الحدث – القاهرة
ظهر الكثير من الطغاة والمستبدين على مرّ التاريخ ولا زالوا حتى يومنا هذا يسعون لتبرير ظهورهم على أنهم أفضل من يمثل المجتمعات والشعوب والتطور والحداثة، ويعملوا من أجل ذلك كل ما لديهم من دهاء وحِنكة ومكر وخداع لإجبار الشعوب على تصديق ما يقولونه وليس ما يرونه من مواقف لهؤلاء المستبدين. والسبب بسيط جداً هو أنهم يواجهون مؤامرات تُحاك ضدهم كي لا ينفذون ما يحلون به من تطور ورفاهية التي ستعود في النهاية على الشعب.
بهكذا أقاويل وخطابات يستمر الطغاة في خداع الشعوب بأساليب شتى ولكن أفضل اسلوبين ناجحين تم استخدامهما حتى الآن كانا الخطاب الديني والقوموي الشعبوي. وبالفعل كانت نتائج هذين الخطابين مثمرة جداً وجعلت الطغاة يستمرون في استبدادهم وخداع الشعوب بهما، حتى وصلنا في النتيجة لهندسة مجتمعات نمطية وقزمة وقطيع يسير خلف المرياع الذي يتم تعيينه من قبل هؤلاء المستبدين. ظاهرة لا زالت مستمرة وبكل قوتها وماهيتها في حاكميتها على منطقة مشرق المتوسط منذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا، رغم الكثير من العقائد والايديولوجيات الدينية والقومويةواليسارية التي ظهرت.
مع العلم أن معظم الديانات التوحيدية منها والفلسفات الوضعية التي اقنعت المجتمعات أنها ستكون السبب في خلاصهم من الحالة المزرية التي يعيشونها، وأن من يؤمن بهذا الدين هم فقط من الفرقة الناجية والتي سيكون الفردوس من نصيبها متكئين على الأرائك فيها على ضفاف من أنهر ما طاب للإنسان أن يشرب. هي نفسها الأيديولوجيات القوموية التي ظهرت بُعيد الحرب العالمية الأولى والتي تم تصديرها لمنطقتنا من أوروبا وخاصة من ألمانيا النازية وفرنسا الفرانكقونية وإيطاليا الفاشية. وهي نفسها الايدولوجية اليسارية التي أتت بُعيد ثورة أكتوبر والتي انتشرت احزابها كالهشيم في مجتمعاتنا على أساس الانتقال إلى مجتمعات العدل الخالية من الطبقات.
من حيث الجوهر لا خلاف بين هذه الايدولوجيات فمعظمها اقنع الانسان والمجتمعات بأنها الأفضل وهي فقط من ستحقق أمنيات وآمال المستضعفين والفقراء في الأرض، بمجرد التخلص من أرباب العمل الانتهازيين وكذلك من الرأسماليين. شعارات كثيرة نتجت عن هذه الايدولوجيات وكلها كانت توحي إلى أن النصر بات قاب قوسين وأدنى للوصول لتلك الفردوس التي ما زالت مفقودة ومخفية وراء تلك الشعارات والفتاوي.
عقود مرّت ولا زال الكهنة القومجيون اليساريون منهم واليمينيون وكذلك الدينويون يرفعون نفس الشعارات التي عفى عنها الزمن وكأنهم لا زالوا يعيشون القرن العشرين. طبعاً، فشلهم في مشاريعهم تلك ينسبونه للمؤامرات التي تُحاك ضدهم من قبل الكثيرين الذين يتربصون بهم، وهي نفس الخطابات الرنانة المتداولة بينهم، ولم يفكروا بتاتاً في مسؤوليتهم في هذا الفشل الذي أدى لتشتيت المجتمعات والشعوب جراء مهاتراتهم العقائدية.
دائماً ينبغي أن يكون هناك سبباً لعدم تمكنهم من تنفيذ مشاريعهم وفشلهم في اقناع الشعوب بأحقية ما ينادون به من شعارات جوفاء أكل عليها الزمن. شيطنة الآخر والبحث عن ضحية تكون السبب لهذا الفشل أو إن لم يكن هذا متواجد، فهناك مخطط انقلابي لصالح العدو أي عدو كان المهم هو إلهاء الشعوب به.
بكل تأكيد أن من نجح إلى الآن في تسيير مسرحية الانقلابات حتى الآن هو أردوغان الذي لا يضاهيه أحد في ذلك. إذ، أنه يعرف متى وكيف يكشف عن موعد هذه المسرحيات التي يستثمرها بكل تفاصيلها للتخلص من الذين يعارضونه في سياسة إدارة البلاد والعباد. وعرف أردوغان كيف يستثمر بالانقلابات الشكلية لصالحه مستخدماً خطاب المظلومية الخليط من القومجية والدينية، ليكون بمقدوره أن يمسك زمام المبادرة ثانية وينتصر على كل من يفكر فقط بالتخلص منه.
مسرحية الانقلاب الجيش الذي استثمره اردوغان في 2016 نجحفيها في التخلص من أكبر عقبة كانت أمامه وهي الكرد والجيش. حيث اعتقل آلاف الكوادر والقيادات الكردية والمؤيدين لحزب الشعوب الديمقراطي الذين أحرجوا أردوغان في الانتخابات. وكذلك الجيش الذي تخلص أردوغان من قياداته وعين بدلاً عنهم ضباط متدينين تم تحضيرهم قبل ذلك بفترة لا بأس بها. وكذلك تخلص من الإعلاميين والقضاة والمحامين ولم يبقِ على أحد خارج دائرته وفرض على الجميع إما الخنوع والاستسلام أو الاعتقال. حتى أن أقرب المقربين منه ابتعد عنه بسبب طغيانه ولم يعد يرَ إلا نفسه وأنه هو فقط على حق والآخرين ما هم سوى شياطين أو أدوات مؤامرة خارجية ينبغي التخلص منهم.
وآخر ابداعات اردوغان في مسرحية الانقلاب هو اعتقاله لعشرات الأدميرالات من قوات البحرية الذين كتبوا خطاب ينبهونه على مشاكل عدة سيواجهها جرّاء سياساته المتبعة الداخلية منها والخارجية. نفس السيناريو يتبعه اردوغان للتخلص من يرفضون أفكاره وسياساته القمعية المستبدة. اعتقالات بالجملة ومن بقي لم يعتقل في مسرحية الانقلاب الأول سيتم اعتقاله في مسرحية الانقلاب أدميرالات البحرية الثاني، وكأنه أي اردوغان يقول لمن لم يفهمه حتى الآن؛ إن لم تكن معي، فأنت ضدي، أي عدوي وأنا لا أرحم أعدائي مطلقاً. وبهذا العرض من مسرحيات الانقلاب حوّل أردوغان تركيا إلى سجن كبير لا يمكن لأي رأي آخر أن يعيش فيه، وكل من يفكر فقط في أن يخرج من بيت طاعة أردوغان سيكون مصيره الاعتقال أو الاعتقال.
الاعتقال هو مصير كل من يرفض ذهنية أردوغان الاقصائية والاستعلائية في الداخل، أما في الخارج أي خارج حدود تركيا السجن الكبير فمصيره التهجير أو القتل والدمار والخراب والنحر على أيدي زبانية أردوغان من مرتزقة الفرق الاردوغانية التي شكلها وفق عقلية قدوته السلطان عبد الحميد. احتلاله لمناطق في الشمال السوري والشمال العراقي وليبيا وأرمينيا يسعى من خلالها أن يسترجع بعضاً من ذهنيته العثمانية المعاصرة وفق قانون هندسة المجتمعات وفق عقلية أردوغان. في هذه المجتمعات لا مكان للذين لا يمدحون أردوغان بكرة وعشيا ويمجدون سلطانه على أنه الخليفة المنتظر الذي سيحرر المقدس.
حالة من التردي الفكري نعيشه بكل تجلياته يومياً ولا زلنا ننتظر الفرج من الآخر الذي هو بحد ذاته من أعطى أردوغان الحالة الوظيفية التي يقوم بها في نشر الفوضى في كل مكان يحل به. وأن أردوغان سيستمر في طغيانه واستبداه في الداخل وكذلك سيستمر في وعيده وتهديده للخارج ما زالت الحالة الوظيفية له لم تنتهِ بعد. ربما يمكن لجمه إن اتفق مناهضوه فيما بينهم على تشكيل جبهة متحدة للتقليل من الفوضى التي ينشرها ومحاصرته في حظيرته فقط.
لكن بالنظر للواقع المعاش بين ضحايا فساد وطغيان أردوغان واستبداه في الداخل والخارج، فلا توحد ماثل أمام العين فيما بينهمولا زالوا على التشتت والفوضى يقتاتون على أن كل طرف منهم يرى نفسه هو من قضى أو سيقضي على مشاريع أردوغان. حالة من الفصام الداخلي تعيشه معظم هذه الجبهات ولا تتنازل فيما بينها حتى على عقد اتفاقات جدية فيما بينها، سوى بعض المؤتمرات الشكلية التي تنتهي مفعولها بانتهاء عرض صور المؤتمرات تلك على شاشات التلفزة أو على وسائل التواصل الفوضوية الاجتماعية.
وما دام الأمر كذلك سنشهد ونرى أردوغان وصرخاته ووعيده هذه المرة في جبهات جديدة وانه يستعد لها من الآن ويرسل المرتزقة لجبهاتها وربما تكون أوكرانيا والصين وخاصة تايوان. وإن اشتعلت هاتين الجبهتين في أوكرانيا وتايوان علينا أن نبحث عن اردوغان بين دمار وحطام واطلال هاتين المنطقتين!
أسبوعين مضت
4 أسابيع مضت