الحدث – القاهرة
بقلم: أحمد شيخو
رغم تفاقم الأزمات والقضايا في المنطقة والعالم وتزايد الصراعات والحروب و الهيمنات ولو لأسباب مختلفة وبأساليب متعددة وأشكال جديدة، لكن الحلول مازالت بعيدة المنال في الإطار والتجسيد الفكري والفلسفي والمجتمعي والاقتصادي والأمني، ومن ظن نفسه أنه يقدم حلول وهو من المنتصرين عبر العصور وحتى اللحظة، كان لايتعدى كونه يشكل ضخ دماء جديدة في أنظمة وهياكل سلطوية ظن أنه إنتصر عليها ،لكنه لم يكن سوى تكرار من ما سبق ونسخ جديدة، ربما احياناً كثيرة اكثر سوءً وفظاعة من سابقاتها.
لكن لو أردنا ان نعرف لماذا بعد كل العمل والجهد المبذول والرغبة الجامحة في التغيير ، مازال مختلف القوى والمؤسسات والبنى المادية والفكرية غير قادرة على أن تقدم حلول للخروج من الأزمات والقضايا التي نعانيها في المنطقة والعالم، ربما علينا محاولة فهم نسبة الحقيقة التي حملناها ونحملها و التي تتضمنها حلولنا وكذلك معرفة الحداثة التي نتبناها ونعيشها يومياً متجسدة في حياتنا وسلوكنا.
إن الأزمة (the crisis ) و لحظات الفوضى Chaos)) غير معلومة النتائج، ونتائجها تتوقف على تنظيم العناصر والمكونات الموجودة فيها لنفسها وطاقاتها، وهي لحظات تضعضع المجتمعات وتعرض حقائقها للتغيير.
من المعلوم أن طبيعية الظواهر الإجتماعية مرنة. وأغلب الأحيان يتوفر احتمالات الحل التعددي حتى في أكثر الأزمات تأزماً. لكن المشكلة تظهر في مدى ارتباط مخططاتنا التي ستسند الحلول إليها بالحقيقة الإجتماعية. حيث من المؤكد انه يستحيل قراءة و قياس الظواهر الإجتماعية و ربطها بالقواعد والقوانيين المادية فقط مثل الظواهر الفيزيائية أو الكيميائية. فالمجتمعات هي التي تحدد الفرد المتمتع بالحقيقية. ولايمكننا فهم أي فرد دون الرجوع إلى المجتمع الذي شكله والذي ينتمي إليه.
ومن دون فهم المجتمعات لا يمكن صياغة حلول تتمتع بمستويات عالية من الحقيقية بصدد القضايا التي تعاني منها، وثمة حاجة أكبر لإدراك المجتمعات للحقيقة، في سبيل القدرة على استيعاب الأزمات الاجتماعية وطرح الحلول أو قبولها.
من غير الممكن قراءة وإدراك وفهم الأزمة عبر المعارف المركونة إلى المجتمع القديم وأفاقه فقط، فمن المحال طرح بدائل صائبة في الحل، ماداكم العجز يطغى على القراءة والفهم والتحليل العلمي. والذي سيحدد الحل في النهاية هو مستوى الحقيقة التي يتضمنها.
ونستطيع القول أنه ما يحدد الإنتصار والنجاح في الممارسة الاجتماعية هو مدى قوة المعنى والحياة، اللتين تحتويها الظاهرة الاجتماعية أو التعابير المناسبة لذلك.
من الصحيح رد غزو وهيمنة حداثة النظام العالمي المهيمن الرأسمالية للمنطقة لتفوق تمثيل الحقائق التي تشملها مجتمعيتها إزاء المجتمعيات الكائنة في المنطقة. حيث أن ممثلي الحقيقة في الثقافة الشرق أوسطية أو المنطقة، التي باتت في حالة المجتمع التقليدي حيال الحداثة الرأسمالية، كانوا قد انجروا نحو وضع لايمكن أن يحالفهم الحظ فيه لينجحوا في وجه حقائق الحداثة. وبإختصار فالحقيقة الشرقية كانت واهنة ومحكوماً عليها بالهزيمة مقابل الحقيقة الغربية.
لكن ليس بمقدورنا تعميم الهزيمة على المجتمع برمته. ذلك أن الذين لاحول ولا قوة لهم و المغلوبين على أمرهم كانوا الممثلين الرسميين للحقيقة، أي أصحاب السلطة والدولة والنفوذ الرسمي والطبقات الفوقية. فالحقيقة السائدة كانت تلك التي قاموا بتمثيلها. وعليه طالت الهزيمة جميع البنى و المؤسسات الفوقية والتحتية التي أوجدت نظام دولتهم وسلطتهم. ولاشك في حال عدم تمسك المهزومين بالمقاومة، فسيرغمون على التبيعية للقوة المهيمنة في ظل تمثيل الحقيقة الجديدة. وهكذا، فليس بمقدور تلك القوى السلطوية الدولتية والفوقية أن تحدد مسار الذهنية وإرادة الحياة في مجتمعاتها والمستقبل. بل تبقى مكلفة بتقديم خدماتها كمؤسسات تابعة و عميلة ومتواطئة مع القوة المهيمنة مقابل ضمان حياتها ومصالحها الضيقة. مع أنها تخلف ورائها جسداً مجتمعياً يتراوح في مكانه، كما البدن المقطوع رأسه. وهنا إما سيصاب بالتفسخ والتحلل حصيلة ذلك التخبط العقيم، لينصهر ويذوب في بوتقة المجتمعية الجديدة للحداثة، أي في أورقة سلطتها وتبعية قوميتها الحاكمة، فيفنى. أو أن ينطلق من طابعه المرن ليبدي مقاومته و رغبته و عزمه على الحياة الحرة المرتكزة على ذهنية حرة، فيما يتعلق ببدنه الذي يرفض الاستسلام والخنوع. أي أن يحقق انطلاقة بذهنية أكثر حرية للنفاذ من الأزمة.
لاريب أن الإنطلاقة بريادة هذه الذهنية الجديدة متعلقة بنسبة الحقيقة التي تحملها بين جوانبها. فما سيحدد نجاح تلك الإنطلاقة هي العلم والفلسفة والفن والأيدولوجيا والتكنولوجيا والأمن والإنتاج الاقتصادي الجديد أي رؤيتها ومنظومة فكرها وعملها وحياتها وترابطهم أي حداثتها الجديدة ، التي تتعدى الحداثة التي مكنت حداثة النظام العالمي المهيمن الرأسمالية من غزو المنطقة وتحقيقة الهيمنة عليها . فالمجتمع الذي يتوجه من المجتمع التقليدي المهزوم صوب الغلبة والنصر بمقدوره هو فقط، أن يحقق خروجاً موفقاً من الأزمة اعتماداً على حداثة بديلة تتخطى نطاق الحداثة المهيمنة والمتحكمة.
ولو عرضنا بعض النماذج:
1_إنهيار الإتحاد السوفيتيى لعجزه عن تصيير نفسه حداثة مختلفة. حيث إتجهت إلى المغالات من استخدام رأسمالية الدولة أو الرأسمالية البيروقراطية. والنتيجة لم تستطع البنى الإجتماعية التي انشأها أن تتفادى الهزيمة والإنحلال. بسبب بقاء نسبة الحقيقة فيها أقل بكثير من الرأسمالية الليبرالية.
2_الحركات السلطوية والدولتية أو من غايتهم فقط الوصل للحكم والتي هي ظواهر منحرفة وضالة مستوى الحقيقة فيها منخفض ومتخلف كثيراً كحركات الإسلام السياسي أو السلطوي والقوى السلطوية الأخرى والتي هي غير قادرة على تحاشي الهزيمة بالرغم من تفوقها الإيدولووجي، فالبنى الإجتماعية التي تقدم نفسها على أنها الشكل المستحدث من من التقاليد السنية كما في المنطقة ومنها تركيا الأردوغانية وتوابعها الإرهابية من داعش والقاعدة والإخوان والتقاليد الشيعية في مدارس قم في إيران لايمكنها بنسبة الحقيقة التي تحتويها من بلوغ عتبة الحداثة الرأسمالية الليبرالية. ولن تستطيع من إنقاذ نفسها من الهزيمة حتى لو وحدت صفوفها أمام إسرائيل. التي تعد النواة المهيمنة للحداثة الرأسمالية الغربية، لسبب أن مستوى الحقيقية التي نظمتها إسرائيل يتجاوز بكثير مجمل حقائق المضادين لها وليس لقوتها النووية.
وطرح التقاليد الثقافية الإسلامية على أنها حداثة مغايرة لايجدي نفعاً ولا يكون سوى حالة إعداد نسخ زائفة مطابقة للتحف القديمة ومحاولة بيعها. كما السلطة الإيرانية الرسمية الراهنة ومزاعمها التي تطرحها بشأن الحداثة. والتي لامعنى لها سوى التضليل ولايمكنها تقديم فرصة حياة جديدة.
3_ طرح البعض للنموذج الصيني أوالروسي على انها حداثة مغايرة للنظام العالمي المهيمن الرأسمالي هو لغط كبير بل أن هذه النماذج هي نسخ للحداثة الراسمالية أكثر وحشية وأكثرها تمثيلاً لجانبها المظلم المضاد للحرية والديمقراطية والإرادة المجتمعية.
وهنا يمكننا ذكر العصرانية الديمقراطية والأمة الديمقراطية للمفكر والقائد عبدالله أوجلان كحداثة بديلة وكحل للأزمات والقضايا في المنطقة والعالم. ونستطيع النظر إلى الأنتقادات التي توجهها العصرانية الديمقراطية والأمة الديمقراطية إلى تجربة السوفيت على أنها لاتعني رفض الاشتراكية ولاقبولها بشكل دوغمائي. بل أنه تقرأها كتجربة وتمتص من صلبها وتجربتها حقيقة الحداثة المناهضة للرأسمالية ويتخطى مساوئها ويتبنى محاسنها، كما رؤيتها لمعظم التجارب السابقة والمجهودات الإنسانية وكما أنه يصوغ القراءة و التحليل العلمي الدقيق للثقافة التقليدية في الشرق الاوسط وعموم المنطقة، مستحدثاً بذلك الحقيقة الكامنة فيها ليصيرها أهم المرجعيات والإستنادات. فالعصرانية الديمقراطية أو الأمة الديمقراطية أو الإدارة الذاتية الديمقراطية ليست حلم للمستقبل او خيال بل ترجع جذورها إلى التقاليد الثقافية المعمرة آلاف السنين. والحقيقة الراهنة هي مجتمعها الحالي الذي هو واقع قائم. مهما ترك يتخبط في العقم واليأس. وكونه واقع فله نصيب من الحقيقة. لكن يتوجب عدم الخلط بين التقاليد وبين النزعة المحافظة حيث أن النزعة المحافظة هي تعصب ولاتشير إلى التقاليد المجتمعية بعينها بل هي ممثلة للتقاليد السائدة المغلوبة على أمرها والتي تجهد للصمود أمام الليبرالية. وهنا نؤكد يستحيل الحديث عن عصرانية ديمقراطية أو أمة ديمقراطية لاترتبط جذورها بالتقاليد المجتمعية كونها هي الواقع التاريخي للعصرانية الديمقراطية فلا مجتمع بدون تاريخ ولا عصرانية ديمقراطية من دون تاريخ أيضاً ومن دون التأسيس على فهم وإدراك حقيقة المرأة وضمها بصفتها المكون الأساسي للحياة الحرة والديمقراطية.
أسبوعين مضت
4 أسابيع مضت