالكامل، وتوفير إطار قانوني وسياسي شفاف للمفاوضات يشارك فيه البرلمان بشكل فعّال، وذلك لتجنب تكرار أخطاء وفشل عملية 2015 التي اتسمت بالغموض وضعف المشاركة. إن تقديم إصلاحات دستورية شفافة وغير مشروطة بأجندة قومية ضيقة هو الضمان الوحيد للسلام طويل الأمد. وبنفس الوقت ينبغي على الطرف الكردي التقرب بحنكة كبيرة وعدم الانجرار وراء الاستفزازات التي يطلقها بعض المسؤولين الاتراك هنا وهناك، والتأكيد على النهج الديمقراطي، وأنه التخلي عن السلاح سيكون آخر خطوة في عملية السلام وليس كما يدعي أردوغان. وينبغي التركيز على الرافعة الدبلوماسية الدولية لضمان تحقيق مكاسب دستورية (لا سيما فيما يخص المواطنة واللامركزية). وهنا لا يمكن تهميش دور القوى الدولية في إنجاح عملية السلام في تركيا وإيصال مبادرة السيد أوجلان لهدفها. وعدم فسح المجال أمام تركيا لأي عملية عسكرية في الشمال السوري، لما لذلك من تداعيات خطيرة على أمن واستقرار المنطقة برمتها.

to top