الحدث – القاهرة – بقلم / محمد أرسلان علي
بتنا في عالم الفوضى الذي نعيشه بكل تجلياته ومنذ القِدم ما زلنا نبحث عن الحقيقة التي لطالما كانت الهاجس الوحيد للإنسان للخروج من حالة التشتت الفكري والذهني الذي يعيشه. هذا الفوضى التي زادت من الجهل التي بالأصل كنا نعيشها لتدخلنا في مرحلة أصبحنا فيها لا نعلم إلى أين تقودنا هذه الكمية الكبيرة من المعلومات المغلوطة والمتناقضة والمبنية أساساً على المصالح الآنية لبعض الأنظمة التي لا همَّ لها سوى أن تستمر متمسكة بسلطتها وعرش الاستبداد. منذ مئات السنين وأكثر ما زال الانسان ضحية تلك وهذه المصالح غير المستقرة للأنظمة التي هي بالأساس أيضاً غير مستمرة بسبب مجيئها بشكل مجهول وتسلمها السلطة إما بانقلابات أو انتخابات لا تختلف عن الانقلابات بشيء سوى بتلميعها عبر وسائل الاعلام المملوكة لهذه الأنظمة والأطراف أو الشخصيات.
مجموعة الدول التي تشكلت في المنطقة لخدمة أجندات القوى المهيمنة والمنتصرة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، لا زالت مستمرة حتى الآن على إخفاء الكثير من الحقائق عن شعوبها وخاصة الحالة الوظيفية الموكلة إليها. معظم هذه الدول تحارب وترمي العدو في البحر وأنها لن تقبل إلا بتحرير فلسطين من البحر إلى البحر، لكن تحت الطاولة كما يُقال ثمة تفاهمات وانسجام فيما بينهم ويعملون كل ما في وسعهم على ترويض هذا الشعب المغلوب على أمره على تقبل المجهول الذي ينتظرهم.
وربما أكثر من يمثل هذه الحقيقة هي تركيا التي تم انشاؤها بعيد الحرب العالمية الأولى على أنقاض الخلافة العثمانية المترامية الأطراف، لتأخذ شكلها المعروف الآن ضمن خدود تم رسمها من قبل قوى الهيمنة آنذاك روسيا وفرنسا وبريطانيا ونوعاً ما أمريكا. ومعرفة كيف ساهم يهود الدونمة في تشكيل تركيا التي نراها الآن، سندرك بشكل أفضل كل المواقف والسياسات التركية بمختلف الحكومات المتعاقبة على أنَّ لها دور أداتي وظيفي في المنطقة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.
فمن هؤلاء الدونمة الذي كان لهم الدور في تأسيس الاتحاد والترقي المحامي اليهودي (عمانويل قره صو) والذي استطاع إقناع أعضاء الجمعية بعقد جلساتهم السرية داخل المحفل الماسوني (مكدونياريزورتا)، الذي أسسه اليهودي الدونمي السلانيكي قره صو، وهذا ما أكدته وثيقة بريطانية عام 1910م مرسلة من السفير البريطاني في استطنبول لوزارة الخارجية البريطانية إذ تقول: “إن جمعية الاتحاد والترقي تبدو في تشكيلها الداخلي تحالفاً تركياً يهودياً مشتركاً. فالأتراك يمدونها بالمادة العسكرية الفاخرة، واليهود يمدونها بالعقل المدبر. إذ أن اليهود يسعون للسيطرة الاقتصادية والصناعية على تركيا الفتاة، ولكي يصل اليهود إلى مكان النفوذ في تركيا الفتاة فإنهم يشجعون الاتجاهات القومية التركية“.
وكان من أبرز أعضاء جمعية الاتحاد والترقي من يهود الدونمة الذين كان لهم دور كبير في الحياة السياسية التركية؛ نزهت فائق أحد وزراء المالية في ذلك العهد، ومصطفى عارف أحد وزراء الداخلية في عهد الاتحاد والترقي، ومصلح الدين عادل عمل كمستشاراً لوزارة التعليم التركية وكان نائباً لوزير التربية. ورمزي بك أحد قواد الجيش أيام السلطان عبد الحميد الثاني ثم أحد مساعدي السلطان محمد رشاد. وأحمد أمين يلمان، الذي درس الحقوق وحصل على دكتوراه بالفلسفة من جامعة كولومبيا، ثم أسس جريدة الصباح عام 1907م ثم رئيساً لتحرير صحيفة طنين عام 1908م، ثم رئيساً لتحرير جريدتي الوطن والصباح عام 1918م.
كما عملوا على اغتيال السلطان عبد العزيز لأنه كان يفضل التعامل مع الأرمن على اليهود ولإبعاده اليهود عن المراكز الحساسة في الدولة، وعينوا مراد الخامس، ومن بين هؤلاء المتآمرين كان مدحت باشا والي الدانوب (الطونة) ابن حاخام هنغاري وهو الذي أنشأ المدارس اليهودية في الشرق.
ومن الجدير بالذكر أنه كان ليهود الدونمة دور كبير في مذابح الأرمن شرق الأناضول، ودخول تركيا الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا بعد إقناعهم السلطان محمد رشاد بالدخول في تلك الحرب الخاسرة، حيث احتل الحلفاء معظم أراضي الدولة العثمانية وحاصروا اسطنبول.
وفي عام 1923م أعلنت الجمعية الوطنية التركية قيام الجمهورية التركية وانتخاب مصطفى كمال أتاتورك المولود في سالونيك في أحد منازل يهود الدونمة كأول رئيس لها، بعد تعهده لبريطانيا بالموافقة على جميع شروطها ومنها: “قطع تركيا علاقتها بالإسلام – إلغاء الخلافة الإسلامية – القضاء على أية حركة تسعى لإحياء الخلافة – وضع دستور علماني وصياغة قوانين وضعية مكان الإسلامية“. تظاهر أتاتورك مؤقتاً بالحفاظ على الخلافة وعيّن السلطان عبد المجيد بدلاً من محمد السادس الذي غادر إلى مالطة على ظهر بارجة بريطانية، إلا أن السلطان عبد المجيد لم يمارس مهامه في الحكم. وفي عام 1924م قام أتاتورك بإلغاء الخلافة الإسلامية ونفي السلطان خارج البلاد، وإعلان الدستور العلماني الجديد لتركيا، وتبديل الحروف العربية باللاتينية وبدأ حكمه كرئيس للجمهورية التركية رسمياً.
والملفت للانتباه أن بعد الحرب العالمية الثانية ودخول تركيا حلف الناتو في بداية خمسينيات القرن الماضي، اعترفت تركيا بإسرائيل كأول دولة إسلامية، ومن ذلك الحين تم إعطاء الدور الوظيفي لتركيا في المنطقة بشكل واضح وأهمها كانت: “إيقاف المد الشيوعي –القضاء على أي تطرف إسلامي ضد اليهود – تطويع العرب مع إسرائيل“.
بشكل عام تركيا حتى الآن تُدار من قبل شبكة الغلاديو التي تعتبر الجهاز السري لحلف الأطلسي وعليه يتم تقديم كل الدعم بكافة أنواعه لتركيا للقيام بوظيفتها في المنطقة وبنفس الوقت حمايتها من أي هجمات خارجية كانت أم داخلية. وهذا الأمر يعتبر ساري المفعول على تركيا بغض النظر عن الحكومات أو من هو رئيس الدولة في تركيا.
حتى الآن ونحن في الربع الأول من القرن الحادي والعشرون نرى أن تركيا أردوغان تعربد في المنطقة بكل حرية ولا تستطيع أي قوة أو طرف أن يقف بوجه عنجهية أردوغان وتصرفاته في المنطقة. فها هو يستقبل آلاف الإرهابيين من كافة جنسيات العالم في مطارات تركيا ويرسلهم إلى سوريا ويقدم لهم كافة أنواع الدعم. وكذلك يحتل بعض المناطق في سوريا بضوء أخضر روسي كان أم أمريكي وأوروبي، والعالم ينظر إلى ما يفعله أردوغان ولا تتعدى صرخاتهم التنديد والشجب الخجول. وكذلك ينقل آلاف المرتزقة من سوريا إلى ليبيا وأرمينيا والصومال واليمن والآن إلى أوكرانيا، والعالم ما زال صامت كما القبور.
هذا الصمت القاتل تجاه جرائم أردوغان ومرتزقته وعربدته في المنطقة مرجعها هي مصالح قوى الهيمنة الدولية ومصالح القوى الإقليمية في المنطقة. فكل هذه الأطراف لها مصالح مختلفة وبعض الأحيان متناقضة مع تركيا وأردوغان، ولكنها تبقى المصالح التي لها اليد العُليا والتي غلبت الأخلاق والضمير المجتمعي والإنساني وحتى قرارات المؤسسات الأممية التي تتغنى بعض الأحيان بحقوق الانسان والديمقراطية.
بشكل عام القليل من يقول الحقيقة في زمن المصالح والنفاق هذه القِلة لطالما تتعرض للتهميش والحرب الصامتة التي تحاول أن تقضي عليهم بعيداً عن فلاشات وسائل الاعلام وكأنه لا يوجد شيء. ومن هذه القلائل يعتبر الكرد إن كانوا في تركيا أو شمالي سوريا والعراق إيران ضحايا الصمت الدولي والإقليمي إزاء ما تقوم به تركيا أو ايران من جرائم بحقهم، وذلك لأن المصالح في عُرف هذه الدول أهم بكثير من الانسان، والمال أهم من معنويات الأخلاق والضمير.
لهذا يعتبر قول الحقيقة في زمن المصالح جريمة لا تغتفر ووجب على قائلها أن ينال عقابه وجزاءه ممن يدَّعون أنفسهم آلهة على البشر. أوجلان الذي كشف حقيقة النظام التركي منذ تشكله وحتى الآن وكيف أن قوى الهيمنة هي من تسانده في عربدته، كان لا بدّ لهذه الأطراف معاقبة أوجلان للكشف عن حقيقة هذه الأنظمة التي اعتمدت الرياء والنفاق في تعاملاتها حتى مع شعوبها، وكشف أوجلان حقيقة مَن يدعون أنهم آلهة وأصنام، عمل أوجلان على تعريتهم وكشف النقاب عن حقيقتهم على أنهم ليسوا سوى ملوك عراة. لهذا نرى أن هذه الأنظمة المتناقضة والمختلفة على كل شيء، فقط توحدت على اعتقال أوجلان واسره ووضعه في سجن انفرادي منذ أكثر من عشرون عاماً وحتى الآن. ولا زالت أمريكا وتركيا وبعض دول أوروبا تصف مقاتلي العمال الكردستاني بالإرهاب. مع العلم هم الذين ناضلوا من أجل حقوق الشعب الكردستاني من كرد وعرب وأرمن وسريان، وهم من وقف في وجه داعش وحطّم جبروتهم بدءاً من شنكال/سنجار وحتى باغوز، في وقت هربت فيه جيوش دول أمام غزوات داعش.
إنه زمن المصالح والعهر السلطوي الذي نعيشه والذي تتغلب فيه المصلحة على الأخلاق في بعض دول المنطقة. هذه السياسة القائمة على المصالح لن تستقر ولن يكتب لها الاستقرار، لأنها متقلبة وتعتمد على سلوك الزعيم والحاكم وخداعه لشعوبه وشعوب المنطقة. أردوغان الذي كان حتى وقت قريب هو العدو والغدار والسلطان والذئب، سيتحول حينما تتغلب المصلحة إلى الحمل الوديع والصديق والشقيق. وهنا في هذه النقطة تتوه الحقيقة وتضيع على شعوب المنطقة التي لا تعرف طبائعها وخصالها المصالح، لأنها مجبولة دائماً على الأخلاق المجتمعية والإنسانية.
أسبوعين مضت
4 أسابيع مضت