الحديث عن فصل الدين عن الدولة موضوع إشكالي، والدين هدفه بناء الإنسان، وهو موضوع عام، بينما الدولة لها غايات محددة في إدارة شؤون الناس المتعددين والمختلفين، ويفترض بها أن تبقى حيادية تجاه الأديان. مهمة الدين أن يجيبنا عن القضايا الكبرى التي تتعلق بوجودنا وأصلنا ومصيرنا، والغاية التي خلقنا من أجلها، وأن يعطينا نظام قيم ومبادئ يمكن أن توجه تفكيرنا وسلوكنا، وتكون مرجعية قيمية لنا. أما الدولة؛ فمهمتها تقديم الخدمة للناس، كالتعليم والصحة والعمل، دون التعرض إلى القلوب فأمرها إلى الله. من هنا يمكن أن نطلب تحرر الدين من الدولة، مع أنه في دولة مرجعيتها الإسلام يمكن أن تبقى قيمًه موجهة للسلوك والتفكير.
إن مثال الفصل في الرؤية؛ نجدها في محنة أحمد بن حنبل مع المعتزلة أيام المأمون، فهي تدل على رؤيتين: رؤية الحاكم في مسألة خلق القرآن، ورؤية الفقيه الذي أراد عدم تثبيت رؤية واحدة للدين يفرضها الحاكم. وهناك من العلماء والفقهاء من قال بغير ذلك، فالماوردي هو من أرسى أن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا. بينما نجد أن الإمام الجويني في كتابه “غياث الأمم” قد انتقد الماوردي في تصوراته وتقريراته من أن أصل الإمامة يعتمد على النقل وحده. ورآها من حاجات الواقع وأن أصلها ما دامت، يقوم على الاختيار من الأمة، أي الاعتماد على الشورى والإجماع وهي علاقات الناس بينهم. وهذا يخرجها من كونها موضوعاً دينياً، وفي هذا يختلف الفقهاء في رؤية أصل الحكم. ولكنا؛ حين نفصل في النص نجد أن فصل الدين عن الدولة، يقوم على أن القرآن الكريم لم يضع للدولة أي أساس أو شكل، وقد فصل بين معنى الحكم الذي هو قضاء الله وشرعه، ومعنى الأمر الذي هو شورى بين الناس “وأمرهم شورى بينهم”. وحديث الرسول “أنتم أعلم بشؤون دنياكم” والدولة من شؤون دنيانا. كما أن النبي (ص) فصل بين مفهوم السلطان والقرآن: “إن الكتاب والسلطان سيختلفان فدوروا مع الكتاب حيث دار”. وقال: “إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها، قالوا: فما نفعل يا رسول الله، قال: أدوا إليهم مالهم وسلوا الله مالكم”، وفي رواية البخاري عن ابن مسعود: “تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم”؛ وكل هذا يدل على الفصل بين الدين والدولة، وأساسه الذي ورد في حديث المسيح عليه السلام “دع لقيصر ما لقيصر وما لله لله”. وهذه فتوى دينية تقرر الفصل بين الدين والدولة.
حين يًدعى إلى الفصل بين الدين والدولة، فإن في ذلك حماية من تدخّل الدولة وآلياتها في الدين، وحماية للدين ذي الأصول الثابتة من الدولة كمتغير. الدعوة العلمانيّة هي لصيانة المتغيّر من الثابت، ولصيانةِ الثابت من تعقيدات المتغير. بهذا المنظور يمكن أن نرى أنّ تطور النهضة الإنسانية؛ قاد إلى ثقافة تستمد مرجعيتها من العالم المحيط وضروراتِ التعايش معه وفيه. هذه الضرورات أرست مفاهيم جديدة وأدت إلى تحديث المجتمع، وتحديث المجتمع قاد إلى الفصل بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، وهو ما أدى إلى إعادة تنظيم المجتمع على أسس الحرية والمساواة والعدالة والعقلانية والحقوق المدنية. وهي عملية لا تتوقف على جيل معين، بل هي في صلب المستقبل الذي لا يتوقف، وتجعل الإنسانَ ــ من دون النظر إلى عرقه أو جنسهِ أو لونه أو دينه ــ نقطةَ ارتكازٍ في المجتمع، وتقدم له الضمانات القانونيةَ اللازمةَ لممارسة تلك الحقوق والاستقلالية. العلمانية لم تكن خياراً إيديولوجياً، بل هي واقع تاريخي وموضوعي. وهي حركة منفتحة أبداً على التحول، بلا نهائيات ولا غائيات، وتؤدي إلى الاستقلال النسبي للمجتمع الديني، والمساواةِ الكاملة للمواطنين أمام القانون. إنها ليست مجردَ فصل الدين عن الدولة، بل صارت رؤيةً تحمل ملامح جوهرية لإنسانية الإنسان، وتعبر عن طموحه إلى السيطرة على المعوقات التي تقف في طريق تقدمِه وسعادته. من هنا؛ أعتقد أنّها ليست بصدد معاداة للدين، وإنّما هي وسيلةٌ للتجديد الديني نفسه بما يتلاءم ومستجدات الحياة.