الأحد 24 نوفمبر 2024
القاهرة °C

محمد أرسلان يكتب : حروب المياه والغاز وكورونا

الحدث – القاهرة

باتت تتكشف ملامح الفوضى الضاربة في منطقتنا بشكلها المكثف منذ العقد تقريباً والتي لن يسلم منها أحداً وفق المعطيات والتداعيات التي نعيشها بكل تفاصيلها اليومية. هذه الفوضى التي بدأت تحت مسمى “الربيع” والتي تجرعتها بعض الأطراف وآمنت بأنها ستنقل الشعوب والمجتمعات من مرحلة الشتاء القارص الذي كانت تعيشه وتنقله الى مرحلة الربيع بالنسبة لهم.
ربيع تفاءلت فيه الشعوب ببعض الانفتاح والأمل بعد سنوات وعقود من المظالم على يد الأنظمة المتحكمة بمصائر الشعوب والتي اعتلت عرش سلطتها إما بانتخابات نعرف جميعاً كيف تم الإعداد لها وتزويرها أو بالانقلابات والتي أيضا نعرف من خدد لها ومن تم تعيينه، وذلك منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الآن.
هذه الأنظمة التي حولت حياة الشعوب إلى مجرد شعارات جوفاء ساهمت في تردي سلوكيات وشخصية الانسان حتى وصل الدرك الأسف من الإنسانية، والتي راح في نهاية مرحلة تلك الشعارات القومجية والدينية الجوفاء يبحث عن قليل من الكرامة والأمل وعزة النفس، التي فقدتها الشعوب والمجتمعات في غفلة من الزمن وهو يصرخ بـ “الأمة الواحدة من البحر إلى المحيط – الدين هو الحل”. وفي غمرة حماس الشعوب وهي تصرخ بتلك الشعارات الجوفاء تم سرقت كرامتها وخيراتها من قبل تلك الأنظمة التي ادعت أنها من دول الممانعة والمقاومة والصمود، وأنه على صخرتها ستتحطم كافة المؤامرات المحاكة ضد منطقتنا. لنكتشف أننا كنا نعيش الغباء والبلاهة في قمتها مصدقين أننا سننتصر في نهاية المطاف إن تم تخليد القائد الضرورة الذي لم ينجب الله غيره أحداً. حتى صنعنا أصناماً نمجدها ونتعبدها علَّها تنجينا من مجهول المؤامرات الكونية التي تنتظرنا، إن لم نسجد لها ونلف حولها كل يوم سبع مرات بداية الأمر، حتى وصلنا الآن لنرجم نفس الأصنام آلاف المرات في اليوم.
بعضاً من الحقائق بانت لنا وانكشفت في ظل ما سمي بالربيع العربي، بدءاً من حقيقة الأنظمة التي كنا نسير في ظِلها وكذلك حقيقة الشعوب والمجتمعات التي تشرَّبت عقلية الأنظمة الشمولية الحزبية منها والدينية، واللتان لا تختلفان عن بعضهما البعض بتاتاً، بل على العكس فكانتا تكملان بعضهما البعض في الكثير من الأحيان. وأفرزت مرحلة الربيع العربي أسوء ما لدى الأنظمة من سلوكيات في القتل والتهجير والاقصاء من أجل الحفاظ على السلطة مهما كلف ذلك من ثمن تدفعه الشعوب، وفي الطرف الآخر أفرزت أسوء من رآه التاريخ من معارضة لا تختلف عن الأنظمة بشيء من حيث الظلم والقتل والدمار، وكلاهما يمتلك نفس العقلية في القضاء على الآخر وفق ثنائية “من لم يكن معي فهو ضدي”.
وهي نفسها الثنائيات القاتلة التي كنا نتعايش معها منذ عقود من الزمن وتعلمناها في المدارس التعليمية الايدلوجية للنظم الشمولية على غرار “إما معي أو ضدي”، “إما مؤمن أو كافر”، “إما شرقي يساري أو غربي امبريالي”، “إما مع النظام أو المعارضة”، “إما سنّي أو شيعي”، “إما وطني أو عميل”…. الخ. ثنائيات تحولت إلى هاويات قاتلة للكل بيد الكل. حتى الآن كانت الأسلحة المستخدمة في محاربة الآخر من الثنائية هي القتل أو الاعتقال والسجن في أفضل الأحوال حينما تكون في الجهة المقابلة من الهوية القاتلة داخل حدود النظم الشمولية الحاكمة. وكانت قوى الهيمنة تفرض سيطرتها على المجتمعات والدول عن طريق هذه الأنظمة بشكل مباشر أو غير مباشر منذ قرن من الزمن وبدايات الحرب العالمية الأولى وحتى نهاية القرن العشرين.
في القرن الحادي والعشرون ونحن في الربع الأول منه نرى أن الأساليب قد اختلفت نوعاً ما من دون تغيير الأهداف بكل تأكيد. المهم هو الوصول للهدف مهما كانت الوسائل والطرف، وهذا ما يبرره أبو السياسة البراغماتية ميكافيللي والذي تحول إلى أب روحي لكل الأنظمة الفاشية والتي ترى أن “الغاية تبرر الوسيلة”، من أجل الوصول للهدف فيها وجهة نظر.
حروب المياه التي نراها الآن قد وصلت لمرحلة خطيرة جداً باتت تهدد حياة بلدان وشعوب ومجتمعات بأكملها بالتهجير والفناء والاقتتال أو الرضوخ والاستسلام لما هو قادم ومخطط له من قبل نفس تلك القوى المهيمنة على العالم.
ما يحدث في سوريا والعراق لا يختلف كثيراً عما يحدث في مصر من ناحية التهديد بسلاح المياه وتعطيش كِلا المنطقتين لفرض سياسات معينة عليهم تهدف خدمة الهدف الاستراتيجي. تركيا وأثيوبيا لهما علاقات وثيقة جداً مع الغرب وإسرائيل على وجه التحديد منذ عقود وحتى أنها وصلت لمستوى كبير جداً من كافة النواحي الدبلوماسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والتعليمية والصناعات العسكرية. والملفت في الأمر أن تركيا واثيوبيا تستخدمان نفس سلاح المياه ضد دول الجوار خدمة لأطراف خارجية بهدف تركيع هذه الدول في نهاية المطاف.
تركيا التي لديها مشروع “غاب” الذي بدأ في القرن المنصرم على نعري دجلة والفرات وفروعهما ليشمل بناء أكثر من عشرين سداً عليهما والكثير من قنوات الري الضخمة والكثير من المشاريع الأخرى، والتي في محصلتها سيتم قطع المياه عن العراق وسوريا وتعطيشهما. وهو نفس الهدف من بناء سد النهضة على نهر النيل والذي يهدف لتعطيش السودان ومصر.
لن ندخل في علم الأرقام حول طول النهرين وغزارتهما وحصة كل طرف منها ولا في الاتفاقيات الموقعة بين دول المنبع والمصب، لأنه تم كتابة الكثير فيها. المهم هو لماذا هذا التوقيت بالذات ومن المستفيد منه في النتيجة. رغم أحقية اثيوبيا وتركيا من الاستفادة من مياه النهر، لكن بكل تأكيد ليس على حساب الشعوب والبلدان المجاورة. وهنا تدخل السياسة في هذا الأمر ليتحول في النهاية لشد وجذب بين الأطراف وندخل في ثنائية قاتلة للجميع جديدة. والأمر الآخر الملفت للانتباه في كِلا الحالتين هي الأطراف التي تمول هذين المشروعين هي نفسها تقريباً (بعض دول الخليج العربي والصين وصندوق النقد الدولي وإسرائيل وأوروبا).
تركيا التي لم توفر أي قرصة إلا واستغلتها من أجل بسط نفوذها في سوريا والعراق تحت حجج كثيرة واحتلالها لبعض المناطق ليس إلا تطبيقاً لأوهامها في استرجاع العثمانية من جديد بقالب اسلاموي قومجي على يد خليفتهم المنتظر أردوغان. هي نفسها اثيوبيا وآبي أحمد الذي يستغل المياه تحت حجج الإنماء ولكن بكل تأكيد لأهداف سياسية غير معلنة ولكنها مفهومة للكل.
الجغرافيا والتاريخ ينطلقان من الفرات ودجلة والنيل ليبدأن من سوريا والعراق من جهة ومصر والسودان من جهة أخرى، منطقتين كانتا مهد الحضارة الإنسانية والتي منها انتشرت كافة العلوم نحو الأطراف منذ آلاف السنين، والتي منها كانت الحضارة والمدنية والعلم والثقافة التي أسست لتراكم انساني كبير جداً. هاتين الدولتين تركيا وأثيوبيا حينما تريدان ايقاف تدفق نهري الفرات ودجلة والنيل وكأنهما تسعيان لإيقاف تدفق التاريخ والقضاء على الثقافة الإنسانية المتراكمة من آلاف السنين. وتغيير الحقيقة المعروفة وتزوير التاريخ من أجل تشكيل ثقافة جديدة على أساس ديانة ابراهيمية جديدة يتم الحديث عنها ونشرها لنتقبلها كأنها هي الحقيقة الغائبة وليست افرازات كم من الرياء والكذب على التاريخ والجغرافيا والثقافة والشعوب.
ما يُراد من المياه هو نفسه ما يتم العمل عليه بشأن كورونا وإن كانت الأدوات مختلفة بعض الشيء إلا أن الهدف لا يختلف البتة. حيث صرح الكثير من الذين يعملون على هذا الأمر ومن خلال تلك البيانات والتصريحات المتناقضة التي يروجون لها بشكل متعمد بعض الأحيان وبالنظر على نقاظ التقاطع فيما بينها، نصل لبعض النتائج الملفتة للانتباه وهي تجيير البشر وتحويلهم لمجرد روبوتات متحكم بها من قبل جهات معينة ومحددة للوصول إلى الانسان العالمي الذي ينفذ أوامر الحكومة العالمية الواحدة والتي تصدر من الآن الثقافة العالمية الواحدة والديانة العالمية الواحدة ونمط العيش العالمي الواحد، وكل من يرفض أو يعارض ستكون نهايته معلومة بنفس الوقت.
هي نفسها حروب الغاز التي نراها الآن بشكلها المكثف في المتوسط أو منابعها المنتشرة في المنطقة ومن سيستولي عليها ليكون هو المتحكم بالطاقة في القرون القادمة. انه قرن الغاز بامتياز والذي سيحل في المرتبة الأولى ليأخذ مكان النفط ليترك مكانه للغاز.
المياه والغاز وكورونا ثلاث أسلحة فتاكة تضرب المنطقة والعالم وتفرض على الكل من دون استثناء أن يتخذ تدابيره من كافة النواحي كي يكون له موطىء قدم له في القرن القادم. لهذا نرى الصراع والتنافس ما بين القوى الدولية من طرف والإقليمية من طرف أخر محتدم وعلى مستويات مختلفة. حتى أن الاصطفافات والتوازنات تختلف مأنها غير مستقرة. فمن كان مع هذه الجبهة أو الحلف قبل الآن ربما ينزلق لحلف أو جبهة أخرى ومن كان صديقاً قبل الآن ربما يتحول لعدو، والعكس صحيح أيضاً.
إنها مرحلة الفوضى بكل ما تعنيه الكلمة من معنى والتي تجبر الكل على أن يحدد مساره ليس في الوقت الراهن فحسب، بل من أجل أن يكون له دور في المستقبل أو أن يخرج من هذه الفوضى بأقل الخسائر على الأقل.

حروب من نوع آخر يتم الاعداد لها والكل صامت وخاصة من يتضرر منها وهم بالأساس مشتتين فيما بينهم. هذه الأطراف رغم اعترافها بأنه ثمة مخططات تُحاك من أجل النيل منها واضعافها بأسلحة مختلفة إن كانت المياه أو الغاز أو كورونا أو غيرها من الأسلحة الأخرى، إلا أنها متفقة على أمر واحد فقط وهو أن تبقى مشتتة وأن لا يتفقوا على توحيد الجهود فيما بينهم للتصدي لهذه الأسلحة الفتاكة والأدوات التي يتم استخدامها لنشر الفوضى.
المتضرر الأكبر من هذه الحروب (المياه والغاز وكورونا)، هم العرب والكرد على وجه الخصوص وباقي المنطقة بشكل عام. وتسعى قوى الهيمنة إلى تحويل هذه الشعوب من شعوب خاضعة وعبيد للدولة التي شكلتها لهم قبل قرن من الزمن، إلى شعوب عبيد وخاضعة للحكومة العالمية الجديدة. أي من أن تكون عبد خاص لدولة ما إلى عبيد عام وعالمي. تؤمن بالدين العالمي والثقافة العالمية والحكومة العالمية والعملة العالمية الافتراضية.
ونرى أنه رغم الهجمات عليهم من كل حدب صوب إلا أنهم حتى الآن لم يفكروا ببناء جبهة عمل مشتركة ولو بالحدود الدُنيا. الكل يعمل بمفرده وكأنه بهذا الشكل سينجو في نهاية الأمر مما يُحاك له. مع العلم أن العمل المشترك والتعاضد فيما بين الشعوب هو الشيفرة والحل السحري الذي سينجي المنطقة من المجهول المحتوم الذي نسير نحوه إن بقينا على نفس عقليتنا التي تجرعناها في القرن العشرين ولم نتخلص من موروثاتها الثقافية والمفاهيمية والاصطلاحية الدوغمائية السطحية. وينبغي العمل على بناء ثقافة جديدة تكون مبنية على فلسفة العيش المشترك لبناء المجتمع الحر الذي يعمل فيه الكل من أجل الكل وكذلك والانسان الحر على قاعدة الأمة الديمقراطية لبناء كونفدرالية مشرق المتوسط الديمقراطي.

to top