على مدى عقود مضت والكرد متهمون بالانفصال واضعاف الأمة العربية وتقسيم الوطن العربي والعمل على تشتيت الفكر العربي وذلك من خلال مطالبتهم بحقوقهم الأقل من عادية بالنسبة لهم كشعب أصحاب تاريخ وثقافة وجغرافيا. التهمة كانت جاهزة دائماً من قبل الذين الكثير من العرب الذين ادَّعوا العروبية كطريق نحو توحدهم ووحدتهم والاسلاموية كدين كسبيل لتحرير أراضيهم المحتلة إن كانت فلسطين أو لواء اسكندرون المحتل من قبل تركيا وكذلك الجزر الامارتية المحتلة من قبل إيران. مع العلم أن سوريا لم تعد تطالب باسكندرون وفق اتفاقية اضنة الموقعة مع تركيا منذ عشرون عاماً وكذلك الامارات لم تطالب بالجزر حتى الآن، وأما فلسطين وقضيتها فقد تحولت إلى تجارة رائجة ومربحة لكثير من الدول العربية وحتى أصحاب الشأن الفلسطيني من بمختلف تياراتهم وكل ذلك على حساب الشعب.
تهم كانت جاهزة في أي وقت يفكر أو يعمل فيها الكرد من أجل نيل حقوقهم السياسية والثقافية ودائماً كان على الكرد إثبات براءتهم منها، لكن من غير جدوى. لأن الآخر لا يريد أن يكون الكردي بريء وخاصة الدول وحاشيتهم من المثقفين والسياسيين الرسميين يسعون دائماً لأن يكون هناك عدو أو شيطان يتم لعنته أو لإخفاء تخاذلهم وتجارتهم. حتى وصل الأمر بالكردي لو أنه حمل المصحف والقرآن والانجيل والتوراة وراح يحلف ويقسم بأغلظ الإيمان بأنهم ليسوا دعاة انفصال وتقسيم، لما صدقهم أحد ولزادة التهمة على أساس أنهم أي العرب مقتنعون بالقرآن وبقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ}. [القلم].
وبكل تأكيد أنه أشنع تهمة اتهم بها الكرد من قِبل العرب هي أنَّ “كردستان إسرائيل الثانية” إن هم فكروا بتحرير وطنهم، وكأن قمة وعد بلفور آخر سيتم اعطاءه للكرد لتشكيل دولتهم. حالة من الانحطاط الفكري والمعرفي بالتاريخ والجغرافيا كان وما زال معظم العرب يعيشونها، نتيجة الحقن بالأفكار العصبية القبلية العروبية والدينية المتطرفة والبعيدة كل البعد عن الحقيقة المجتمعية والثقافية لشعوب المنطقة.
متناسين أو كما يقول أخوتنا المصريين “بيستعبطوا” أن الكرد شعب أصيل في المنطقة وهو يعيش على أرضه منذ آلاف السنين وحتى قبل أن يتم استعراب المنطقة مع انتشار الدين الإسلامي. فالكرد عاشوا التطور التاريخي والطبقي والثقافي كما العرب وباقي شعوب المنطقة. فكانوا حوريين وجوتيين وميديين وكرد، وأسسوا العشرات من الامبراطوريات والامارات على مر التاريخ. وها هم الآن يقاومون من أجل نيل حريتهم وكرامتهم وما زالوا يعيشون على أرضهم كردستان، رغم المجازر وعمليات التهجير والصهر التي تقوم بها الأنظمة المحتلة لجغرافية كردستان.
ربما ونحن في نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة لم يتبقَ أي زخم للقضية الفلسطينية بعد ما نراه اليوم من قيام بعض الدول العربية وهم يولون وجههم شطر أولى القبلتين وثاني الحرمين ويوقعون معاهدات السلام مع إسرائيل. خمسة عقود مضت وكانت إسرائيل هي العدو الأول للأمة العربية والإسلامية. وكانت ايران صديقة لبعض الدول وعدوة لبعضها الآخر وكذلك كانت تركيا صديقة كل العرب والمسلمين وهي الانموذج الإسلامي والعلماني في المنطقة، وكان الزعماء يعِدّون العدة لرمي اليهود في البحر وتحرير الأرض. لكن العدو بات الآن صديقاً في فترة العقلانية التي نعيشها وتحولت إيران وتركيا للعدو رقم واحد في المنطقة.
عقد من الزمن والكرد يقاتلون ويقاومون ضد الاحتلال التركي إن كان في شمالي سوريا أو شمالي العراق في وقت لا حول ولا قوة لحكومة بغداد ولا دمشق في أن تفعل شيئاً أمام مساعي تركيا لاحتلال الشمالين. يحارب الكرد لوحدهم في حرب صامتة يقدمون فيها أغلى شبابهم وشاباتهم وذلك بالقضاء على داعش إن كان في سوريا وكذلك في العراق وخاصة جبال شنكال. ورغم ذلك ما زال معظم العرب متعامين أو لنقل قليلي الحيلة والبصيرة في رؤية ما يدور حولهم من معارك ومقاومة. تركيا التي عجزت عنها حكومة بغداد ودمشق في ايقافها ووضع حدٍ لانتهاكاتها وتدخلها في الدولتين، هاهم الكرد من قوات الكريلا وقوات سوريا الديمقراطية يلقنونها دروساً في المقاومة والاندحار والذل، كما ملحمة حفتانين الأخيرة.
حان الوقت على المثقفين والسياسيين العرب أن يدركوا بعضاً من الحقيقة في أن كردستان ليست إسرائيل الثانية، بل هي الخندق الأمامي للأمن القومي العربي الذي يبدأ من جبال طوروس أي “كردستان”، كما قال جمال حمدان المثقف الذي نفتقده لبعد نظره. وربما تكون بعض الأصوات من المثقفين والسياسيين العرب التي ظهرت مؤخراً هي بداية الغيث لتشكل ذاك النهر الجارف من اتحاد العرب والكرد ويقضوا على فاشية أردوغان وعربدته في المنطقة.
ولنعلم أن فلسطين لم تكن تلك القضية الكبيرة التي تم تضخيمها والتهويل لها كثيراً نظراً لما هو موجود على الأرض. فلسطين تبلغ مساحتها 27 ألف كم2 وعدد سكانها في الداخل والخارج 11 مليون حسب احصائيات 2013. ولكن كردستان التي تبلغ مساحتها نصف مليون كم2 وعدد سكانها من 45 – 50 مليون نسمة وفق احصائيات غير دقيقة طبعاً. بهذه المقارنة البسيطة ندرك أن الذي حدث هو تعويم القضية الفلسطينية كان على حساب القضية الكردية ليتم نسيانها طيلة القرن المنصرم. ورغم ما تم تقديمه للفلسطينيين من دعم مادي وعسكري من قبل العالم، نرى الآن إلى أين وصلت تلك القضية المحورية ولكن القضية الكردية ورغم محاربة العالم لها، إلا أنها رغماً عنهم وصلت لمرحلة تقرر مصير المنطقة وتوازناتها.
وبكل تأكيد أن وعد بلفور كان قاسياً على الفلسطينيين إلا أن وعد لوزان كان مميتاً بالنسبة للكرد. ولنا في النتيجة عبرة يا أولي الألباب.