الإثنين 25 نوفمبر 2024
القاهرة °C

داروين وكورونا وفلسفة الأخلاق

 

 

محمد أرسلان علي

ما زال الحاضر الغائب أو المخفي حاضراً على أجنداتنا المحلية والإقليمية والعالمية وتكثر التفسيرات والتحليلات حول ماهيته وتداعياته التي ستؤثر على البشرية والعالم، بعد أن يتم القضاء عليه أو بالأحرى تحجيمه حتى حين، كي يتم استخدامه ثانية وفق مصالح وأجندات بعض الأطراف المستفيدة من هذا الكائن الهلامي. تنبؤ بعض الكتاب أو المنجمين منذ زمنٍ حول ظهور هذه الجائحة لتضرب العالم، والآن ظهور بعض قارئي الفنجان وما أكثرهم وهم ينظرون حول المؤامرة أو غضب من الله، لهو أمر طبيعي ما دُمنا نعيش زمن الفوضى بكل تجلياتها الفكرية منها والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في ظِلِّ زعماء يتحكمون بمصير العالم عبر تغريداتهم على تويتر كما يفعل ترامب أو من جعل من نفسه هرقل العصر وأنهم أقوى من هذا الفيروس وسوف يقضون عليه بلمح البصر كما يفعل أردوغان.

ما بين تغريدات ترامب وتصريحات أردوغان يسقط يومياً الآلاف من الضحايا من البشر الذين لا حول لهم ولا قوة، أما الباقي فعينهم تترقب جهةٍ أو دولة تُصرح بأنها اكتشفت الدواء لهذا الداء اللعين. وعلى ما اعتقد أن ما قاله رئيس الوزراء البريطاني “لنكن مستعدين لفقدان الكثير من الأحبة”، ما هو إلا تعبير عن إفلاس بريطانيا الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، لتتحول في زمن جونسون إلى شبه دولة لاهوتيه تنتظر المخلص كي ينقذها من الأفول والظلمات. وحال ألمانيا ليس أفضل من فرنسا وإيطاليا التي وقعت في فخ الإهمال وطلاق الاتحاد الأوروبي لها وتركها تتخبط في مستنقع كورونا لوحدها، قرباناً لمواقفها تجاه أوروبا.

إذاً، هي الرأسمالية المتوحشة التي لا تعرف الأخلاق ولم تسمع عنه وهي تعيش ضجيج عَدّ النقود والمال بين أسهم البورصة وبين أزيز شركات بيع الأسلحة وكذلك شركات بيع الأدوية لاحقاً. الرأسمالية التي لطالما قال عنها المفكر عبد الله أوجلان بأنها ليست “اقتصاد”، بل هي العدو الأول للمجتمع ولا يمكن للإنسان أن ينجو من الضياع والفناء إلا بالقضاء على العقلية الرأسمالية التي حوَّلت الفرد إلى ذِئب متوحش يلتهم أخيه الانسان كما قال “هوبز”.

“مناعة القطيع” التي طرحها جونسون رئيس وزراء بريطانيا لحماية شعبه من جائحة كورونا ما هي إلا تطبيق عملي لفلسفة داروين المعتمدة على “الانتقاء الطبيعي” للبشر الذين عليهم الاستسلام لهذا الفيروس كي يحدد هو من بصلح للبقاء من عدمه. وبهذا يكون البقاء لمن يتحول بيولوجيا ويستطيع جهازه المناعي أن يقاوم هذا الفيروس بعد أن يُعدل من جيناته. نظرة الدول الرأسمالية للمجتمعات على أنها ليست سوى قطيع ويتم التعامل معهم على هذا الأساس، ما هي إلا تعبير حقيقي عن حقيقتهم التي لطالما أخفوها وراء الأضواء الباهرة والقوية لما كانوا يسمونه “العلموية” و “الصناعوية” التي لا يهمها سوى الربح الأعظمي على حساب المجتمعات، بعد أن تحولهم لقطيع في مختبرات تجارب على ما ينتجونه من مختلف صنوف بضائعهم القاتلة للإنسان. فمن تجريب أسلحتهم على الانسان كما في سوريا والعراق وليبيا واليمن/ كما صرح مسؤوليهم عن هذا الأمر، إلى تهجير الشعوب والتغيير الديموغرافي الذي يقومون به للقيام بعملية هندسة المجتمعات من جديد وفق ما يخططون له. كل هذا يؤكد أنَّ جائحة كورونا باتت وسيلة بأيدي هؤلاء الرأسماليين الذين يعملون على التضحية بالكل ليعيش البعض من الأثرياء أو نخبة العالم التي بيدها كل شيء.

كم أحوجنا لإعادة التفكير بما آَلَت إليه حالنا ونحن نتخبط باحثين عن أسباب ما نعيشه. ناسين أو متناسين أنَّ السبب الرئيس هو اغترابنا عن ذاتنا وولهنا وعشقنا لثقافة الغرب التي أعمت بصيرتنا عن حقيقتنا المجتمعية والتاريخية والثقافية. كُلنا مقتنعين بأن الانسان كائن اجتماعي ولا يمكن له أن يعيش الانعزالية والانطوائية والفردانية. إذ، أن تطور المجتمعات والثقافة والفن عبر التاريخ ما هو إلا تراكم ثقافي لجهد وكدِّ تعاون البشر فيما بينهم وتعاضدهم حتى وصلت لنا هذه الثقافة بما تحمله من غنى وتراث معرفي وإدراكي. بناء المجتمع الأخلاقي والسياسي المُدرك لذاته والواعي لحقيقته التاريخية ربما تكون هي الفلسفة والخطوة الأولية للقضاء على الكثير من الجائحات والأمراض التي تحيط بنا من كلِ جانب.

to top