الحدث – القاهرة
كيف يمكن أن نجعل حل القضية الكردية أو أي قضية وطنية أو إجتماعية تحقيقاً للوحدة الكلية والتكاملية للمنطقة، كيف ستتحول كردستان الحرة إلى إلى تحقيق نواة هوية جامعة مرنة ومترامية الأطراف ومع الأيام ستحقق الكيانية السياسية للوحدة الكلية المجسدة لجيوثقافة المنطقة والمعززة للأخوة والأخوات بين الشعوب والمجتمعات وتكويناتهم والعيش المشترك والاقتصاد المذدهر والفكر الحر.
لم يصبح الجغرافية الثقافية أو جيوثقافة ( تفاعل البعد المكاني مع البعد الثقافي ) المنطقة (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) كتسمية جغرافية على وفاق وتناغم بل كان في جله على تنافر و تضاد مع كافة أنواع التقسيمات و الفصل وحدوده المصطنعة المفروضة من الخارج كالدولة القومية نموذجاً للإعتداء الفظ على تكامل ثقافة المنطقة ووحدتها الكلية ومحاولة لإبادتها كروح جامعة ستنبض في قادم الأيام. وهذه الحقيقة يمد ميول التحالف والتكامل والاندماج بطاقة هائلة.
لم تعاني المنطقة التجزء في أية مرحلة من تاريخها، بقدر ماهي في عهد ماتسمى الدولة القومية، لكن حتى هذه التقسيمات المعاشة والمفروضة، انحصرت في غالبتها في أبعاد السلطة وأجهزتها، دون أن توثر على الحياة الثقافية والروحية. فقدرة الاختلافات الأثنية والدينية على العيش بالتداخل فيما بينها طيلة آلاف السنين، إنما معنية بالتكامل والوحدة الكلية لجيوثقافية المنطقة.
ويقال أنه حتى إرادات الهيمنة والسلطة والطبقية من داخل المنطقة من أيام سارغون وحتى قسم كبير من الحضارة الإسلامية كحضارة مركزية، وكذلك الباقين خارج السلطات كحضارة ديمقراطية قد عاشوا وتطوروا وتركوا بصمات كثقافة إقليمية. ولم تشهد جيوثقافة الشرق الأوسط هوية حضارية أو مدنية مغلقة على نطاق المنطقة.
ولفهم المنطقة وأهمية البحث عن الحلول ينبغي معرفة أنه ظلت مقومات الحداثة للنظام العالمي المهيمن ضمن صراع وتناقض مع التيارين الجيو الثقافيين التاريخيين( المركزية و الديمقراطية) في المنطقة.
العصرانية الديمقراطية نظام حل يعكس جيوثقافية المنطقة بديل النظام العالمي العقيم والموجد للأزمات :
ولإدراك حل العصرانية الديمقراطية التي تستند إلى جيوثقافية المنطقة علينا تبيان :
1_المجتمع الديمقراطي الحر بأبعاده الاقتصادية والأيكولوجية والأخلاقية والسياسية و الذي يعد من مقومات العصرانية الديمقراطية يتخذ جيوثقافة المنطقة أساساً له. ولايفرض أي عنصر مجزئ. بل وعلى النقيض، فهو يكون بدائل العناصر التجزيئية الموجودة ويجمع شمل المجتمعات والشعوب في حالة وحدة ديمقراطية تكاملية ويعزز من إرادتها وتنظيمها وتدريبها وبالتالي من قوتها.
2_العصرانية الديمقراطية مرنة بصدد مفهوم الأمة وأنواعها. فرؤيتها وإرشاداتها في البناء والإنشاء الوطني المعتمد على الذهنية والإرادة المشتركة والأرض المشترك غير معتمد على اللغة أو الأثنية أو الدين أو الدولة، إنما يلعب دورا مثمراً للحلول و مفيداً في تكامل وتوحيد العناصر المتعددة اللغات والأثنيات والأديان والمذاهب والكيانات السياسية ضمن بنيتها.
3_مفهوم العصرانية الديمقراطية هذا في الأمة ذات العناصر المتكاملة المتعددة، يؤمن أرضية منيعة موجبة من أجل تحقيق الأمن والاستقرار والأخوة والعيش المشترك التي تحتاجها جيوثقافة الشرق الأوسط تجاه مفهوم الأمة المبنية على الدولة واللغة والدين والمذهب والأثنية.
4_من الواضح أن رؤية العصرانية الديمقراطية تتميز بالماهية والآفاق القادرة على تحجيم العقليات النمطية والحربية والقوموية المطلقة والجنسوية والوضعية الرائجة في الدولة القومية وعلى الانغلاقات والإنسدادات المحتدمة التي تؤدي إليها الاحتكارات الطبقية والسلطوية والاستغلالية.
5_المردود الأدنى والاعظمي حيث أن النظام العالمي الرأسمالي والربحي ونتيجة تجزئتها لشعوب المنطقة على اساس الدولة القومية فإنها تعرض الاقتصاد والبيئة للأزمات و تسبب في انخفاض المردود. في حين العنصر الاقتصادي_الايكولوجي أو الاقتصاد المحترم للبيئة للعصرانية الديمقراطية لايقتصر على تلافي السلبيات بل في تحقيق المردود الأعظمي ضمن إطار احترام البيئة وعدم إلحاق الضرر به. وبذلك بناء نظام يتيح الفرصة للتكافل الذي يحتاجه المجتمع وتفرضه الثقافة التاريخية، ويسدد الطريق على البطالة وينظر إلى العمل بكونه جزء من الحرية، ويفضي إلى العطاء الوفير.
6_تقوم عناصر المجتمع الديمقراطي الحر للعصرانية الديمقراطية بتجاوز هيمنة الدولتية القومية المؤدية إلى إلوهية وقدسية القانون والسلطة بدل الأخلاق والمجتمع. ممهدة السبيل بذلك إلى نماء المجتمع الديمقراطي. وعوضا عن احتكارية السلطة ذات الهوية المنغلقة والصارمة، والتي تمزق جيوسياسية المنطقة، وتجعلها مجدبة عقيمة، فإنها بمفهوم السياسة المرنة والديمقراطية والمترامية الأطراف على صعيد المنطقة، وبل العالم أيضاً، تمّكن من الوحدة الكلية والتكامل الهائل من التنوع والتعدد والتباين وحفظه. وبالتالي تشييد صرح المجتمع الديمقراطي الحر على أرضية الوحدة الكلية المتكاملة للثقافة التاريخية_الاجتماعية.
هيكلة التفاعل الإقليمي المستند إلى جيوثقافية المنطقة:
قد يقال أنه من الممكن تكوين أمة الشرق الأوسط المتشكلة من الأديان التوحيدية الثلاثة ومن مختلف أنواع اللغات والأثنيات والكيانات السياسية، وكيفما هناك “الأمة الأمريكية”(الولايات المتحدة الأمريكية) و”الأمة الأوربية”(الاتحاد الأوربي) أو “الأمة الروسية”(الاتحاد الروسي) أو الأمة الصينية بالمقدور إيجاد “أمة الشرق الأوسط” أو “أمة المنطقة” فالاساس الثقافي والمشتركات لذلك أصلح وأقوى من الأخرين.
ومن الممكن الوصول إلى الكثير من الحلول الجيدة والمقبولة ضمن مفهوم الأمة الكبرى والمرنة والمترامية الأطراف، إزاء قضايا التكوينات المجتمعية على أختلاف اعدادهم بين القليل والكثير، والتجزء بين صفوف الأمم الكبرى ( العربية ، التركية ، الكردية ، والفارسية) والعزلة بين صفوف الامم القليلة السكان( الشعوب الأرمنية واليهودية والسريانية والقفقاسية).
معلوم أن محاولات من قبيل حلف بغداد، وسانتو ومنظمة التعاون الإقليمي للإنماء وحاليا منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية التي يراد إحيائها والعديد من المؤسسات الإقليمية والتي تحققت في الماضي القريب بغية حل القضايا التي أسفرت عنها منظومة الهيمنة العالمية، لم تفضي إلى حلول ولم تكن أغلبها طويلة الأجل ولم تستطع حل أي قضية مهمة في المنطقة ، نظراً للأسباب البنيوية كونها اتحادات الدول القومية وبقائها ضعيفة التأثير، هو أمر مفهوم أيضاً، إنطلاقاً من ماهية الدولة القوميةالتي تسودها. علماً أن كل دولة قومية في المنطقة تابعة لمركز هيمنة عالمية أو إقليمية أكبر منها خاص بها، وتفتقر للآفاق والأداوات التي تخولها للخروج عن نطاق رقابة المركز الذي تخضع له. وعدم تمكنها من الخلاص من حالة العقم والشلل، رغم عقدهم الاجتماع تلو الأخر والقمة تلو الأخرى ، إنما يعزى إلى هذا الواقع.
ترتبط قوة العصرانية الديمقرطية في إيجاد الحل بصدد التكامل والوحدة الكلية السياسية للمنطقة بالآفاق التي تستقدم الحلول للعناصر التي تعمل بالاساس. إذ مامن عنصر داخلي معيق قد ينتصب أمام الوحدة الكلية السياسية، فجميع العناصر والقيم الاقتصادية والأيكولوجية البيئية والأخلاقية والسياسية قادرة على إنشاء المجتمع الديمقراطي الذي تتطلع إليه أكثر، وتأطيره بالكلياتية السياسية ومقابل التدخلات المهيمنة التي تفرضها القوى المركزية في النظام العالمي من الخارج، فكافة قوى المنتطقة الإجتماعيةالمتراصة ضمن كلياتية سياسية قادرة على الرد عليها وتحليل وحل قضاياها بكل سهولة وبنجاح مظفر.
نستطيع اقتراح صيغ مختلفة معبرة مثل “اتحاد الامم الديمقراطية” أو كونفدرالية الشرق الأوسط الديمقراطي” أو “الكومونة الديمقراطية للشرق الأوسط” أو أي تسمية أخرى معبرة عن جيوثقافة المنطقة ككيان سياسي، وعندها فإن القضايا المتفاقمة في المنطقة كما في العراق وسوريا وإسرائيل_فلسطين ولبنان وتركيا وإيران وحتى أفغانستان وشرق المتوسط ستجد حلول مقبولة، هذه القضايا التي تعد محصورة الآن بين فكي العقلية الدولتية القومية، لايمكن إيجاد حل لها من خلال ذهنية تعد بحد ذاتها منبع القضية فالتدهور والتخريب التي آلت إليها، والخسائر التي تكبدتها الذهنيات التي تعد هي منبع القضية من خلال مواقفها إزاء القضايا السياسية_الاجتماعية المعاشة في عموم المنطقة خلال القرنيين الأخيرين، إنما هي مليئة كفاية بالدروس والعبر . إذ اتضح بما فيه الكفاية أن العلمانية منها والدينوية، لم تؤد دوراً أبعد من إزدياد العقم والانسداد وتفاقم الأزمات والقضايا.
من الأفضل أن تعبر جيوسياسة المنطقة عن جيو ثقافته. ومن الواضح أن البنية التشاركية الديمقراطية والكونفدرالية ستكون الإطار الأنسب مع الإشارة أننا لانتكلم عن كونفدرالية أو فدرالية الدولة والسلطة. ذالك أنه بقدر ما تتواجد اتحادات أو تشاركيات أو كومونات أو كيانات مختلفة، فلجميعها مكانها ضمن الإطار التشاركي الأم أو الكونفدرالية. ومن الضروري معرفة كيفية السير دون التعثر بمعرقلات الدولة القومية المرتبطة بالنظام المهيمن العالمي مهما أدعت أنها مستقلة. وكذلك من الضروري التوجه صوب شبكات وبنى مترامية الأبعاد، فيما يتعلق بالكيانات السياسية والأطر التشاركية الأيكولوجية والاقتصادية والمجموعات المدنية الديمقراطية التي ستطور في كافة ميادين المنطقة من الابسط إلى الأعقد وتتخذ من المبدأ الفلسفي الأولي الكونية_ الواحدية أساساً، دون زعم الاستقلالية أو وصف الذات بصفات الهوية المنغلقة والصارمة بتاتاً.
وارتباطا بالصيغة المشتركة الممكن إنشائها ارتباطاً بالدجلة والفرات وبالزراعة والطاقة والماء المتوفر في هذه المنطقة فقد يكون بالإمكان إنشاء أحد مراكز التكاملية السياسية المحتملة، لكن ليس بناء على التقويض والهدم، بل بموجب إجراء الإصلاحات والتعديلات مع مرور الزمن على مايعرف بالدول القوموية أو مايعرف بالجمهورية التركية والجمهورية العربية السورية و لبنان والإردن وإسرائيل_فلسطين والجمهورية العراقية الفدرالية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، فرغم حفاظ الجمهوريات الحالية على ماهيتها كدولة قومية في البداية، إلا أنها مع مرور الزمن قادرة على التحول إلى هوية دولة قومية مرنة ومنفتحة الأطراف، متجهة قدما نحو الاتحاد والوحدة والديمقراطية. والكيان السياسي الذي سيبرز للميدان ملزم بأن يكون منفتحا على الديمقراطية بما يتقدم عليه الولايات الأمريكية والاتحاد الأوربي وهوسيكون كذلك نظرا لطغيان العناصر التشاركية الديمقراطية عليه وبوسع كافة الهويات أخذ مكانها وبالامكان هيكلة هذه الهويات كمكونات الامة الديمقراطية وهكذا إنشاء سيستطيع الحد من خطر الاشتباكات والمشاحنات النابعة من قوموية الدولة القومية المنغلقة والمتصلبة والقائمة على اللغة الواحدة والأثنية الواحدة، وتخفيضه إلى أدنى المستويات وتحديث الحياة بمنوال متفاعل في سياق التاريخ منذ آلاف السنيين.
والشعوب ذات الهويات العريقة مثل العرب والكرد والأرمن واليهود والآشوريين والأتراك والتركمان ومن ذوي الأصول القفقاسية ومن بعض ذات الجذور الإيرانية فعند إنشائها بهوية الأمة الديمقراطية، ستغدو قد اعطت الجواب المناسب للتشابه الثقافي التاريخي وللقيم المجتمعية من جهة وتخلصت من الجهة الثانية من الدوامة العقيمة للصراعات والإبادات والحروب وسياسات فرق_ تسد التي تؤججها النظام العالمي بوساطة الدولة القومية.
لأن هذه الشعوب ستكون حريصة على أن تكون منفتحة ومرنة الهوية و وستتمكن من تطوير الوحدة الكلية والتكامل وبالتالي الأخوة الغنية والمعطائة للغاية فيما بينها. والموقف نفسه يسري على الهويات الدينية فكما كانت في التاريخ وبحكم غالبتها الساحقة ترتكز إلى عقيدة ثيولوجية مشتركة فبمقدور تطوير التكامل بينهم، فالاديان الابراهيمية الثلاثة وبكافة مذاهبها بإمكانها الدنو من بعضها وتمهيد السبيل لتركيبات جديدة بموجب نفس الهوية الدينية المرنة. والمنفتحة الأطراف.
البناء على الوطن والامة المشتركة لايعتبر تعدد اللغات ورموز الهوية قضية إشكالية ضمن الوحدة الكلية السياسية التي ستتشكل. أما المدن والمناطق والأقاليم فستكسب معانيها كأماكن تفاعل وتعاون نموذجي لأجل التباينات الموجودة نظراً لأنها ستشاد وفق ماهية الوحدة والمكون الديمقراطي. بوصفها تتواءم ومزاياهم الثقافية التاريخية. وستكون الماهية الديمقراطية اساساً لهذه الهويات وسيكون القانون في خدمة الاخلاق وليس في محلها.
كردستان والنتيجة:
جيوثقافة وجيوسياسة كردستان كونها توسط جغرافيا العرب والأتراك والفرس ولأنها نقطة تقاطع الثقافات تكاد تصير هكذا نوع من الوحدة الكلية والتكاملية السياسية ضرورة حتمية ومن طبيعتها وبإمكانها لعب الدور المأمول.
دارت المساعي دوماً للإبقاء على كردستان كبلد إشكالي و عقيم وجعلها وسيلة للرقابة الإقليمية وعبر تقسيمها والحفاظ على عدم السماح بحل قضيتها لمصالح الهيمنة العالمية، وعلى صعيد سياسات الهيمنة التي مارستها بريطانيا على الهند والشرق الأوسط في عهد الحداثة والنظام العالمي و أختزلت إلى أداة تحكم مساعدة جداً في إخضاع سيادة السلطات العربية والتركية والفارسية للرقابة وبالتالي المنطقة. ويراد الاستمرار بالدور نفسه في راهننا بريادة أمريكا بإنشاء دويلة قومية على جزء صغير من جنوب كردستان مثل أرمينيا واليونان حينما يحين الوقت إذا لم يغير النظام العالمي مقاربته للقضية الكردية حتى الآن.
وكأن التاريخ حول كردستان والقضية الكردية إلى ماهو أشبه بقضية يهودية ثانية. يعيش الكرد سياقا كهذا في الوقت الراهن على الأقل. ما من ريب في أن سياسة الحداثة للنظام العالمي المهيمن في خلق دول قومية غير متساوية في المنطقة تلعب دورا معينا في ذلك.
الدولة القومية التركية و العربية والفارسية تفرض مسح كردستان من الوجود، والتضحية بالكرد والقضاء عليهم وإنهاء مجتمعهم وثقافتهم، لذا لايمكن الرد على حصار إبادة ثلاثية كهذا بدويلة قومية كردية أداتية صغرى. الدرس التاريخي الذي يجب استنباطه من هذه المفارقة التاريخية، هو إشراك كافة شعوب المنطقة، وعلى رأسها الأمم المجاورة، في حل العصرانية الديمقراطية من خلال الكيانات السياسية الديمقراطية والتشاركيات الأيكولوجية والاقتصادية والتكنواوجية والتي ليست بدولة قومية بل بأطر حل لكافة قضايا المنطقة وتنظيم إرادة شعوبها ومجتمعاتها والمضي قدماً بتحويل الدول القومية الموجودة إلى كيانات أكثر مرونة وإنفتاحاً وصولاً إلى الديمقراطية والحرية والمواطنة الحرة وتشكيل كيان كلي وسياسي تجسد جيوثقافة المنطقة.