هناك حالة أخرى من الموت أكثر ندرة، وهي أن يختار الإنسان الموت أو يتقبله كشكل من أشكال التمرد والاحتجاج على واقع لا يستطيع قبوله. هذا النوع من الموت الاختياري ظاهرة إنسانية فريدة. ففي هذه الحالة يكون للموت معنى آخر غير المعنى الذي نعرفه ونرتعب منه.
– في تاريخ الحركة الكردية الحديثة لم ينتفض الكردي ضد الاضطهاد والتمييز الممارسين عليه لكونه إنساناً كردياً فقط ، بل كان رداً على الذين سعوا وما زالوا يسعون لاجتثاثه من المكان. يريد هؤلاء الطغاة أن ينسى الكردي اسم كردستان، أن ينسى اسم مدينته وقريته، بل أي اسم يدل على هويته. لقد قاموا بترحيل ذهنه من الجغرافيا. غيروا أسماء أمكنة تواجده. ولعل العمل الأكثر فظاظة هو حرمانه من أن يطلق حتى الأسماء الكردية على أولاده. لقد كان تغريب المكان قاسياً على الكردي بنفس مستوى تغريبه عن ذاته.
– هناك أشكال مختلفة من مقاومة الظلم والاضطهاد في تاريخ البشرية. ولكن عندما يُحرم المظلوم من أي شكل من أشكال التعبير عن رفضه للظلم، ويُجرّد من إنسانيته، يتحول الموت متمرداً عندئذ إلى آخر ما يستطيع أن يقوم به لكي لا يحقق الظالمون انتصارهم عليه. أن يموت المقاوم بتهمة هويته دون الاستسلام يعطي لهذه الهوية قانون البقاء. صحيح أن الموت ينهي المقاوم جسدياً، ولكن في الوقت نفسه تنتقل فكرة المقاومة إلى داخل نفسية الطاغية، لتمارس هذه المرة عملاً كفاحياً داخل دماغه. إن شراسة الطاغية ضد المقاوم تكشف مدى خوفه منه. فعندما يموت المقاوم دون أن يستسلم، يصبح الخوف رفيق الطاغية حتى في نومه، وتراوده هواجس انهيار سلطته. ويقف الطاغية بالذات هذه المرة وجهاً لوجه أمام فكرة الموت.
– قد يتساءل البعض لماذا يقوم المناضل بهكذا عمل، مع العلم أنه ليس أقل من غيره حباً للحياة. إن تحليل هذه الظاهرة ليس مستعصياً على الفكر البشري. فعندما يُجرد الإنسان من كل مظاهر إنسانيته، ويعزل عن المجتمع وعن العالم، لا يبقى أمامه سوى هذا الشكل الوحيد لأن يقول “لا” لطغاته. إنه يدرك نهايته. لكنه يريد أن تكون لهذه النهاية معنى خالداً. قانوناً أقوى من قوانين الطاغية.
– لا يمكن للإنسان أن يتمرد على الظلم إذا لم يكن لديه انتماء عميق لمجموع المظلومين الذين يعانون ما يعانيه، كما لا يمكن أن يتمرد إذا لم يكن لديه انتماء عميق للمكان الذي يحوي تاريخه وثقافته وتراثه. فالانتماء للمجموع والحب للمكان يزيدان من قوة التمرد على الظلم، ويعززان من إرادة المقاومة والكفاح.
——-
مقتطفات من كتابي الجديد