رياض درار
يضيع مفهوم المواطنة في مجتمع يعاني من التفكك، ويتكون من أعراق وأديان وطوائف ومذاهب، وقد امتنع من ممارسة السياسة أجيالاً، وعاش على التنافس والصراع بين هذه العصبيات المتنوعة، أو موحداً إنما تحت ظل القهر والاستبداد، مجبراً على تصور المواطنة مفروضة عليه بالقسر والإكراه وإرهاب الدولة وطغيان الحزب الواحد، والإكراه قاده إلى التمظهر بمظهر الوحدة والشعور بالمواطنة الكاذبة التي لا تقوم على الرضى والقبول. لكنها؛ تخفي الانتماءات المتفجرة والتي ستظهر في أول امتحان لها، فيستفحل القتل على الهوية والاحتماء بالمرجعية والولاء للعصبية.
إن بناء هوية جامعة؛ تقوم على مفهوم الوطنية، لا تستند إلى الأرض وحدها كوطن جامع؛ لأن هذا هو مفهوم للتمييز فقط بمقابل أوطان الآخرين، والوطن لمجرد كونه مكان السكن هذا شكل بدائي؛ لعب عليه المستبدون الذين ربطوه بحزب قائد حيث الانتماء للحزب هو روح الوطنية، أو لشخص قائد والولاء له هو عين الانتماء للوطن، وكل خروج عن ذلك خيانة وردة، وكل تعبير خارج هذا المفهوم مؤامرة.
الوطن حقوق وكرامة ومبادئ حرة، من حق الفرد التعبير عنها، ويجب حمايتها وإن خالفت في نسقها السياسي أو الفكري أو الثقافي السلطة السائدة، أو المفاهيم المسيطرة، وهذه الحقوق يحميها دستور يحترمه الجميع؛ لأن مقياس الانتماء للوطن هو حماية العقد الاجتماعي المتفق عليه، وحماية الأفراد من التحرك في ظله دون قيود، ويضمن مشاركتهم في تمثيله، أو التمثل في مواقعه المرسومة للإدارات والهيئات والمؤسسات. وهذا تعبير متسق مع مفهوم المساواة دون تمييز في جنس أو لون أو عرق أو دين. والفرد الحر هو التعبير الأوفى لصفة المواطن، فالمواطنة هي أفراد أحرار، يختارون التعبير عن رغباتهم ورسم حياتهم وخطواتهم بإرادتهم دون قيود، ويساهمون في الحياة العامة بجميع وجوهها ومختلف مجالاتها.
الحرية الفردية لا تكون عطاء من أحد، فالفرد حر منذ الولادة ما لم تصادر حريته، وهي تسبق التجمعات، وعلى أساس الاعتراف بها تقرر ديمقراطية الأنظمة والمؤسسات، وعلى ضوئها تتبدى مفاهيم المواطنة وصدق التعبير عن حقوق الجماعات، وحين يعبر الفرد بحرية عن مصيره؛ يمكن للجماعات أن تقرر مصيرها لأنها مجموع الأفراد الأحرار فيها.
لقد تبدل مفهوم المواطنة عبر مراحل في التاريخ المدني، بدءاً من تعريف الوطن كمكان للاستقرار (وهو ليس مفهوماً عربياً وإن اعتمد العرب في تعريفه أنه مكان الاستقرار، ومنه موطن الإبل والغنم وهو مكان بروكها وهذا من باب المقاربة؛ لأن الوطن مفهوم سياسي وليس مفهوماً لغوياً). وفي مدن الإغريق كان المواطن هو من تتوفر فيه شروط تجعله قادراً على المشاركة في التصويت وممارسة حق الانتخاب والمشاركة في الشأن العام. لكن؛ المواطن في كتب المفكرين السياسيين المتأخرين هو الفرد الحر القادر على التعبير وعلى المشاركة في النشاط العام، حيث تسبغ المواطنة حقوقاً سياسية على الأفراد، وتجعلهم مستقلين أمام الدولة بما لهم من حقوق وعليهم من واجبات. وفي تعريف ريموند كايتل: “الوطن هو مجتمع من الأفراد يقيمون باستمرار في إقليم معين، مستقلين من الناحية القانونية عن كل تسلط أجنبي، ولهم حكومة منظمة تشرع وتطبق القانون على جميع الأفراد داخل حدود سلطتها”.
في القرن الثامن عشر مع قيام الثورة الفرنسية تدعم مفهوم المواطنة أكثر، وتوضح مع صياغة مبادئ المواطنة وإعلان حقوق الانسان إبان الثورة عام 1789 حين برز دور الفرد، وتميز بالحقوق التي هي حقه دون وصاية من الدولة عليه. لكنها؛ علاقة منظمة عرفتها دائرة المعارف البريطانية “بأنها علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق”.
المواطنة ليس فيها أقليات وأكثرية؛ لأنها تقوم على مبدأ المساواة. والمساواة تعني أن المواطنين مجموع أفراد متساوين، ينتظمهم قانون موحد يطبق على الجميع، أما الجماعات والتجمعات فلها حقوق ثقافية لا تمس؛ لأنها كما الولادة تحمل ملامحها وجيناتها معها، وفي وجودها المتنوع غناء للمجتمعات يجب المحافظة عليها، ومنحها التكريم الكافي والقدرة على التعبير الذي يغني التنوع، ويثري العلاقات الانسانية. وفي هذه الحالة؛ يمكن الحديث عن العيش المشترك كعلاقات تفاعل إنساني تتضمن الاحترام والتكامل، ولكنها لا تغني عن مفهوم المواطنة؛ لأن المواطنة مفهوم سياسي تلحق به واجبات وحقوق سياسية، ووجود الهويات تشمل المجتمع المتنوع. ولكنها؛ لا تستلزم حقوقاً سياسية.
– روناهي