الحدث – القاهرة
أكثر ما عانته
وتعانيه الشعوب حينما تفكر بالقيام بحراك شعبي أو ثورة هي القيادة التي يمكن
التعويل عليها للوصول لأهدافها التي تحلم بها في العيش بحياة كريمة وأمان
واستقرار، كل ما عدا ذلك يمكن اعتباره من الكماليات كما يقال. لأن عنصر توفر
القيادة هي العامل الوحيد في نجاح الثورة أو من عدمه. وربما تكون بعض الثورات لها
قياداتها التي أوصلت الثورة لما كانت تدّعيه لأهدافها، ولكن بعد فترة من الزمن نرى
أن تلك الثورات قد انقلبت على ثوارها وتحولت إلى السلطة وتناست الأهداف التي كانت
من أجلها قامت عليه، وهذا لا يعني البتة أنه بمجرد وجود القيادة بأن الثورة تكون
في مسارها السليم والصحيح. بل يجب أن يكون لتلك القيادة هدفها الواضح ومبادئها
التي سيشكل النهج الذي ستسير عليه الثورة وثوراها، والأهم أن يمتلك القائد معرفة
قوية في تحديد الصديق من العدو خلال الثورة، وإن لم يكن هذا العامل الضروري موجود
حينها يمكن القول أنه على الثورة السلام، لأنها ستتحول مع الزمن إلى مجرد ميليشيا
يتم تسييرها من قِبل الآخرين.
أمثلة عدة يمكن
ذكرها ويمكن دراستها لمعرفة الأسباب التي أدت إلى تلك النتيجة غير المرجوة، منها
الثورة الفرنسية وثورة أكتوبر الاشتراكية وثورة الجزائر صاحبة المليون شهيد وغيرها
الكثير التي فقدت بريقها بمجرد وصولها للسلطة وبناء الدولة على حساب المجتمع الذي
قامت من أجله الثورة.
ما حصل منذ
العقد من الزمن وخاصة فيما تم تسميته بثورات الربيع العربي والتي انطلقت من تونس
وانتشرت في عديد الدول والبلدان إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن والسودان، نرى أن
معظمها كانت تفتقر للقيادة الثورية التي لديها أفكار مستقبلية، لما بعد الانتهاء
من الثورة أو لما بعد التخلص من الزعيم أو الرئيس، كما اصطلحت عليه ثورات الربيع
العربي الذي كان جُلّ هدفها “اسقاط الرئيس”. وكأنه باسقاطه تكون الثورة
قد نجحت وانتهت.
ربما تكون
التدخلات الخارجية لعبت دور المعول لقيام هذه الثورات، لكن يبقى العامل الداخلي هو
المحفز والدافع وراء كل ما نشهده من حراك شعبي في المنطقة. مصر التي استعادت
نهوضها بعدما حاول الاخوان اسقاطها في المستنقع المجهول، وما زالت تنفض حمل سنوات
الحكم السابقة وما تركه من ترهلات على عموم المجتمع المصري وتحاول مواكبة التطورات
والمستجدات التي تحيط بها والوقوف مجددًا، أما باقي الدول التي لا زالت تعاني
التشتت والصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية والسلطوية، مستمر فيها مسلسل القتل
والتهجير والاغتصاب والفساد وقضم الأراضي، والكل فيها منتظر ما ستنتهي منه
اجتماعات استانة وسوتشي وجنيف. أو ما سيقوله المبعوثين الأميين لتلك الدول وفقًا
لما يحملونه من أجندات ومصالح ترعى في المقام الأول مصالح قوى النفوذ والهيمنة
الدولية، مع مراعاة مصالح الدول الإقليمية بنفس الوقت.
بشكل عام
وبالنظر للخلف قليلًا نرى أن معظم الحراك الشعبي الذي تم والذي أطلق عليه بعض
الأحيان ثورة، كانت غير مخططة وليس لديها أي رؤية مستقبلية ولا تمتلك أدوات التحول
نحو بناء الجديد. كل ما كانت تمتلكه هو عبارة عن شعارات جوفاء وخاوية من الجوهر
وهي بعيدة كل البعد عن تمثيل تلك الشعارات بنفس الوقت. معظمها بدأ بشعار
“الشعب يريد اسقاط النظام”، وليتحول بعدها إلى “يا الله مالنا غيرك
يا الله”، ومن بعدها انتهت الثورات وليتحول الثوار بغمضة عين إلى جامعي
الثروة والمال والدولار وعبدة السلطة ومريدين للخليفة العثماني أردوغان.
في فلسفة الثورة
قاعدة لا يمكن تجاهلها وهي أنه أية ثورة لا تعتمد على شعبها ونفسها، بكل تأكيد
ستتحول بعد مرحلة إلى ثورة مضادة تأكل نفسها وأولادها. وهذا ما حصل على أرض الواقع
في سوريا وليبيا واليمن والسودان والعراق وتركستان، حيث تحول الثوار إلى بنادق
مأجورة أو بنادق تحت الطلب ولمن يدفع أكثر وارتموا في أحضان أردوغان على أساس أنه
يمثلهم في الدنيا والدين والآخرة.
أردوغان الذي
اعترف هو بنفسه بأنه أداة وحالة وظيفية لدى قوى الهيمنة الغربية من أجل تنفيذ مشروع
الشرق الأوسط الكبير، استطاع باسلوبه وخطاباته الدينية أن يخدع ويوهم من حمل
السلاح بأن النصر من عنده وليس من عند الله، وهو فقط هو من سيجلبه لهم إن هم
أطاعوه ونفذوا ما يأمرهم به. بذلك تحولوا إلى مرتزقة تحت طلب أردوغان ينفذون
أجنداته الإقليمية والدولية، بعدما باعوا الوطن والشعب والقومية والدين كرمىً
لعيون أردوغان والدولار.
أردوغان الذي
يعاني هو بالأساس من مشاكل داخلية كبيرة من الناحية السياسية والاقتصادية وارتفاع
نسبة التضخم والبطالة في تركيا، كيف له أن يكون نصيرًا وداعمًا لمرتزقة خارج حدود
تركيا. والكل يعلم أن كافة محاولات أردوغان للتخلص من المأزق الداخلي هو أنه يتبع
سياسة الهروب نحو الخارج أو القاع. يعني بمكننا القول أن دولة أو بيت أردوغان هو
أوهن من بيت العنكبوت ومتصدع من الداخل بشكل كبير وأنه آيل للسقوط في أية لحظة
تسحب قوى الهيمنة يدها من عليه.
لكنه المال
والسلطة التي تعمي البصر والبصيرة حينما يكون الانسان عبدًا لهما. وهذا ما حدث مع
ثورانا الذين أرادوا أن يسقطوا النظام، فسقطوا هم والنظام والوطن ولم يتركوا شيئًا
للشعب. وينطبق على المرتزقة بكل تسمياتهم القومية والمذهبية الذين تحولوا إلى
بنادق مأجورة، قوله تعالى: ﴿مَثَلُ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ
الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ (العنكبوت:41). والمعارضة باتت مثل الذين جعلوا اردوغان من دون الله وليّ
يرجون نصره، وهم كمثل العنكبوت التي عملت بيتًا لنفسها ليحفظها، فلم يُغن عنها
شيئًا عند حاجتها إليه، فكذلك هؤلاء المرتزقة لم يُغْن عنهم أولياؤهم (الضامنين
الثلاث) الذين اتخذوهم من دون الله شيئًا، وإن أضعف البيوت لَبيت العنكبوت، لو
كانوا يعلمون ذلك ما اتخذوهم أولياء، فأردوغان لن ينفعهم ولكن سيضرهم.
وفي لحظة عابرة
سيتخلى أردوغان عن مرتزقته يلاقون مصيرهم المجهول والذين لم يتبق لهم مكانًا يأوون
إليه لا في وطنهم ولا شعبهم بعدما باعوهم بأبخس الأثمان في بازارات السياسة إن كان
في استانة أو سوتشي أو جنيف. فكل هذه المدن لها تاريخها المعروف للقاصي والداني
وما هي وظيفتها في الحفاظ أولًا وأخيرًا على أموال ومصالح القوى المهيمنة العالمية
إن كانت غربية أو شرقية.
إيجابية واحدة
يمكن أن تراها خلال ما سُمي بالربيع العربي وهي أنها اسقطت القناع وكشفت الزعماء والثوار
العراة الذين لا يمثلون شعبهم ولا وطنهم، بقدر ما يمثلون بنادق مع خليفة وما هم
سوى بنادق تحت الطلب عند قوى الهيمنة العالمية. كشفت هذه الثورات حقيقة أردوغان
الذي انخدع به الكثير من الزعماء والشعوب على أنه من يمثل الإسلام الحقيقي وهو من
سيحرر الأراضي المقدسة، لتكشف هذه الثورات أن أردوغان أسوء زعيم انتجته وصنعته قوى
الهيمنة الناهبة لنشر الفوضى والخراب والقتل والدمار في المنطقة، وكذلك أثبتت
الثورات أن الثورة السورية أنتجت أحطّ وأقذر مرتزقة وَلِدَت من رحم نظام أسوء منها.
سوريا والعراق
كجغرافيا بعيدًا عن المسميات كدولة كانت تُسمى ميزوبوتاميا وبلاد الرافدين يومًا
ما، حينها كانت مهد البشرية والأديان والعلوم. وها نحن نراها تعيش أسوء مراحلها
تحت سلطة هذه الفئة الضالة عن التاريخ والجغرافيا والمجتمع. والذي يثبت بأن أي
دولة وسلطة وثورة لا يكون المجتمع وبناءه وصونه هو هدفها الأول، يمكن اعتباره عالة
وورم على هذه الجغرافيا. ولنا في ملحمة جلجامش دروس كثيرة حول هذه النقطة بالذات.
حينما أراد البحث عن الخلود خارج مجتمعه، وبعد رحلته الطويلة وفقدان أعز أصدقائه
أنكيدوا، عاد جلجامش إلى مدينته أوروك ليخدم المجتمع ويرى خلوده وحريته تكمن في
تأمين الحياة الكريمة للمجتمع وكذلك الاستقرار ونشر المحبة بينهم، بعدما كان قبل
ذلك يظلمهم ويأخذ منهم القرابين والضرائب كي يرضى عنهم. لكن زعماءنا الذين تحولوا
إلى أصنام لا يرون المجتمع إلا كبقرة ينبغي الاستفادة منها لأقصى حد وحينما تنتفي
أسباب وجودها يقومون ويذبحوها، وهو ما نراه في سوريا والعراق وتركيا وغيرها من
البلدان التي ابتلت بداء ما سُمي بالثورات أو الحراك الشعبي البعيد عن القيادة
والنظرية المجتمعية الحقة.