كثيرة هي الألفاظ العربية التي لا نعرف أوّلَ من استعملها؟ وكيف اكتسبت معناها؟ وكيف صارت تشير إلى شيء أو إلى فعل أو دلالة؟ مثلا متى صارت مفردة مثل “جلس” بمعنى اعتدل في قعدته؟ ومن أوّل من استخدم لفظة “طبيب” من العرب؟ وكيف دخلت بعض المفردات إلى العربية من لغات أخرى عبر قرون؟ وكيف تطوّرت بعض الألفاظ عبر التاريخ، وكيف هاجرت بعض الكلمات من لغة إلى لغات أخرى.
هذا ما تتولّى مهمته المعاجم التاريخية للغات، وهذا ما ظلت تفتقر إليه اللغة العربية منذ نشوئها إلى اليوم، فعلى الرّغم من المحاولات الأولى لتنفيذ هذا المشروع الكبير منذ بدايات القرن العشرين، إلا أنه تعطل ولم يرَ النور، وعلى الرغم من وجود جهات حاولت تبنّي هذا المشروع إلا أنّ تأريخها لمفردات اللغة العربية ظل مقتصرا على ثلاثة قرون من الزمن.
اليوم تقود إمارة الشارقة المشروع المعرفي الأكبر للأمة العربية، وتكشف عن إتمام مراحل العمل الأولى من “المعجم التاريخي للغة العربية” الذي يشرف عليه اتّحاد المجامع اللغوية والعلمية في القاهرة، بمشاركة عشرة مجامع عربية، ليكون المعجم الأول الشامل في تاريخ لغة الضاد.
بعد سنوات من العمل، تمّ خلالها البحث في قرابة 20 ألف كتاب ومصدر ووثيقة تاريخية باللغة العربية، يفتح “المعجم التاريخي للغة العربية” الباب واسعا على 17 قرنا من الزمن ليصل في توثيقه لمفردات اللغة العربية إلى نقوش وآثار يعود تاريخها إلى القرن الثالث قبل الإسلام، ويقود بذلك الباحثين إلى المصادر الأولى للغة ويكشف عبر تتبّع منهجي كيف استخدمت كل مفردة عبر العصور: قبل الإسلام، والعصر الإسلامي من 1 إلى 132 هجري، والعباسي، والدول والإمارات، والعصر الحديث.
ويكشف المعجم الذي يتولى مجمع اللغة العربية في الشارقة إدارة لجنته، عن الانتهاء من التأريخ للأحرف الأولى من اللغة العربية، ومن المقرر أن ترى المجلدات الأولى النور في نهاية العام 2020، معلنا أن المدة التقديرية للانتهاء من كامل المعجم تقدر بستة أعوام.
ويشكل المعجم إلى جانب أنه يبحث ويوثّق لمفردات اللغة العربية مكتبة إلكترونية ضخمة مكوّنة من أمّهات كتب اللغة والأدب والشعر والفلسفة والمعارف العلمية المتنوعة، تمكّن الباحثين والقرّاء بعد الانتهاء من مراحل إعداده كاملة، الوصول إلى أكثر من 40 ألف كتاب ومصدر ووثيقة يعرض بعضها إلكترونيا للمرة الأولى في تاريخ المحتوى المعرفي العربي.
ويعنى المعجم بإيضاح جملة من المعلومات الرئيسية هي “تاريخ الألفاظ العربية”؛ حيث يبحث عن تاريخ الكلمة من حيث جذرها، ويبحث عن جميع الألفاظ المشتقّة منها وتقلّباتها الصوتيّة، ويتتبّع تاريخ الكلمة الواحدة ورصد المستعمل الأوّل لها منذ الجاهليّة إلى العصر الحديث، ويعمل على توضيح “تطوّر المصطلحات عبر العصور”.
إلى جانب ذلك يختص المعجم بالكشف عن تاريخ نشأة العلوم والفنون؛ إذ يبحث مثلا في علوم اللسان العربي وعن جميع العلوم التي نشأت تحت ظل البحوث اللغوية قديما وحديثا من نحو وصرف وفقه لغة ولسانيات وصوتيات وعلوم البلاغة والعروض وغيرها، ويرصد المصطلحات التي ولدت ونشأت وترعرعت في رحاب هذه العلوم.
وقبل ذلك يقارن بين الألفاظ في اللغة العربية وأخواتها من الساميات مثل اللغة العبرية والأكّادية والسّريانية والحبشية وغيرها، وفي هذا المجال تمّ تكليف لجنة متخصّصة من علماء الساميات برصد أوجه الشّبه والاختلاف بين الألفاظ العربية وما يقابلها في تلك اللغات، وذكر الشواهد الحية التي تدلّ على ذلك مع توثيق للمصادر والكتب التي أُخِذت منها.
تجدر الإشارة إلى أنّ المنصة الرقمية التي تمّ إعدادها لهذا الغرض تتميّز بسهولة البحث، وسرعة الحصول على المعلومة واسترجاع النصوص وإظهار النتائج في سياقاتها التاريخية، إضافة إلى أنه يشتمل على قارئ آلي للنصوص المصورة، واعتماده على محلل صرفي يساعد الباحثين على الوصول إلى مبتغاهم في السياقات التاريخية المتنوعة.
-وكالات