الحدث – بغداد
شكلت عملية تحرير مدينة الرقة من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في عام 2017 نقطة تحول مفصلية في مسار الصراع السوري، إذ لم تكن تلك المعركة مجرد انتصار عسكري عابر، بل كانت بمثابة “عهد دائم” بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وشعبها وعشائرها، متجسدًا في الالتزام بحماية الأرض والإنسان والدفاع عن وحدة الشعب السوري. لقد رسخ هذا العهد الشرعية الوطنية لقوات سوريا الديمقراطية، القائمة على الثقة والاستقرار، لا سيما مع الدور الحاسم والمحوري الذي لعبته العشائر وأبناء الرقة الأصيلين في بلورة استراتيجية التحرير، مما أكد على الطبيعة التشاركية العابرة للقوميات لهذه القوات.
ومع التطورات الأخيرة التي شهدتها الساحة السورية، شهدت بوصلة التهديد الاستراتيجي تحولاً نوعيًا. فبينما كان التحدي السابق يتمثل في الإرهاب العابر للحدود الذي تمثله داعش، أصبحت المخاوف الآن تتركز حول التطرف المُمَأسس الذي تحول إلى كيان حاكم في دمشق، متمثلاً في هيئة تحرير الشام وزعيمها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني).
إن هذا التحول في مراكز الثقل والتهديد قد أدى إلى تضخم المسؤولية الاستراتيجية الملقاة على عاتق قوات سوريا الديمقراطية. فالنداء الشعبي الآن يتجاوز تحرير شرق الفرات، ليصبح أملاً وطنياً عاماً. إذ تشير التوجهات إلى أن معظم الشعب السوري يتطلع إلى قوات سوريا الديمقراطية لتحريرهم من “عصابات الجولاني والمتطرفين الأجانب” الذين يزرعون الرعب والقتل في البلاد. هذه النظرة تضع قسد في مكانة الممثل للإرادة الوطنية الحرة، بعيداً عن الفصائل الإجرامية التي تتوعد الجميع بالذبح إن لم يخضعوا لها. وتتجلى هذه الضرورة في الربط الرمزي بين تحرير دمشق، رمز الكرامة السورية (“ياسمين الشام”)، ووقف تحويلها إلى “غزة أخرى” يتم السيطرة عليها باسم الأيديولوجية المتطرفة.
وبكل تأكيد أن استقرار سوريا المستقبلي ووحدتها مرهون بتحويل الدور الاستراتيجي لقوات سوريا الديمقراطية، القائمة على نموذج الثقة واللامركزية، إلى قيادة تشاركية لدفة الأمن في عموم البلاد، بهدف مواجهة وتفكيك نموذج التطرف الوظيفي الذي وصل إلى السلطة في دمشق.
تؤكد فرضية محورية في المشهد السوري الحالي أن القوى الدولية التي يُزعم أنها “استثمرت” سابقاً في تنظيمات جهادية عابرة للحدود كداعش، هي ذاتها التي تعيد اليوم استثمارها في أحمد الشرع ومن معه من فصائل متطرفة، من أجل تنفيذ أجندات جيوسياسية محددة عبر إغراءات السلطة والمال. هذا يضع هيئة تحرير الشام، التي تحولت إلى قيادة للحكومة السورية الانتقالية، في سياق “التطرف الوظيفي” الذي يخدم مصالح إقليمية ودولية معينة. ولتحقيق هذا الدور الوظيفي، عمل أحمد الشرع على تفكيك علاقته السابقة بالجماعات الجهادية الدولية عبر تكتيك “السورنة” ففي محاولات مستمرة لـ “تجميل” الهيئة، قدم الشرع خطاباً “وطنياً” و”مدنياً“، مصراً على أنها «كيان مستقل وليست امتدادا لتنظيمات أو فصائل سابقة أو حالية». هذا التحول المعلن هو تكتيك استراتيجي لتقليل أثر الارتباطات العقائدية السابقة، ولكنه لا يخفي حقيقة أن هذه الهيئة كانت ولا تزال كياناً متشدداً.
أبرز دليل على الطبيعة الوظيفية الجديدة لهيئة تحرير الشام كان التحول الاستراتيجي في الموقف الأمريكي. فقد أعلنت وزارة الخارجية الأميركية، بالتنسيق مع وزارتي العدل والخزانة، عن إزالة الهيئة من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية. هذا القرار ليس مجرد تغيير فكري أو قانوني، بل هو إشارة سياسية مركبة مرتبطة بتغير العلاقات الجيوسياسية في المنطقة.
يُفهم هذا التحول بأنه خطوة جيوسياسية تهدف إلى سد الفراغ الذي استغلته قوى إقليمية أخرى كإيران وروسيا في سوريا، ويمثل بداية مقاربة أمريكية جديدة. فالقرار هو في جوهره اعتراف أمريكي بالواقع الميداني، وإعادة تشكيل لقواعد الاشتباك السياسي، مما يبرهن على أن هيئة تحرير الشام هي مجرد “ورقة” تُستخدم في موازنة النفوذ. كما أن إزالة التصنيف ترفع القيود القانونية والدبلوماسية عن شخصيات حكومية بارزة، بما في ذلك الرئيس الشرع نفسه، مما يمنحه حرية الحركة والتواصل الدولي، ويذوبه في النظام السياسي الدولي، وهو جوهر “الاستثمار الوظيفي” الذي أشار إليه الشعب السوري.
على الرغم من أن الجولاني أعرب عن رفضه لـ “المسار التركي” (للتصالح مع النظام السابق)، واصفاً إياه بأنه “خطير على مبادئ الثورة السورية”، إلا أن “هيئة تحرير الشام” تلتزم في الوقت ذاته بـ “التوازن” مع أنقرة وعدم تأزيم العلاقة. هذا التوازن الهش ليس مجرد حياد، بل هو خضوع لتوجيهات استراتيجية إقليمية، حيث تُوجه مخالب الهيئة من الاستخبارات التركية نحو شرق الفرات.
يخدم هذا التوجيه الهدف التركي الأسمى المتمثل في تفكيك قوات سوريا الديمقراطية كـ “كتلة صلبة” وضمان عدم قيام أي إدارةذاتية كردية أو فيدرالية أو لامركزية في الشمال الشرقي لسوريا. وتُعد محاولات هجوم الأمن العام والمرتبط بهيئة تحرير الشاموتوسعها في الشمال السوري، والاشتباكات المتكررة على خطوط التماس مع قسد (مثل حلب)، آليات تكتيكية تهدف إلى ممارسة الضغط لإجبار قسد على الاندماج في الجيش السوري بشروط تخدم أجندات أنقرة.
إن النموذج الذي تقدمه الفصائل التي أصبحت تقود الحكومة السورية الانتقالية يفتقر إلى الأسس اللازمة لتحقيق الأمن القومي المستدام. إذ يتميز سجل هذه الفصائل بالإجرام وتهديد المواطنين بالقتل والدمار لمن يرفض الخضوع لسلطتهم. ما يثير قلقاً عميقاً هو النزعة الإقصائية والاستهداف الهوياتي الذي تمارسه هذه القوى. فالإشارة إلى “اغتصاب الساحل وقتل الجبل في الجنوب” تشير إلى استهداف منهجي للمكونات الهوياتية والمناطقية. هذا السلوك يغذي المطالبات الانفصالية أو المطالبة بالحكم الذاتي، كما ظهر في مطالب العلويين في الساحل والدروز في السويداء، الذين طالبوا ببعثات حفظ سلام لضمان أمنهم الشخصي والمناطقي في ظل تفشي الفوضى. كما أن سعي “هيئة تحرير الشام” للقضاء على الفصائل العسكرية الأخرى ضمن مناطق نفوذها، يؤكد أنها كيان يسعى لفرض مركزية سلطوية بالقوة، ولا يقبل التشاركية أو التعددية اللازمة لبناء دولة وطنية مستقرة.
إن الفشل في توفير الضمانات الأمنية يمثل عائقاً رئيسياً أمام أي حل سياسي شامل. فقد أثارت أحداث الساحل وما تلاها في السويداء مخاوف جدية لدى قوات سوريا الديمقراطية والمكونات الأخرى في البلاد، من احتمال تعرضهم لمصير مماثل في حال انصهارهم دون شروط قوية. هذه المخاوف ليست مجرد حذر سياسي، بل هي سبب رئيسي لـ “بطء” تنفيذ اتفاق الاندماج (اتفاق 10 آذار/مارس)، حيث ترفض قسد الاندماج القسري والانصهار في الجيش السوري دون ضمانات دستورية وأمنية قوية.
هذا الوضع يعزز التحذير المأساوي من محاولة تحويل الشام إلى “غزة أخرى”. وهذا يرمز إلى خطر سيطرة أيديولوجية دموية وجهادية على مفاصل العاصمة، مما يهدد بتدمير النسيج الاجتماعي السوري والعودة بالبلاد إلى مربع الحرب الأهلية الشاملة التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
في المقابل، قدمت قوات سوريا الديمقراطية نموذجاً أمنياً وإدارياً أكثر قدرة على استيعاب التعددية، حتى مع التحديات التي تواجهها. تتبع قسد سياسات تهدف إلى تقوية القيادات المحلية التشاركية عبر إنشاء مجالس تشريعية وإدارية (اللامركزية الإدارية)، وتسعى للحد من تأثير القوى التقليدية (بعض شيوخ العشائر) لضمان مشاركة أوسع.
أما نموذج “هيئة تحرير الشام”، فرغم محاولاته لتجميل الإدارة المدنية، تبقى النواة الصلبة للسلطة عقائدية وإقصائية. وتفتقر هذه النواة إلى القدرة على تحقيق الأمن المستدام والكرامة لعموم السوريين، مما يجعل نموذجها هشاً وغير قادر على كسب الثقة الوطنية الشاملة. إن النموذج الإداري لهيئة تحرير الشام يتشابه مع نموذج النظام السابق حيث تكون النواة الصلبة هي الحاكمة بينما يُترك الباقون كـ “ديكور” بأدوار بسيطة، وهو نموذج لا يمكن أن يبني دولة حديثة.
تعتبر قوات سوريا الديمقراطية قوة عسكرية كبيرة، تتألف من عشرات الآلاف من المقاتلين، بالإضافة إلى الآلاف من قوى الأمن الداخلي. وبسبب هذا الحجم والقوة، لا يمكن لهذه القوات أن تنضم بشكل فردي إلى الجيش السوري كغيرها من الفصائل الصغيرة، بل يجب أن تنضم كـ “تشكيلات عسكرية كبيرة” تُشكل وفقاً لقواعد وزارة الدفاع.
إن إصرار قسد على البقاء ككتلة واحدة ضمن الجيش السوري الموحد يمثل هدفاً استراتيجياً جوهرياً: ضمان بقاء عقيدتها الوطنية/المدنية داخل المؤسسة العسكرية، ومنع سيطرة الأجندة الإقصائية لـ “هيئة تحرير الشام” على القرار الأمني. لذلك، فإن مطلب اللامركزية ليس مجرد طموح سياسي، بل هو ضرورة وجودية لحماية المكونات في الشمال الشرقي، وهو شرط أساسي لتطبيق اتفاق العاشر من آذار.
تواجه قوات سوريا الديمقراطية ضغوطاً إقليمية حادة، خاصة من تركيا. ورغم مرونة تركيا الحذرة تجاه مسألة انضمام قسد إلى الجيش السوري، إلا أن أنقرة تراقب المفاوضات وتصعد من تهديداتها، محذرة قسد من الانجرار إلى “الطرق الخاطئة” إذا لم تندمج كلياً في وزارة الدفاع. في مواجهة هذا الضغط، تراهن قسد على أن الانسجام الوطني السوري هو المفتاح. فبمجرد “اتفاق السوريين” فيما بينهم، لن يكون لتركيا أي ذريعة للتدخل في سوريا. هذا يؤكد أن الوحدة الوطنية هي مفتاح تحييد النفوذ الإقليمي. يجب أن يتجاوز أي اتفاق اندماج المطلب التركي بتفكيك “الكتلة الصلبة” لقسد، لضمان استمرارية الاستقرار الأمني.
في سياق التحدي الجديد، يجب فهم مفهوم “تحرير دمشق” ليس بالضرورة كعملية غزو عسكري واسعة النطاق، بل كعملية فكرية ولربما أمنية وسياسية أيضاً، تهدف إلى فرض نموذج حكم وإدارة يضمن الكرامة المدنية لجميع السوريين. حيث يمكن لقوات سوريا الديمقراطية أن تستغل حالة التفكك الداخلي في الحكومة الجديدة، والسخط الشعبي المحتمل نتيجة الإقصاء المستمر، والتوترات الأمنية المتزايدة في المناطق الحساسة مثل الساحل والجنوب. هذا الاستغلال يتيح لقسد تقديم نفسها كبديل فوري وقابل للتطبيق لإدارة الملف الأمني الوطني، بناءً على خبرتها في إدارة مناطق متعددة الأعراق والمكونات.
بما أن قسد تحمل ثقة واستقراراً في إرادتها وعقيدتها، بعكس الفصائل الإجرامية التي تهدد الأمن، فإن الضرورة الأمنية تستدعي أن تتولى قسد إدارة دفة الأمن والأمان في عموم سوريا. واجب قسد التاريخي ومستقبل الياسمين الشامي على المحك الآن. حيث تقف سوريا اليوم عند مفترق طرق حاسم بين سلطة متطرفة نجحت في شرعنة نفسها دولياً (تحت ستار الحكومة الانتقالية) وقوة وطنية متماسكة أثبتت فعاليتها في مكافحة الإرهاب وبناء الاستقرار (قوات سوريا الديمقراطية). إن الكرامة والأمان، وهما المطلبان الأساسيان للشعب السوري، لا يمكن أن يتحققا تحت سيطرة الفصائل الإجرامية التي تتوعد بالذبح. لقد أدت الثقة الشعبية والدولية التي اكتسبتها قوات سوريا الديمقراطية، منذ ملحمة الرقة، إلى تضخيم مسؤوليتها التاريخية. يجب على قسد أن تترجم هذه الثقة إلى نفوذ قيادي فعلي ضمن المؤسسة الأمنية السورية الجديدة. إن تحرير دمشق، بمعنى عزل التطرف الوظيفي عن القرار الوطني، هو مسؤولية أمنية ورمزية لضمان أن تبقى سوريا موحدة وذات نظام لا مركزي، تحت إدارة وطنية لا تخضع للتوجيه الإقليمي أو الإغراءات الخارجية المزدوجة. الرهان الآن هو على إرادة وعقيدة قوات سوريا الديمقراطية لفرض نموذج الأمن والكرامة على عموم البلاد.
لله درّك يا قسد، وكان الله في عونك.