إن سيكولوجيا العنف والإبادة وما يرافقها من آلام وماسي ونتائج كارثية تحثنا على البحث بل الغوص في أعماق النفس الانسانية لنفتح من خلالها ملفات سوداء في الصراع والقتال والعنف وينبغي أيضا تسليط الضوء على حقيقة مغايرة تقبع داخل أكثر تجليات الانسانية قداسة وهي السبر في أغوار الحرية وإدراك كافة مدلولاتها والصراع من أجل تحقيقها.
وإذا جاز القول جدلاً: بأن الإنسان حقّاً كائن لا علاقة له بالعنف من حيث الفطرة، بل اكتسبه بفعل ضرورات حتّمت عليه ممارسته دفاعاً عن بقائه، فكيف يمكن تبرير عصور متوالية من العنف؟ وكيف نبرّئ الإنسان من وقائعه؟ وما العلاقة الممكنة إذاً بين الميزة اللاإنسانية المتمثلة في العنف وبين الإنسان؟ وهل ثمة تنبؤٌ مسبق ننتبه إلى ما ستؤول إليه البشرية على الأرض، وما سيحدث فيها، أم أن ما تحويه صفحات التاريخ البشري الدموي، جاء عَرَضاً ولضرورة كان لابد من الامتثال لها؟ إن إلحاق صفة “العنف” بالإنسان أمر عويص حقاً. ذلك لما تحمله لفظة “كلمة العنف” من مدلولات ومؤشرات فما بالكم بالاستعمال المفرط لها، ولعل أهم ما يمكن البحث عنه استخدام آلية العنف المفرط من قبل الانسان ضد جنسه البشري وهذا يجعلنا لا نفصل عناصر التوثيق التاريخي عن النظريات التي حاولت البحث عن حقيقة العنف والإنسان. وكذلك جميع العوامل المؤثرة السيكولوجية، والسوسيولوجية، الفيزيولوجية، البيولوجية، وليس اعتبارها قضية أنطولوجية محضة (أي قضية الوجود) ومع مرور الزمن خرج استخدم القوة من إطار حماية النفس ضد المخاطر المحدقة بالإنسان إلى أشكال وأنواع لا تحصى بل وبلغ أوجها إلى التطرف والتعصب (الجنسي، القومي، الديني، الطائفي والثقافي) طبعاً كل ذلك تحت شعارات وحجج واهية فارتكبت أفظع المجازر والإبادات وهذه الايديولوجيات تحمل في طياتها بذوراً للكراهية والتطرف وبهذا دفع الانسانية أثمان باهظة، فشعوب سحقت وإمبراطوريات انهارت وحضارات اندثرت ولغات انصهرت وإلى يومنا هذا نشهد تراجيديا الصراع والبقاء. ويقينا منا ان ويلات الحروب طالت المرأة من الالم والمعاناة والقهر والعنف والتشريد واقسى الظروف التي اجتاحت بلادهن بالإضافة الى كافة اشكال العنف المجتمعي الممارس ضدها ولم ترضخ لتلك الممارسات بل حملت راية تحرير وطنها والكفاح من اجل تحقيق الحرية والعدل ويذكرنا التاريخ بان فراشات قاومن طغاة وعنفهن وحققن السلام (كالأخوات ميربال) في جمهورية دومنيكان.
مما لاشك فيه أن الأطفال والنساء هم الفئة الأقل قدرة على حماية أنفسهم في زمن الصراعات والحروب الدولية منها وغير الدولية ولذلك خصتهم القوانين والمواثيق الدولية بأهمية لتجنيبهم العنف والانتهاكات التي ترافق الحروب والنزاعات ولتقليل آثارها، وتأمين الحماية الكافية لهم.
لم تنشأ القوانين الدولية المتعلقة بحقوق الانسان من فراغ بل هي إفراز لمجموعة القيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية التي تدعو لحماية الانسان، ولمّا كان تناسي حقوق الانسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال أذت الضمير الإنساني كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الانسان، ولكن إلى الآن مازال الانسان في الكثير من مناطق العالم يسعى للحصول على حقوقه المنتهكة التي ضمِنها القانون الدولي عبر مواثيق إلا أنه في هذه اللحظات التي نتقاسمها معكم تحدث العديد من الانتهاكات بحق الإنسانية وبخاصة في المناطق التي تشهد حروباً وصراعات والتي باتت مشهداً مألوفاً ومنتشراً في الشرق الأوسط ونعيشه بشكل حي ويومي في سوريا عامة وفي شمال شرقها خاصة، حيث تعرض ويتعرض العديد من الأطفال والنساء لأشد أنواع الانتهاكات منذ بداية الحرب ضد الارهاب في عام 2012 وصولاً إلى العدوان التركي واحتلاله مناطق من الجغرافية السورية، حيث ارتكب الجيش التركي أفظع المجازر وإجرائه التطهير العرقي والتغيير الديمغرافي للبنية السكانية في المنطقة، ولتحقيق هذا الهدف شهدنا الانتهاكات المرتكبة بحق المدنيين والمستمرة من قبل الجيش التركي والفصائل المسلحة التابعة له من قتلٍ وتنكيلٍ واغتصابٍ وتشريدٍ وتهجيرٍ واستخدامٍ للأسلحة المحرمة دولياً واستهداف المباني المدنية بشكل مباشر والبنى التحتية وهذا ما شهدناه في مدينة عفرين السورية منذ بدء الهجمات في 20 كانون الثاني 2018ولغاية يومنا هذا، وقد وتم توثيق العديد من الانتهاكات بحسب إحصائية منظمة حقوق الانسان في الشمال السوري، نسرد منها القسم المتعلق بالنساء حيث تم توثيق:
– فقدان (40) امرأة لحياتها وجرح (100) امرأة أخرى بجروح مختلفة منها ما أدى إلى إعاقات دائمة.
– تعرض (60) امرأة للاغتصاب, وخطف (1000) امرأة على يد الفصائل المسلحة التي تعمل تحت إمرة الجيش التركي وكل هذه الاحصائيات موثقة بالأسماء والتواريخ وهي لا تمثل سوى 30% من مجمل الانتهاكات الحاصلة على أرض الواقع والتي يصعب الوصول إليها بسبب الطوق الأمني الذي تفرضه الفصائل المسلحة وخشية الأهالي من البوح بها خوفاً من العار لدواعي الشرف ناهيك عن عدم السماح للمنظمات الحقوقية والوكالات الإعلامية المستقلة من الدخول لمنطقة عفرين لرصد تلك الانتهاكات وتوثيقها.
كذلك التهجير القسري لأكثر من (80%) من سكان عفرين الأصليين إلى مخيمات الشهباء وأماكن أخرى، حيث تسبب ذلك بالمزيد من المعاناة وخاصة لدى النساء من الآثار النفسية والاجتماعية والصحية في ظل قلة الامكانيات المادية والمعيشية دون الحد الأدنى وانتشار الأمراض نتيجة قلة المراكز الطبية المختصة وسط غياب تام للمنظمات الإغاثية والإنسانية وحصار خانق من كافة الجهات.
واستكمالاً للمشروع التركي الرامي إلى قضم المزيد من الجغرافية السورية، قام الجيش التركي مع الفصائل الموالية له بتاريخ 9/10/2019 بشن هجمات على مدينة سركانية وكري سبي مستخدماً شتى أنواع الأسلحة الثقيلة بالتزامن مع قصف للطيران والمدافع دون التفريق بين الأعيان المدنية والأعيان العسكرية مما أدى إلى انهيار البنية التحتية وفقدان عشرات المدنيين لحياتهم وإصابة المئات، وكذلك أدى إلى موجة نزوح كبيرة لأكثر من (300) ألف نازح من سكان مدينتي سركانية وكرسبي وريفهما إلى المناطق المجاورة المكتظة أساساً بمئات الآلاف من النازحين من الداخل السوري والمهجرين العراقيين والآلاف من عوائل داعش داخل المخيمات، وبهذا أصبحت المنطقة على حافة كارثة إنسانية بسبب الضغط الكبير على المنطقة وضعف الامكانات الإغاثية المتوفرة وخصوصاً بعد تعليق المنظمات الإنسانية الإغاثية منها والطبية عملها مما زاد العبء على كاهل المنظمات المحلية المحدودة الخدمة مسبقاً، الأمر الذي شكّل ضغطاً كبيراً على الإدارة الذاتية، وهذا الوضع المأساوي أثّر على النساء والأطفال النازحين بسبب فقدان المسكن الذي كان يوفر الأمن والاستقرار الأسري لهم، كما تسببت هذه الهجمة الأخيرة بتهجير العوائل وفقدان أفراد منها وانفصالهم عن بعضهم حيث تم توثيق عدد الأطفال غير المصحوبين بـ (29) طفلاً، والمنفصلين عن ذويهم (15) طفلاً وذلك في مراكز الايواء بالحسكة كما سجلت حالات مرضية ونفسية عند الأطفال مثل داء الكلب، التبول اللاإرادي، الخوف الدائم، الاكتئاب والسلوك العنيف ضد أقرانه وكذلك سجلت حالتي اغتصاب للأطفال في مراكز الإيواء، بالإضافة إلى ظهور بعض الأمراض المزمنة كالربو بلغ عددها (15) حالة، ناهيك عن أن آلاف الأطفال معرضين لخطر الاصابة بالأمراض خاصة وأننا مقبلين على فصل الشتاء بسبب عدم تجهيز المخيمات بالشكل المطلوب.
كذلك نذكر من انتهاكات الجيش التركي بحق المدنيين خاصة الأطفال منهم استهداف المدارس بشكل مباشر منذ بدء الاحتلال في كل من إقليمي الجزيرة والفرات حيث تم تدمير (20) مدرسة بشكل كامل في سركانية فقط، كما تحولت (111) مدرسة إلى مراكز إيواء للنازحين وتوقف بالنتيجة (810) مدارس عن استقبال الطلاب بسبب الاشتباكات ونزوح الأهالي مما أدى إلى توقف العملية التربوية حيث حرم (86000) طالب وطالبة من التعليم وتوقف (5224) معلم ومعلمة عن العمل في سلك التربية والتعليم.
ولم يتوانى الجيش التركي عن قصف المراكز الخدمية الانسانية والطبية والتي تعتبر أهداف مدنية بحسب القانون الدولي الانساني حيث تم استهداف سيارات الاسعاف وبشكل مباشر وخطف طاقم طبي من الهلال الأحمر الكردي حينما كانوا في طريقهم لإسعاف الجرحى ليتم تصفيتهم بشكل وحشي فيما بعد وأسمائهم هي: <المسعفة ميديا بوزان، المسعفة هافين خليل الابراهيم مع سائق سيارة الاسعاف محمد بوزان سيدي> كما تم خطف طبيبة تعمل مع الهلال الأحمر الكردي ولايزال مصيرها مجهولاً حتى اللحظة.
كما انتهكت الدولة التركية وفصائلها المرتزقة اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها الإضافية والقانون الدولي الانساني الناظم لحياة المدنيين زمن الحرب من خلال التمثيل بالجثث وخاصة النساء منهم والتباهي والتفاخر بذلك عبر مقاطع فيديو مصورة، ففي عفرين تم التمثيل بجثة المقاتلة بارين كوباني وكذلك المقاتلة عزيزة جلال المعروفة بـ أمارا زاغروس في قرية الجلبية التابعة لكوباني، كما وقامت الفصائل الإرهابية التابعة لتركيا بأسر المقاتلة جيجك كوباني التي أصيبت في المعارك وإهانتها بكلمات بذيئة تنم عن عدم مراعاتهم للقيم الانسانية والأخلاقية والأعراف والشرائع الدينية، كما أقدم ما يسمى الجيش الوطني المدعوم من تركيا في الثاني عشر من تشرين الأول 2019 على ارتكاب جريمة الإعدام الميداني بحق السياسية هفرين خلف والتي كانت تشغل منصب الأمين العام لحزب سوريا المستقبل بشكل بشع وهي في طريقها للعمل.
كما استهدف الطيران التركي القافلة المدنية التي كانت تتوجه إلى مدينة سركانية بهدف إجلاء المدنيين العزل العالقين والجرحى مما أدى إلى فقدان (13) مدنياً لحياتهم بينهم “الأم عقيدة” وجرح (70) شخصاً بإصابات مختلفة وبينهم نساء وأطفال، كذلك طال القصف كافة المدن الحدودية السورية شمال شرق الفرات وكانت نتيجته إصابة وفقدان مئات المدنيين لحياتهم بينهم نساء نذكر منهن ذات الثمانين عاماً أمينة مارديني وايمان ابراهيم 24 عاماً وهي أمٌ لطفل، وكذلك جُرِحت كل من تركان الحجي وسارة يوسف حسين التي بُتِرَ قدمها وفقد أحد أشقائها لحياته وأصيب الآخر بشظية في عينه، وإصابة (9) مدنيات بجروح، بالإضافة إلى العديد من الحالات التي تم توثيقها.
كذلك في إطار استهداف البنى التحتية تعرضت محطة <علوك> التي تمد مدينة الحسكة وضواحيها بمياه الشرب لقصف مباشر ومتعمد لتخرج على إثره عن الخدمة وبالرغم من محاولات إصلاحها إلا أن الورشات كانت تتعرض لقصف من قبل الجيش التركي ومرتزقته، الأمر الذي أدى إلى تفاقم أزمة مياه الشرب وتهديد حياة أكثر من (500) ألف نسمة نتيجة انقطاع شبه تام لمياه الشرب في الحسكة وريفها.
كما لابد لنا من الإشارة إلى ارتكاب المحتل التركي للعديد من الانتهاكات بحق الإرث التاريخي والتراث الثقافي الانساني بدأه في عفرين حيث تعرضت المئات من المواقع الأثرية العائدة إلى عصور مختلفة لعمليات نهب وتدمير وتخريب وسرقة بالإضافة إلى عمليات التجريف عبر استخدام آليات هندسية ثقيلة وكذلك الحفر العشوائي, ومنها آثار نبي هوري وعين دارة وترندة وقلعة سمعان. أما حالياً هناك أكثر من (50) موقعاً أثرياً في سري كانية وكرسبي يعتبر من أمهات المواقع الأثرية الهامة مهددة بالسرقة والنهب مثل تل حلف وتل الفخيرية وحمام التركمان وغيرها من عشرات المواقع الأثرية…
كما عمل بشكل ممنهج لتغيير التراث الثقافي الانساني للسكان الأصليين في الشمال السوري من خلال فرض عادات وتقاليد ولباس إسلامي متشدد على كافة العوائل في مناطق سيطرتها ومحو ثقافتهم، ونذكر حالة العائلة الأرمنية التي تم فرض اعتناق الدين الاسلامي عليهم وإلزامهم بتغيير أسمائهم الأرمنية إلى أسماء عربية اسلامية .(ارتين الارمني المسن تم تغيير اسمه الى معروف وزوجته سيرون تغيير اسمها الى فاطمة).
كما أن الهجمة التركية أدت إلى إنعاش داعش من جديد حيث شهدت المنطقة سلسلة من التفجيرات في المناطق الآهلة بالسكان أدت إلى فقدان العديد من المدنيين لحياتهم وجرح العشرات بينهم نساء وأطفال، وقد تم توثيق أسماء (13) ضحية فقدت حياتها وإصابة (11) ضحية أخرى نذكر منهم العاملتين في بلدية الحي الغربي بقامشلو زوزان شيخو ومدينة الحسين وكذلك فقدان الطفل نوبار حاج ابراهيم لحياته في التفجير ذاته.
إن العنف الممارس المتمثل بجرائم وانتهاكات التي ارتكبتها الدولة التركية والفصائل الموالية لها ترقى إلى مصاف جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية هدفها التغيير الديمغرافي في البنية السكانية من خلال ارتكاب المجازر والإبادة العرقية وارغام السكان على النزوح القسري الذي يتم وسط صمت دولي للأمم المتحدة وللمنظمات المعنية بحقوق الإنسان وحقوق المرأة.
فنحن اليوم أمام مشاهد إنسانية غاية في القسوة وأمام حرب فريدة من نوعها، المرأة أحد أدواتها وأحد أهدافها وأحد ضحاياها.