أغرق أردوغان تركيا في سلسلة من النزاعات والخلافات، في ليبيا وسوريا والعراق، وفي الوقت نفسه ضد اليونان وفرنسا وأرمينيا ودول عربية أخرى، وتحاول توسيع نفوذها في الصومال ولبنان وأذربيجان، كل ذلك في ظل أزمة مالية كبيرة تعاني منها تركيا، وانهيار لقيمة عملتها أمام الدولار، وتحذيرات من انهيار شامل لاقتصادها.
والسؤال الجوهري هنا، من أين تمول تركيا كل عملياتها في ظل الأزمات المالية والاقتصادية التي تعاني منها؟ من دون شك، الجواب عن السؤال، يوجه الأنظار بشكل مباشر إلى دور قطر في تمويل المشاريع التوسعية التركية، ولعل ما يؤكد هذا الأمر بشكل جلي، الزيارة التي قام بها وزير الدفاع التركي إلى العاصمة الليبية طرابلس مؤخرا وحضرها وزير الدفاع القطري، واتفاق تركيا مع حكومة السراج على جعل مصراته قاعدة بحرية لها بتمويل قطري، فضلا عن إعادة تأهيل عدد من المقار والمراكز العسكرية المدمرة في طرابلس، لصالح الجماعات المسلحة والإرهابية والمرتزقة الذين جلبتهم تركيا للقتال في ليبيا. وفي الأساس، فإن قضية التمويل القطري للحروب التركية ظهرت بشكل واضح في سوريا، حيث سبق أن شكر وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو النظام القطري على دعمه لعدوان بلاده على سوريا، واحتلالها لمنطقة رأس العين وتل أبيض، وقبل ذلك، كانت قطر الدولة العربية الوحيدة التي أعلنت دعمها للاحتلال التركي لعفرين، ورفضت إدانة هذا العدوان، والموقف القطري المؤيد للاعتداءات التركية في سوريا وليبيا والعراق … تكرر مرارا كلما دعت الدول العربية إلى اتخاذ موقف موحد في مواجهة المخاطر التركية، والسؤال هنا ما الذي يدفع قطر إلى تأييد ودعم الاعتداءات التركية على هذا النحو؟
ثمة من يرى أن هناك جملة من الأسباب الأساسية تقف وراء ذلك، لعل أهمها:
1- أن تركيا وقطر تدعمان وتحتضنان جماعات الإسلام السياسي ولاسيما الإخوان المسلمين في العالم العربي، ولهما هدف واحد من دعم هذه الجماعات، وهو إيصالها إلى السلطة على اعتبار أن ذلك سيحقق مشروعهما الإقليمي، وقد تجلى هذا الأمر بشكل واضح منذ انطلاق ما سمي بثورات الربيع العربي، حيث تحولت تركيا منذ ذلك الوقت إلى مركز للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ومنها وجهت هذه الجماعات نشاطاتها العسكرية والسياسية والإعلامية في دولها الأصلية، فيما تقوم قطر بتأمين الدعم المالي لنشاطهم، كما تدعمهم إعلاميا بقوة من خلال وسائل إعلامها المختلفة.
2-إن قطر ارتمت في الحضن التركي، وقد وجد أردوغان في هذا التوجه القطري، فرصة ذهبية لزيادة نفوذه في منطقة الخليج العربي، إذ بنى قاعدة عسكرية في قطر وبات الأتراك يمارسون نفوذا حقيقيا داخل المؤسسات القطرية السياسية والأمنية.
3-في الوقت الذي تحس قطر بأهمية الدعم العسكري التركي لها، فإنها تخشى بشدة من الأنباء التي تتحدث عن احتمال إلغاء الولايات المتحدة قاعدتها العسكرية في العديد، ولعل هذا ما يدفعها إلى المزيد من الارتماء في الحضن التركي، حيث يجري الحديث عن احتمال توسيع القاعدة العسكرية التركية وإرسال المزيد من الأسلحة والجنود أو حتى بناء قاعدة عسكرية ثانية لهذه الغاية.
4-أن قطر باتت تشكل مصدراً مالياً حيوياً لأردوغان، سواء لإنقاذ بلاده من أزماتها المالية والاقتصادية أو لتمويل حروبه في الخارج، ومع أن قطر سارعت إلى دعم تركيا بـ 15 مليار دولار قبل أكثر من سنة، فضلا عن إطلاق الاستثمار القطري في تركيا على مصراعيه، إلا أن كل ذلك لم يعد يشبع نهم أردوغان للمال القطري، واللافت هنا، هو لجوء أردوغان إلى ابتزاز قطر ماليا، إذ بات يتصل بأمير قطر كلما أحس بالحاجة، مطالبا إياه بالمزيد من المال.
5-في الواقع، من الواضح أن العلاقة التركية – القطرية باتت تأخذ شكل تقاسم الأدوار في المناطق التي تشهد حروبا ونزاعات، فما لا تستطيع قطر القيام به عسكريا بسبب محدودية حجمها وإمكاناتها تقوم به تركيا، فيما الأخيرة لا تستطيع مواصلة مشاريعها واعتداءاتها من دون التمويل القطري.
بعيدا عن البعد الأيديولوجي في علاقة قطر وتركيا، فإن هذه العلاقة أفرزت خطرا تركيا كبيرا على المنطقة بما في ذلك على قطر نفسها، إذ ثمة أوساط قطرية بدأت تتحدث عن مخاوف حقيقية من تزايد تأثير النفوذ التركي داخل السلطة الحاكمة في قطر، فضلا عن أن الدعم القطري يشجع تركيا أكثر على المضي في محاولة شق الصف العربي، والأهم أنه شجع ويشجع تركيا على ممارسة المزيد من الاعتداءات على دول المنطقة، فالاتفاق الأخير بين وزير الدفاع التركي مع حكومة السراج بحضور قطري، يرسخ عمليا الاحتلال التركي في ليبيا، ويمنع تحقيق السلام في هذا البلد العربي، ويشجع أردوغان على المضي في إطلاق العنان لأحلامه التوسعية.
من دون شك، لا أحد ضد علاقات الصداقة والتعاون بين الدول والشعوب، ولكن الهدف من العلاقات بين النظامين التركي والقطري النيل من الدول العربية وشعوبها، إذ باتت تركيا توظف العلاقة مع الدوحة لصالح أجندتها في القضايا الإقليمية المتفجرة هنا وهناك، إلى درجة أن قطر باتت تغرد خارج السرب العربي كلما كانت هناك قضية تثير أمن الدول العربية، فمن سوريا إلى ليبيا مرورا بالعراق والصومال واليمن وتونس والجزائر … باتت السياسة القطرية وكأنها ملحقة بسياسة تركيا وأجنداتها واعتداءاتها العسكرية في هذه الدول.